الخميس، 2 أبريل 2015
الإسلام وتحول البنية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للمجتمع العربي الجديد
حسب روايات إسلامية( ) وغير إسلامية كان الوضع في مكة وفى مدن عربية أخرى قبل بدايات الحركة الإسلامية مهيأ لاستقبال " مخلص" جديد للناس من البؤس الاجتماعي والاقتتال القبلي و" الأوهام " الوثنية. فلدى مجموع القبائل العربية ، التي دخلت حياتها المسيحية قليلاً أو أكثر، توقع المرء مثل هذا" المرسل". وفي هذا الحقل أضفى المرء على هذا التوقع شغافاً أسطوريا متعدد الألوان والأشكال. وكذلك من الوجهة التاريخية كان وارداً أن يتكون ويتطور الأمل والطموح في مجيء مثل ذلك المحرر للقبائل المتشتتة المتصارعة. بل أكثر من ذلك، إذا وجد ذلك التوقع وذلك الطموح فعلاً، فأنهما برهان واضح على توتر الوضع الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي والفكري في مكة ومدن عربية أخرى في مطلع القرن السابع، هذا التوتر الذي أدى إلى تواجد العوامل الضرورية لنشوء وتبلور الحركة الإسلامية التي لعبت دوراً كبيراً في تغيير وتحويل البنى الاجتماعية والاقتصادية والقيمية للمجتمع العربي الجاهلي.
لقد تعرف " النبي محمد" (عاش 570حتى 632) على طبقة التجار والمرابين وعلى طبقة الرقيق والعوام الأحرار ونصف الأحرار عن كثب. فقد كان له قبل نشاطيته الإسلامية أربعين سنة من العمر، قضاها إلى حد كبير في قلب الأحداث الملكية . أن النضال الطبقي الاجتماعي بين الأغنياء والمفقرين ضمن القرشيين، الذين كان " الرسول" منهم- هذا النضال الذي تقنع بقناع العنجهية العصبية القبلية وبكثير من العادات والتقاليد البطريركية- والنضال بين مجموع سكان مكة والمدن العربية الأخرى، وكذلك المسار الحياتي المأساوي " للرسول" نفسه، أن هذا كله كون العوامل الحاسمة ( طبعاً هناك أسباب أخرى) لنشوء الحركة الإسلامية. لقد كانت هذه الحركة في نشوئها وتبلورها تعبيراً عن البؤس الاجتماعي العميق لأكثرية سكان الحجاز- وخصوصاً مكة-، وفي نفس الوقت احتجاجاً ضد هذا البؤس، وبالتالي" سلاحاً " لتجاوزه. أن الحركة الإسلامية قد عبرت في تلك الحقبة من وجودها عن البؤس المكثف لجماهير العوام الأحرار ونصف الأحرار والرقيق المكيين وغير المكيين على طريقتها الخاصة. أن هذه الطريقة الخاصة في التعبير، التي يحتل فيها الانسلاخ عن العالم المادي( الطبيعي والاجتماعي) مكاناً رئيسياً، لا تعني أبداً نفي النتائج العملية المباشرة والايجابية التي انعكست في حياة المعدمين، بل تعني نفي وجود ارتباط مباشرة بينها وبين المعطيات الاجتماعي والسياسية والاقتصادية التي كمنت وراء تكونها وتطورها. فهي – أي تلك الطريقة الخاصة في تمثل الأمور واستيعابها- ترجع التحول الكبير الذي حدث في بنى المجتمع العربي الجاهلي إلى عوامل خارقة ومفارقة. فاللحظة التاريخية تفقد هنا كيانها من خلال ذلك التصور اللاتاريخي.
وانه من الخطوة الجدية أن لا يستطيع الباحث تقصي وكشف تلك اللحظة التاريخية ، حيث يقع في متاهات المثالية الفلسفية الموضوعية أو في متاهات التصورات الغيبية. ولكن في حال انفلات الخط الأساسي للمسار التاريخي الحقيقي من يد الباحث في تاريخ الأديان والحضارات أو تعقد هذا الأمر بالنسبة إليه، يمكن ضبط هذا الخط ، بشكل مباشر ومتوسط ، من خلال النتائج العملية التي اتكأت عليها تلك الأديان والحضارات.
والحركة الإسلامية، كأية حركة دينية أخرى ، تضمنت – بالطبع ضمن أطر خاصة ونوعية- ذلك التقاطب بين كونها مرتبطة بنتائج عميقة في المجال الاجتماعي العملي وكونها تلحق المجتمع والطبيعة والإنسان بمحرك أو بمحركات مفارقة وخارقة. وهذا التقاطب كان شيئاً طبيعياً، كما كان في حينه أيضاً، نشوء الفلسفة المثالية الموضوعية (القائلة بوجود وعي أو عقل لا أنساني يوجد ويحرك العالم المادي) على يد أفلاطون شيئاً طبيعياً، نتيجة لتقسيم العمل الإنساني إلى جانب فكري وآخر يدوي في المجتمع الحضاري- الطبقي. فالإنسان في هذا المجتمع يحقق أشياء ومكتسبات هامة جداً على المستوى الاجتماعي – العملي. ولكنه – ضمن الأطر النظرية للمثالية الفلسفية الموضوعية وضمن التصور اللاهوتي الغيبي- يجتزئ هذه الأشياء، التي حققت، من إطارها الاجتماعي الحي ، ويلحقها بفعل مفارق خارق.
أن الانفصام في شخصية الإنسان في المجتمعات الطبقية لايبرز فقط عبر تصوراته الدينية وسلوكه العملي الضروري، وإنما أيضاً في أرائه تلك الفلسفية والجمالية والأخلاقية والاجتماعية ألخ....فهو يفكر أو يعتقد بشيء ما على نحو، ويمارس وجوده الحقيقي – العملي على نحو آخر. بالطبع ، ينبغي أن يتجسد في شخصية حد ما من التطابق بين الفكر والعمل .
ذلك لأن التصورات هذه أولاً : تفهم أصلاً عبر تلك العلاقات وانعكاساتها.
ثانياً: نشأت ضمن علاقة وثيقة مع عملية تشويه الواقع الحقيقي المادي بالنظر إليه كـ"تخرج" وهمي لشيء " غير" وهمي.
ونحن حيث نأخذ بعين الاعتبار واقع عدم وجود حدود لا تعبر بين العوام والرقيق، هذا الواقع الذي خلق، كما تبين لنا سابقاً، رابطة تضمان موضوعية عميقة بين هؤلاء،وحين نأخذ بالتالي بعين الاعتبار واقع الاحتجاج الواعي قليلاً أو كثراً من قبل أولئك المضطهدين(العوام والرقيق) ضد مضطهديهم ، أي ضد " الذي جمع ماله وعدده، بحسب أن ماله أخلده"( ). أقول، أن أخذنا بعين الاعتبار ذلك كله يؤدي بنا إلى التأكد على ضرورة كشف العلاقة بين ذلك الواقع وبين الحركة الإسلامية التي ابتدأت عام 610 وبقيت سرية مدى ثلاث سنوات، تحول بعدها " الرسول" إلى داعية علني. وعلى ضوء المعطيات التاريخية والاجتماعية لفترة نشوء وتبلور الحركة الإسلامية نجد العلاقة تلك قائمة على كون الحركة هذه تعبيراً مباشراً عن الواقع المزدوج ذاك ، أي التضامن بين العوام والرقيق من جهة ، واحتجاج هؤلاء ضد واقعهم البائس ومحاولة تجاوزه من جهة أخرى.
أن نزاع " الرسول" مع الملأ المكي حمل، بشكل متوسط وغير مباشر، مضموناً سياسياً واجتماعياً – اقتصادياً وفكرياً. وقد استطاع ( أي الرسول) كسب العبيد والعوام من خلال قدراته على إقناعهم المباشر بضرورة التمرد على" الملأ" المكي " الظالم" ومن خلال فكرة " وحدانية الإله"، التي تستوجب وجود رعية واحدة،" متساوية " أمام الله .
ولقد اتضح ذلك الطابع الاجتماعي – الاقتصادي والسياسي للنزاع بين العوامل والرقيق من طرف والملأ من طرف آخر من خلال ممارسة" الدعوة " المحمدية. كما أن عملية التمايز الاجتماعي بين الطبقات الملكية أخذت، في التطور اللاحق، تتسع وتكتسب طابعاً مسلحاً انفجاريا.أن التجار الكبار والمرابين في مكة – وقد كان أبو جهل ، عم الرسول، واحداً منهم – أخذوا يحسون بعمق متزايد وبحقد متأجج خط الرسول وأتباعه ضد مصالحهم الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية والحقوقية والدينية.
وفي الحقيقة ، أن هذا " الخطر" فهم ويفهم من قبل الباحثين المثاليين الفلسفيين والغيبيين من خلال المظهر فقط ، الذي اتخذه آنذاك ، أي من خلال الشكل الديني. وهم يرجعون ذلك الخطر إلى نشؤ فكرة " الإله الواحد" . ذلك لأن " الرسول" قد طرح على المكيين فكرة " الإله الواحد" بالتعارض مع " تعدد الآلهة" ، الذي ساد آنذاك؛ بالرغم من أن " الله" كان أحد الآلهة ، الذين أخذ المكيون بهم قبل دعوة الرسول( ) .
بيد أننا إذا استنطقنا المسألة علمياً عبر واقعها الاجتماعي والتاريخي العياني، فإننا سوف نصل إلى اليقين بأن الملأ المكي كافح ورفض فكرة " الإله الواحد" ورأى فيها خطراً محدقاً لأنه أنطلق، بالدرجة الأولى، من الدفاع عن مصالحة وامتيازاته الاجتماعية والمالية. فلقد وجد في مكة فعلاً عدة مئات من الآلهة والأصنام الصغيرة كانت تدر عليهم، بشكل دوري ومنتظم ، أموالاً طائلة من قبل العرب الوافدين إلى مكة لزيارة هذه الآلهة والأصنام وتقدم الصلوات والهدايا والقرابين لها . أن هذا يكشف بوضوح عن الطابع الاجتماعي الايجابي للحركة الإسلامية ، ويرى ، من ثم ، المضمون الحقيقي ، ولكن غير المباشر، للكفاح ضدها ووضع العراقيل الجسيمة على طريقها من قبل سادة الكعبة المتنفذين. ومما له حقاً في هذا المجال دلالة واضحة عميقة هو تسمية " الملأ" المكي أنصار " الرسول" بالأذنين والمحتقرين والأرذال، كما في قوله تعالى( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا..( ). أن نشاط " الرسول" الدعائي يمكن النظر إليه من خلال فترتين رئيسيتين، الأولى تبدأ مع دعوته السرية في عام 610 في مكة، وتمتد حتى " صلح الحديبية "عام 628. أما الفترة الثانية فأنها تبدأ مع هذا " الصلح" وتنتهي بوفاة " الرسول" عام 632. وبشكل عام يمكن القول بأن الفترة الأولى تتميز وتتحدد بكفاح " الرسول" وأنصاره " الأرذال" ضد الملأ المكي بشكل حازم وعنيف .
كذلك نجد المسلمين ( أي المحمديين) يقودون – وبطليعتهم الرسول – نزاعات ونضالات سلبية ومسلحة، في آن واحد، ضد الملأ المكي. وفي الحقيقة ، منذ هجرة " الرسول" وأصحاب المكيين إلى المدينة – يثرب – عام 622نجد ميزان القوى قد أخذ بالتغير لصالحهم، وأن لم يكن هذا التغير عميقاً بعد . إلا أنه مع تحقيق انكسار الملأ المكي التجاري- الربوي في معركة " بدر" عام 624، استطاعت الحركة الإسلامية أن تشق طريقاً واسعاً إلى قلوب "الفقراء والمساكين.." . فخلال وبعد هذه المعركة اتسعت مبادرة جماهير الأرقاء والعوام الأحرار ونصف الأحرار لسحق الملأ المكي، الذي أحس بعمق المخاطر الحقيقة " العملية" للحركة الإسلامية.
لقد رأى هذا الملأ ( التجار والمرابون) في مجيء تلك الجماهير المسحوقة إلى السلطة الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية " خرقاً للقوانين الطبيعية " وإيذانا باضمحلال " العالم"
( ولكن أي عالم؟ إنه عالمهم هم ، عالم البؤس والاستثمار). لذلك فأنهم وجهوا عملهم بشكل منسق وشامل باتجاه سحق هؤلاء " الدخلاء" على التاريخ . وفي سبيل تحقيق هذا الهدف جهز أولئك " القيمون على مسيرة التاريخ " حملة جديدة بقيادة أبي سفيان ضد " الخارجين على القانون" ، ضد القائمين على الحركة الإسلامية، بقيادة " الرسول" .
كانت هذه الحملة في " أحد" عام 625. لقد أظهرت معركة " أحد" أن المستغلين التجار والمرابين كانوا لا يزالون يتمتعون بقوى اقتصادية وحربية كبيرة. فقد استطاعوا كسر "المسلمين"، وبالتالي تقوية مواقعهم السابقة وخلق فوضى واضطراب في صفوف " الثائرين".
نتيجة للمعارك اللاحقة بين المعسكرين الطبقيين الرئيسيين، الملأ التجاري- الربوي في مكة من طرف والمضطهدين المسلمين الثائرين من طرف آخر، وعلى الأخص بعد معركة " الخندق" القاسية ، نشأت أوضاع جديدة مناسبة لعقد اتفاق بين الفريقين، كان، بشكل عام، لصالح التجار والمرابين المكيين . وقد وجد هذا صيغته الحقوقية والسياسية باتفاق الحديبية.
لقد كان للفتوحات الإسلامية لكثير من البلدان أثر كبير في توطيد ذلك الاتجاه . وبالطبع، فقد مكن له أيضاً أولئك الذين توافدوا على الإسلام ليس انطلاقاً من أرضية اجتماعية كادحة ، وإنما ، كما سبق وقلنا،لتفجير الإسلام الأصلي ، وبالتالي لتسخيره لمصالحهم الاجتماعية – الاقتصادية، التي عجزوا عن الاحتفاظ بها وتوطيدها في بقائهم خارجه ومقاومتهم له. ولا شك أن عثمان بن عفان كان قد ساهم بقوة في فتح الأبواب على مصراعيها أمام " الذي جمع ماله وعدده" وأمام " الذين يكنزون الذهب والفضة".لقد جاء في شرح « أبن أبي الحديد" لنهج البلاغة وعلى لسان المعتزلة، أن عثمان بن عفان قد " أوطأ بني أمية رقاب الناس وولاهم الولايات واقطعهم القطائع. وفتحت أرمينية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان... وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال». كما أن قصة الثائر الزاهد " أبي ذر الغفاري" في كفاحه ضد « الذين يكنزون والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله»، وعثمان بن عفان في طليعتهم ، هذه القصة معروفة في العديد من كتب التاريخ من كل الذي يرى طبيعة الحياة الاجتماعية آنذاك ، التي اتسمت بالتناقض بين مصالح الأكثرية الكادحة من سكان الدولة العربية – الإسلامية ومصالح الطبقة الجديدة- القديمة القائمة على امتصاص واستنزاف الجوانب الكفاحية التحريرية للحركة الإسلامية. لم يكن ذلك التاريخ فريداً في نوعه في التاريخ الاجتماعي ، بل يمكن تقصيه – طبعاً ضمن ظروف اجتماعية تاريخية مختلفة – في تاريخ الدين المسيحي. فهذا الدين ، بعد أن نشأ كحركة اجتماعية ودينية حاولت – على طريقها الخاصة – تحقيق طموح الفقراء والعبيد المسحوقين في الانعتاق من العبودية والبؤس ، وجد نفسه محاطاً بضغوط هائلة، مصدرها السادة المالكون، لتحويل طابعه ومجراه، بحيث يصبح أداة طيعة في أيديهم، يسحقون من خلالها وباسمها كل من يطمح للإنعتاق من سلطتهم الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
العبودية
أن التطور اللاحق للإسلام في " المدينة " والفتوحات العربية- الإسلامية لمختلف البلدان ، مثل سورية والعراق عام 638 ومصر عام 641، قد عمل على تحويل العلاقات الاجتماعية الطبقية في الجزيرة العربية والبلدان المفتوحة . ففي الجزيرة هذه تلاشت المجموعات القبلية البطريركية (الأبوية) شيئاً فشيئاً من خلال تكون المجتمع العربي- الإسلامي الموحد. وقد برز المبدأ النظري- الاجتماعي لهذا المجتمع من خلال الحديث: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. أن هذا المبدأ، الذي أكد عليه عمر بن الخطاب بوضوح في جملته الرائعة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً "، قد كثف الاتجاه الديموقراطي والمساواة ( سوف نرى لاحقاًً كيف دافع بن رشد وآخرون عن هذا المبدأ وكيف طوره في أبعاده الفلسفية). بيد أن المبدأ هذا لم يأخذ في الواقع مجراه إلا في فترات وجيزة من تاريخ الدولة الناشئة، وعلى الأخص في بداياتها؛ إلى جانب كونه لم يتحقق كاملاً في أي فترة من فترات الدولة، بحيث يخضع له مجموع المواطنين من أي عرق كانوا. فلقد استثنى العرب من الاسترقاق. وفي التطور اللاحق للمجتمع الجديد تشكلت وتطورت علاقات جديدة بين الأرقاء والأسياد، وذلك لصالح هؤلاء الأخيرين بالدرجة الأولى .كما أخذ مستوى العوام الأحرار ونصف الأحرار، وضمنهم الصناع اليدويون، بالتحسن بعض الشيء ونسبياً نتيجة اتساع الحركة الاقتصادية على نطاق الدولة الجديدة الكبيرة . وفي مجرى هذه العملية أخذت " الأرض" كما رأينا، تدخل نطاق الحياة الاقتصادية المعاشية؛ فنشأت خلال ذلك علاقات أرض إقطاعية.
إن المسألة الرق وتحريره شغلت مكاناً خاصاً في الإسلام. والحقيقة، أن الإسلام، من حيث هو حركة اجتماعية، لم يطمح- حتى في الفترات الأولى من نشوءه- في أن يزيل العبودية. لقد تحقق، ولا شك تحرير كبير للعبيد )الأرقاء، ولكن غير كامل. إن القرآن والحديث لم يحرماه قطعاً. وقد لاحظ هذا الواقع كثيرون من المؤرخين العرب والمستشرقين( ) لقد بقي الغزو سبباً واسعاً للاسترقاق. ففي عهد الرسول نفسه بقي هذا جارياً ومأخوذاً به: (وأصاب (ص) منهم- أي بني المصطلق- سبياً كبيراً في قسمة المسلمين)( ).
ولكن هذا التحرير بقي مع ذلك هاماً ويمثل، ضمن العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية آنذاك ، مكسباً ضخماً للتقدم الإنساني ولصالح المضطهدين. لقد طولب بمنع استرقاق المسلمين من أية أمة أو شعب كانوا، مما أدى إلى فتح باب كبير أمام العبيد ليحصلوا عبره على حريتهم وكرامتهم. وهذا، ولا شك ، من الأسباب العميقة والمباشرة التي كمنت وراء كون الناس (والعبيد على الأخص) أخذوا ((يدخلون في دين الله أفواجاً)).
بهذا الخصوص يخبرنا علي بن أبي طالب، كما جاء عند أبي داود والترمذي، أنه قد ((خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليم يقولون يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، وإنما هربوا من الرق (خط التشديد مني : ط. ت)، فقال ناس ردهم إليهم، فغضب صلى الله عليه وسلم من ذلك .. وأبى أن يردهم( ))). لم يكن هنالك تصور للمدى البعيد حول قضية تحرير الرقيق . إلا أن طبيعة الأحداث الاجتماعية والسياسية والحربية كانت آنذاك انفجارية ؛ بمعنى أن الإسلام ، كحركة اجتماعية ، اطلق عملية التحرير من عقالها ، وفتح بذلك باباً عملت الأحداث اللاحقة على إلا يوصد أبداً ، وعلى أن تتحقق انتصارات رائعة في حياة العرب والإنسانية.
لقد كان هنالك سبل عدة للحد من (( الاسترقاق )) . وإن درست هذه السبل بعمق ، فإن الباحث فيها سوف يصل إلى نتائج هامه تلقي أضواء على كيفية تغلغل الحركة الإسلامية الاجتماعية، في فترات عديدة من تطورها، في الشعوب التي أخضعت للحكم الجديد. من تلك السبل ان مثلاً منع استراقاق المسيحيين واليهود والآخرين المؤمنين بأديان قائمة على اله واحد. أما أن هذه الحركة قد فضلت ، عملياً ، العرب على الآخرين غير العرب ، فهذا لا يفقدها طابعها التحرري والثوري في التاريخ العربي . لقد كانت أعمق وأشمل حركة اجتماعية شهدتها الجزيرة العربية حتى القرن السابع وانعكست تأثيراتها في التطور اللاحق على مجمل الدولة الجديدة . أنها عملت على ادخال تحويلات هامه اجتماعية واقتصادية وفكرية في المنطقة ، وفتحت آفاقاً واسعة أمام عملية نشوء وتطور منطقة موحدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، أي أمام عملية نشوء وتطور علاقات انتاجية اجتماعية جديدة.
لقد سارت عملية الحد من الاسترقاق ، بعد نشوء الإسلام ، على قدم وساق. فالعرف الاجتماعي ، الذي خضع له الأطفال من أب حر وأم أمة (عبدة) في المجتمع الجاهلي البطريركي – القبلي – أزيل من قبل الإسلام . لقد كان على الأطفال من ذلك المنشأ الطبقي أن يبقوا – حسب ذلك العرف – أرقاء. ولقد اضعف هذا ((العرف)) في الحقيقة الوضع العائلي بشكل واضح إلى حد التمزق. ولا شك أن هذا تعبير عن حدة التناقضات الاجتماعية الطبقية في المجتمع الجاهلي القبلي . بيد أن الإسلام في الوقت الذي أزال فيه ذلك ((العرف)) ، فإنه استبقى امكانية استرقاق الأطفال من آباء أرقاء. إلى جانب هذا المصدر للاسترقاق ، بعد نشوء الإسلام ، كان الحصول على رقيق ممكناً من أسواق الرقيق (النخاسة) المنتشرة في الجزيرة العربية ، كما عن طريق شرائهم من بلدان أخرى.
هنا ينبغي أبراز الواقع التالي ، وهو أن أمكانية الحصول على رقيق عن طريق الأطفال من آباء أرقاء قد ضئلت شيئاً فشيئاً في التطور اللاحق للدولة العربية – الإسلامية، وبالضبط حي أدخل الأمويون تقليد (أخصاء). العبيد في الحياة العامة . لقد كان الهدف البعيد من هذا التقليد تخفيف التكاليف المادية التي ينفقها السيد على عبيده . ولكن ذلك أدى إلى الاقلال من أعداد الرقيق في بيوت وأسواق السادة . وهذا ما جعل هؤلاء الأخيرين يبحثون عن عبيد لهم في أسواق البلدان الأجنبية .
في اليونان العبودية كان سائداً أسلوب الافناء الجسدي للعبيد بشكل واسع، بحيث ساهم هذا بقوة في اهتزاز النظام الاجتماعي هناك. أما في الدولة الأموية وما قبل ذلك ، أي في بعض فترات حكم (الخلفاء الراشدين ) كعثمان بن عفان ، فقد كان (خصي) الرقيق الشكل الرئيسي الذي حد من أعدادهم في الدولة .
ولا شك أن هذا يلقي ضوءً على أحد خصائص الرقيق في الدولة العربية – الإسلامية الوسيطة : احتفاظهم بحق الحياة . وقد ظل الغزو أو الحرب الشكل الإساسي للاسترقاق ، أي تحويل ((الأحرار)) إلى (( رقيق )) . ولكن حتى أسرى الحرب الأحرار لم يكن دائماً من الضروري أن يسترقوا؛ فقد كان ممكناً أن يشتروا حريتهم بالمال أو بأشياء ثمينة. عدا هذا السبيل لاستبقاء على الحرية ، كان هنالك (( العتق )) سبيلاً آخر للتحرير ، أتى به الإسلام وألح عليه .
ففي حالات معينة كان على المسلم أن (( يعتق )) رقبة – عبداً - كـ(تكفير) عن خطيئة قام بها . لقد جاء ، بخصوص هذا ، في الحديث : (( من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل أرب منه أرباً منه في النار )) ؛ كما جاء في القرآن : (( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله( ) )) . وهنالك خطوة جدية أكد عليها الإسلام في بداياته ، وخصوصاً في عهد (( الرسول)) والخليفة عمر بن الخطاب ، وهي تخصيص مبلغ من المال من أموال ( بيت المال ) لتحرير الرقيق . أن هذه الخطوة قد تمت انسجاماً مع الخلفية التاريخية الاجتماعية للإسلام . فهو نشأ ، اجتماعياً ، كتعبير عن طموح الفئات المسحوقة في التحرر تحرراً تتحدد آفاقه وأبعاده ضمن أمكانات العصر آنذاك .
وهنالك نقطة مؤثرة ينبغي التعرض لها في هذه المسألة : أن طموح الفئات المسحوقة في التحرر من قيود الاملاق والعبودية كان من مميزات العصر ذاك . إلا أن هذا الطموح اصطدم بالأطر التاريخية العيانية ، التي لم تكن تحمل بعد في أحشائها أمكانية تحقيق ذلك الطموح . وفي الحقيقة ، نحن نجد أعمق تعبير عن هذا الطموح المشروع والعميق في تلك الحقبة التاريخية في كلمة عمر بن الخطاب المدينة لمالكي الرقيق والمرابين والتجار الأثرياء بشكل فاحش : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ).
أن مبدأ الحرية والمساواة ( الطبيعية ) بين الناس قد نادى به الإسلام ، وخصوصاً حتى العهد الخطابي ، ومن ثم من قبل الفلاسفة الآخذين بالمنحى المادي الإنساني ، مثل الفارابي وأبن رشد ، كما نادت به لاحقاً الثورة الفرنسية البوازية الكبرى 1789 . ولكن بينما تم ذلك في الإسلام في وقت كان يتأهب فيه المجتمع العربي – الإسلامي لتوطيد العلاقات الاجتماعية الاقطاعية ولغرس البذور التمهيدية الأولى للعلاقات الصناعية البورجوازية ، فإنه اكتسب أبعاده في فرنسا في القرن الثامن عشر في وقت كانت فيه العلاقات الاجتماعية الاقطاعية قد استنفدت مجموع امكانيات وجودها التاريخي ، واصبحت المسألة بالتالي تطرح نفسها بالحاح من خلال ثورة بورجوازية متميزة واضحة . ولذلك فإن المبدأ الخطابي في الحرية والمساواة لم يتحقق إلا بقد ما أتاحته امكانيات التطور والتقدم في إطار اقطاعي تجاري متضمن ملامح أو بذوراً أولية مبكرة لمجتمع بورجوازي صناعي. هذا لا يعني أن المبدأ ذاك كان سابقاً لأوانه ؛ ذلك لأن المساواة والحرية هما نتاج مجموع حقب التطور البشري . والعبودية ، وإن لم تزل من حياة المجتمع العربي – الإسلامي إلا بحدود ، فإنه كوفحت باشكال مختلفة وبدرجات متمايزة في حدتها . ولا شك أن المبدأ الخطابي ظل ، من حيث هو مطمح وحلم انساني عميق ، يمارس تاثيره ويعبئ جماهير المعدمين والعبيد سياسياً واخلاقياً.
أم المبدأ الفرنسي الثلاثي (حرية ، أخوة ، مساواة ) فقد أكتسب مضامينة الواقعية الممكنة ضمن الأطر الجديدة التي تحركت فيها الثورة البورجوازية . لا شك أن ( عبودية ) رأسمالية قد حلت محل عبودية اقطاعية فنية ؛ ولكن هذه نفسه يعتبر خطوة إلى أمام .
أن الأمر هذا بالغ الدلالة بالنسبة على التطورات اللاحقة في الدولة العربية – الإسلامية . فالحركات والانتفاضات ، التي وقفت وراءها جماهير العبيد والفلاحين والمعدمين – وخصوصاً تلك التي انضوت تحت اسم القرامطة والزنج – كانت تعبيراً عملياً عن مبدأ المساواة والحرية الخطابي ذاك . لقد فشلت تلك الانتفاضات والحركات نتيجة فشل التطور البورجوازي الصناعي واستيعابه لمطامحها ونتيجة اصطدامها بالقوة الاقطاعية ، التي رفضت – وهي التي رافقها الوجود الرقيقي – أن تعترف بحق المساواة حتى شكلياً . أن الأمويين قد رفضوا ، مثلاً ، المبدأ المحمدي الثوري الذي نادى بتحرير العبد حال دخوله الإسلام واعفاء المعدمين من الفلاحين من الضرائب المرهقة حال تبنيهم الإسلام ديناً لهم .
ولكن بالرغم من هذا فإن العبد في المجتمع العربي – الإسلامي أعتبر وعومل بالخط العام كانسان ، وليس كشيء( ) . بل أن هذا الواقع التاريخي للعبد يشكل سمة هامة من سمات ذلك المجتمع ؛ وأخذ هذه السمة بعين الاعتبار ضروري من أجل تفهم المجتمع العربي – الإسلامي تفهماً علمياً دقيقاً .
مع موجة الغزوات الإسلامية – العربية لبلاد فارس وبيزنطة ومصر بعد موت (الرسول) اتسع الاقتصاد النقدي واكتسب مواقع قوية في الدولة الجديدة الفتية . وعبر ذلك انطلقت حركة عاصفة للتبادل البضائعي . أما المكتسبات التكتيكية – العلمية والاقتصادية ، التي حققتها شعوب تلك البلدان في تاريخها المديد ، فقد تعهدت وطورت بشكل بارز من قبل الفاتحين ، وخصوصاً في مجال أنظمة السقاية . كما نشأت مدن جديدة ، مثل البصرة والكوفة .
في تيار هذه العملية انطلق اتجاه كبير وعميق للتمازج والتمثيل بين العرب وشعوب البلدان المختلفة ، وذلك في جميع المستويات التحتية والفوقية . أما العوامل التي كمنت من وراء ذلك ، فكانت كثيرة . ضمن هذه العوامل التمازج السكاني ؛ الذ تم – طبعاً عن طريق تاثيرات أخرى – من خلال اقتناء النساء الأجنبيات العديدات والتزوج بهن من قبل العرب ، بحيث تحولن إلى ( سراري ) لهؤلاء . ولقد لقي التسري تشجيعاً كبيراً في المجتمع الجديد ، المنفتح ، حتى أن (الرسول) قال في حديث له : (عليكم بالسراري فأنهن مباركات الأرحام)( ). كما قال عمر : ( ليس أكيس من أولاد السراري لأنهم يجمعون فصاحة العرب وعزها ، ودهاء العجم ( )).
لقد لمس المرء تاثير دور العبيد (الرقيق) في مجموع قطاعات المجتمع الجديد ، في جهاز الدولة في العلم والفن والأدب ، وفي الحياة العائلية ، وبشكل خاص في قطاع الانتاج المادي القاسي ، مثل بناء الخزانات المائية التابعة للدولة .
وعلى العموم يمكن القول بأن العبيد هناك برزوا كعمال مأجورين مياومين . غلا أنهم لم يعاملوا على التساوي . فقد ظهر نوع من التمييز (العنصري) في هذا المجال . ذلك أن (السود) ضمن العبيد ، الذي جلبوا من أفريقيا ، استخدموا بأجور قليلة ، عدا أنه لم يطمح فيهم – بشكل عام – إلا من أجل انجاز المهام القاسية التي تتطلب جهداً جسدياً خاصاً. بالعكس من ذلك ، احتل العبيد (البيض) ، وخصوصاً الاناث منهم ، مكاناً جيداً في الحياة العامة ، مع أن مبدأ ( الخصي ) للعبيد قد انتشر بشكل واسع ، وبشكل خاص في الحقبة العباسية . وقد مس هذا المبدأ جميع العبيد الذكور ، من أي عنصر كانوا . وقد اكتسبت هذا النمط من العلاقات الرقيقية أبعاده من خلال تطور وتوسع تجارة العبيد في الداخل ومع البلدان الأخرى ، وذلك قبل وبعد موجة الفتوحات الرئيسية ، أي حتى منتصف القرن السابع تقريباً.
والآن ، قد يبدو ، بعدما تقدم من معالجة لدور ( الرقيق ) في الفترات الأولى من نمو المجتمع العربي – الإسلامي ، أن المجتمع هذا كان – بشكل أساسي – مجتمع عبيد ، أي أنه قام – بشكل أساسي – على علاقات اجتماعية تتحدد من خلال وجود العبيد وسادتهم .
أننا في الوقت الذي نؤكد فيه على أن العبيد قد مارسوا في المجتمع ذاك دوراً هاماً ، فإن هذا لا يتضمن الاستنتاج التالي ، وهو أن أولئلك (أي العبيد) قد طبعوا المجتمع المغني ، من حيث هو كل ، بطابعهم الخاص . فلا في المجتمع القبلي (الجاهلي) ولا في المجتمع الجديد الكبير بعد الإسلام استطاعت العبودية أن تسم العلاقات الانتاجية الاجتماعية بشكل رئيسي يميعها .
ففي المجتمع الأولى – القبلي الجاهلي – سادت ، بشكل أساسي ، العلاقات البطريركية ، حيث مارس فيها سيد القبيلة أو جدها السلطة على مجموع افرادها . ضمن هذه العلاقات الاجتماعية لم تلعب الملكية الخاص للأرض دوراً ملحوظاً . فالأرض كلها كاتنت من أجل الجميع . بالطبع ، كان هذا يرجع إلى طبيعة الأرض المناخية الجيولوجية . ولا شك أنه كانت هناك حالات أخرى مارست فيها ملكية الارض دوراً معيناً في تكوين العلاقات الاجتماعية الانتاجية. وهذا وجد خصوصاً في المناطق القابلة للزراعة والمتضمنة بئر ماء مثلاً.
أن سيد القبيلة – أو جدها – كان يتمتع بامتيازات خاصة ، مثل توزيع الغنائم نتيجة حرب أو غزو ، عبيداً كانوا أو جمالاً أو خرافاً الخ.. ولكن تملك الأرض لم يأخذ طابعاً فردياً ، وأنما جماعياً . ونحن نرى بأنه من المفضل أصلاً ألا نتحدث عن وجود تملك للارض في المجتمع القبلي قبل الإسلام . فالأرض نفسها لم تطرح بعد كوسيلة أساسية من وسائل الإنتاج.
في ذلك المجتمع ظلت العبودية سائدة ، ولكن ليس كظاهرة (حاسمة) وأنما (مرافقة) ؛ وهذا بالرغم من أنها قد تطورت آنذاك بحجوم ملحوظة .
لقد انحلت العلاقات الاجتماعية البطريركية في المجتمع الجاهلي شيئاً فشيئاً من خلال علاقات جديدة أقطاعية متنامية بشكل متصاعد وبورجوازية مدينية أولية . وقد أخذت ملامح التحويل الاقطاعي تخط أبعادها حتى منذ المراحل الأولى من نشوء الإسلام . فقد كان أسرى الحرب ، الذين يهدون في المدينة إلى المحاربين المنتصرين ، ينشغلون في الزراعة البدائية كعمال مياومين . والأرض ، التي كانوا يعملون عليها ، لم تخصهم بطبيعة الحال ، بل بقيت ملكية خاصة بأسيادهم.
(هكذا نجد أن العبيد (الرقيق) قد اكتسبوا في مواقعهم الانتاجية حرية التحرك . فقد شكلوا جزءاً هاماً من الحياة الانتاجية الاجتماعية العامة . لم يكونوا فقط أداة البناء الحضاري ، كما كان الأمر بالنسبة على عبيد اليونان وروما القديمتين ، بل أنهم كانوا أيضاً ذوات مبدعة محترم حقها في الحياة ومنظور إليها – بشكل عام – بنوع من الود والإنسانية .
أن الكثيرين من باحثي تاريخنا ، عرباً كانوا أو أجانب ، يستبعدون دور العبيد في عملية بناء المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط . وهم أن تحدثوا عن ذلك ، فإنهم يصرونه على كونهم (أي العبيد ) لم يمثلوا أكثر من (خدم) منزليين أو ندماء لسادتهم . أن البحث فيهم ، من حيث هم ظاهرة اجتماعية انتاجية ، لا يتصدون له ، معتبرينه مغالاة في تحديد المشكلة أو انزلاقاً (ميكانيكياً) في البحث الاجتماعية .
الأرض.
والآن نحاول بحث وتقصي الملامح الأساسية العامة لمسألة الأرض وملكيتها في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط ، ذلك لأن هذا يساهم في ألقاء أضواء ساطعة على الإطار الاجتماعي الانتاجي الرئيسي لذلك المجتمع ، ويساعد – ولو بشكل غير مباشر – على رؤية الأبعاد الاجتماعية الحضارية التي تبلور في رحمها الفكر العربي – الإسلامي آنذاك .
لقد المحنا سابقاً أن مسألة الأرض وملكيتها أخذت ، مع نشوء الإسلام والقيام بالفتوحات لبلدان أجنبية ، تبرز وتحتل مكاناص هاماً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية العامة للمجتمع الجديد . ولقد ناوا الخليفة الكبير عمر بن الخطاب عملية اقطاع الأراضي للمحاربين والقواد العسكريين( ). ولكن في الفترات اللاحقة للمجتمع ذاك ، وبالعلاقة مع التأثيرات المتنامية لحركة الفتوحات ، تكون وتطور نظام جديد للأراضي في المناطق المختلفة للامبراطورية الجديدة . لقد تضمن هذا (النظام) الاشكال الرئيسية التالية :
أولاً – أرض الجزيرة العربية .
ثانياً – الأرض التي دخل أصحابها الإسلام ودفعوا ، انطلاقاً من ذلك ، ضريبة الزكاة فقط .
ثالثاً – الأرض التي احتفظ مالكوها بدينهم القديم وخضعوا للسلطة المركزية الجديدة ، ولكن دفعوا لها ضريبة الجزية والحراج .
رابعاً – الأرض التي فتحت وأخضع أصحابها بالقوة ، ودفعوا ضريبة الجزية والخراج – وقد كان وارداً أن يسترق هؤلاء بعد اخضاعهم .
خامساً – الأرض الموات أو التي ليس لها أصحاب .
أن الشكل الأول من الأراضي لم يكن ، بشكل عام ، ملكية خاصة . فلقد ملك الأرض هنا ، بشكل غير مباشر ، الخليفة ، الذي برز على أنه الممثل الروحي والدنيوي لمجموع السكان . أن هذه الارض (أرض الجزيرة العربية) وضعت تحت مراقبة مباشرة من الدولة وتعهدت من قبلها من حيث السقاية والزراعة . وفي سبيل ذلك استخدمت الدولة القوى العاملة الضرورية ، من عبيد وفلاحين ومهندسين . ولقد عومل الفلاحون والعبيد هنا كعمال مأجورين. أما محاصيل الأرض فكانت تلحق بيت المال . ومن هنا تنفق على المشاريع العديدة التي تقوم بها الدولة .
بيد أنه مع تسنم الأمويين السلطة عام 611 والعباسيين عام 750 ، أخذ اتجاه جديد في هذا المجال يفرض نفسه ، اتجاه قام على توزيع أراضي الجزيرة العربية نفسها ، بحيث لم تعد تعتبر هذه الأراضي ملكية تابعة للدولة فقط . وقد أخذ هذه الاتجاه يقوى ويحقق وتائر عالية في تطوره بشكر مواز لعملية أضعاف السلطة المركزية ، وخصوصاً في الدولة العباسي . أما توزيع الأرضي تلك فلم يتم لصالح الفلاحين والمعدمين ، وانما لصالح كبار موظفي الدولة وقوادها العسكريين. وذلك حسب مبدأ ( الاقطاع ).
والأمر يختلف بالنسبة إلى الشكل الثاني من (الأرض) . فأصحاب الأرض هنا تحولوا إلى مسلمين ، ومقابل هذا احتفظوا بها . وبطبيعة الحال ، فقد كان عليهم ، كما هو الأمر بالنسبة إلى العرب المسلمين ، أن يدفعوا (الزكاة) ، التي هي واحد من المبادئ الأساسية للأخذ بالإسلام . وقد جبيت من قبل موظفين رسميين ؛ إلا أنها لم تكتسب طابعاً قسرياً . أما كميتها فكانت في الأحوال العامة ، حسب (لانداو) في كتابه حول الإسلام والعرب( ) 2.5% من دخل المسلم ، الذي (أي الدخل) يتجاوز حداً معيناً .
هنا نجد أنه من الضروري الإشارة إلى أن مجموعات كبيرة من الفلاحين المعدمين قد دخلوا الإسلام بسبب أنهم ، طبقاً للشكل الثاني من تملك الأرض ، حرروا من دفع الضرائب على دخولهم اليسيرة . لقد وجدوا في الحركة الإسلامية تحررهم الاقتصادي والاجتماعي . فإلى جانب اعفائهم من الضرائب ، نظر إليهم كمسلمين متساوين مع غيرهم ( كأسنان المشط). لقد كان عمر بن الخطاب هو الذي أدخل مبدأ التحرير هذا كركيزة أساسية للسياسة العربية – الإسلامية العملية تجاه المضطهدين الفلاحين . ونحن سنشهد في التطور اللاحق خرقاً كبيراً لهذا المبدأ من قبل أكثرية الحكومات المتتالية .
أن ذلك المبدأ الخطابي ، الذي ساهم بشكل بارز في نشر مبادئ الحركة الإسلامية في أوساط واسعة من سكان البلدان المفتوحة ، وبالتالي في توسيع قاعدة التحرر الإنساني ، أثر (سلبياً) على موارد (بيت المال) ، الذي تحول إلى الخزانة الخاصة بالحكام وبطبقتهم الاجتماعية . وهذا ما دعى الأمويين – باستثناء الخليفة عمر بن عبد العزيز – إلى الغاء المبدأ ذاك ، بحيث توجب حتى على الذين يدخلون الإسلام دفع ضريبتي الخراج والجزية . إلا أنهم احتفظوا بحق تملكهم للأراضي الخاصة بهم .
وكنتيجة لذلك لم يعد من فرق بين الذين دخلوا الإسلام مجدداً والذين احتفظوا بدينهم الأصلي ، وذلك من حيث موقف الطبقة الاجتماعية السائدة من هؤلاء ومن أولئك . من هذا نخلص إلى نقطتين هامتين جداً :
الأولى : هي أنه قد تصبت جسور عريضة ومتينة بين الناس الذين لا يشاركون في السلطة الاقتصادية والسياسية ، أدت في المستقبل إلى تكوين جبهة ، أكثر الأحيان ، قوية مضادة للطبقة الحاكمة .
أما النقطة الثانية – وهي مكملة للأولى – فقد تركزت في انخفاض إعداد الطامحين من البؤساء والمضطهدين في الدخول في الإسلام . وبالنتيجة تكون شيئاً فشيئاً عداء ضد السلطة المركزية السائرة في طريق تعميق آفاق التطور الأقطاعي على مستوى الدولة.
هكذا أخذ الشكل الثالث من ملكية الارض يحتل أكثر فأكثر مكاناً هاماً . لقد ظل السكان الأصليون ، مالكو الأرض محتفظين ، تبعاً لذلك ، بدينهم وعقدوا معاهدات صلح مع الفاتحين ، في حين ظلت ملكية أراضيهم في حوذتهم . غلا أنه توجب عليهم دفع ضريبتي الخراج والجزيرة ، كما فعل مثلاً أهل نجران المسيحيون في الجزيرة العربية نفسها .
أما ما يخص الشكل الرابع من ملكية الأرض ، أي التي تبعت سكان بلد غير مسلم أخضع من قبل الفاتحين بالقوة ، فقد برزت حالتان رئيسيتان .
في الحالة الأولى نظرة إلى الأرض من ذلك النوع على أنها غنيمة حرب ، بحيث وزع أربعة أخماس منها على الفاتحين وأدخل الخمس الأخير ضمن عائدات بيت المال ، لقد أعطى (الرسول) مثالاً عملياً على هذه الحالة حين اخضعت المنطقة اليهودية (خيبر) لسلطة العرب – المسلمين .
أما في الحالة الثانية فقد حولت الأرض المفتوحة إلى ملكية عامة للدولة والمجتمع ، وذلك تحت مراقبة الحكومة المركزية . وقد ظل الملاك السابقون لهذه الأرض عليها ، ولكن بصفة عمال مستأجرين ، أو أنهم عقدوا اتفاقية مع ممثلي الحكومة المركزية يمكنهم حسبها البقاء على الأرض لقاء واجبات معينة يقدمونها للدولة . ونحن نستطيع أن نرى في الإجراءات التي قام بها الخليفة عمر بن الخطاب في سوريا مثلاً مثالاً نموذجياً على ما أوردناه.
أما بالنسبة إلى سماح السلطة المركزية بتملك بعض المناطق المفتوحة من قبل سكانها الأصليين ، فإن هذا يختلف من منطقة على أخرى ، وذلك حسب الواجبات التي ينجزها سكان هذه المناطق للسلطة المركزية .
وحسب المعطيات التاريخية العملية ، يمكن القول بأنه في الأشكال الثلاثة الأخيرة من تملك الأرض كان سكان المناطق المفتوحة معرضين لامكانية تحويلهم على رقيق .
وأخيراً نخلص إلى الشكل الأخير من تملك الارض ، الذي ساد في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط ، وهو الأرض الموات أو التي لا ملاك لها . أن الأرض من هذا النوع كانت أما صعبة الزراعة ، أو أن أصحابها ميتون. فبالنسبة إلى الأرض الموات ، أي الصعبة الزراعة ، فقد وضع المبدأ المحمدي: ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له ) . أما حين لم يكن مالك للأرض ، أو أن هذا قد قتل في حرب ما ، فقد أعطيت للمسلمين مع التقيد بالمبدأ التالي الذي روعي قليلاً أو كثيراً ، وهو أن المالك الجديد للأرض إذا لم يزرعها ويحييها ، بشكل عام، خلال ثلاث سنوات ، فإنها تنتزع منه وتعطى لآخر( ).
لقد أثارت قضية (الأرض) في الحركة الإسلامية كثيراً من المناقشات والدراسات. وقد تصدى لها فريقان رئيسيان : الأولى يحاول انتزاع اليقين من بعض الآيات القرآنية بأن الأرض ، حسب تلك الحركة ، لا تشكل ملكية خاصة ، بل عامة . أما الفريق الثاني فيحاول العكس ، أي أثبات أن الإسلام في مبادئة الاجتماعية – الاقتصادية ، قال بالملكية الخاصة للأرض.
ونحن نرى هنا ، على ضوء التفصيلات التي أتينا عليها فوق ، أن الحركة الإسلامية ، وخصوصاً في خطواتها المتأخرة ، قالت بالملكية الخاصة للارض ، وليس فقط بحق الاستمتاع بها ، وأن لم يأخذ بهذا الموقف جميع الخلفاء والشخصيات المرموقة آنذاك ، كعمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري .
والآن ، حين نحاول الوصول إلى بعض النتائج الأساسية المترتبة على علاقات التملك بالنسبة إلى الأرض ، وبالتالي بالنسبة إلى (الرقيق) من حيث هو موضوع تملك ، فإننا نواجه النقاط التالية :
أولاً – إن التطور الاجتماعي الطبقي للمجتمع العربي – الغسلامي حدد أكثر فأكثر
من خلال أسلوب الانتاج الاقطاعي ، وذلك بالغرم من وجود آفاق تطور رأسمالي صناعي مبتكر.
ثانياً – أن العبودية ، التي سادت في عصر الجاهلية البطريركي ، لم تزل لاحقاً بشكل جذري وشامل ، وإنما حد منها بأشكال واساليب مختلفة ومتعددة . والعبودية في إطار الدولة العربية – الإسلامية اكتسبت اشكالاً جديدة (فهناك العبودية المنزلية ، والعبودية القائمة على العمل المأجور في الزراعة وفي حقول السقاية ) . ولكنها لم تبلغ مبلغ التشكيلة المجتمعية الاقتصادية في الإطار ذاك ، أي أنها لم تتحول إلى (المؤشر) الاجتماعي الجوهري والحاسم . أما الذي استطاع تحقيق ذلك ، فقد كانت الاقطاعية . هذا يعني أن العبودية وجدت هنا ، في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط ، كما كان الحال في المجتمع الجاهلي البطريركي ، كظاهرة اجتماعية طبقية مرافقة .
ثالثاً – لم يستطع التطور الاجتماعي – الاقتصادي في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط إلا أن يمارس تاثيراً غير متساو في مناطق المجتمع المختلفة .
أن عدم الوحدة الاجتماعية – الاقتصادية في تلك المناطق ما هو إلا نسبي ، ذلك لأن المناطق المختلفة هذه ساد فيها اتجاه مشترك قام على تواجد وتطور علاقات اجتماعية اقطاعية ورقيقة ورأسمالية مبكرة .
رابعاً – أن هذا الاتجاه المشترك في التطور قد تكون وتطور وتصاعد بالتآخي مع الحركة التجارية الواسعة آنذاك بين مختلف مناطق الامبراطورية من جهة ، كما بين الامبراطورية ودول أخرى من جهة ثانية؛ كذلك بالتآخي مع نشوء وتطور سلطة مركزية قوية كثيراً أو قليلاً في الحقول الاقتصادية والسياسية والعسكرية في المدينة ، ثم في دمشق وفي بغداد وقرطبة . هذا على الرغم من أن تلك السلطة كانت تدخل شيئاً فشيئاً في حالة التمزق.
والملاحظ أنه نشأ وتطور تبادل بضائعي نشيط ومتعدد الجوانب بالعلاقة مع توسع الحركة التجارية في المنطقة . كما ارتبطت بذلك عملية ازدهار الاقتصاد النقدي.
تلخيص 5:
وفي الحقيقة ، هذا الاقتصاد النقدي الناشئ كون البذور الأولى للميل البورجوازي الصناعي الديموقراطي المبكر في المجتمع ذاك ، هذا الميل الذي وقف يعارض الأقطاع بأشكال مختلفة ، ومن ضمنها الشكل الاجتماعي والآخر الفكري الايديولوجي . ولكنه (ذلك الميل) بقي (ميلاً) ، ولم يكتسب طابع التشكيلة المجتمعية الحاسمة في الدولة تلك .لقد تمت تحت ظل السلطة الأموية خطوات هامة لتدعيم الاقتصاد النقدي ولخلق دولة موحدة نسبياً سياسياً واقتصادياً وثقافياً . في طليعة تلك الخطوات كان صك نقود جديدة على نطاق الدولة كلها ، وتحويل اللغة العربية إلى اللغة الرسمية الأساسية . وقد تحقق ذلك في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان (684-705) . ومع نهوض الاقتصادي النقدي ، وبالتالي نهوض التبادل البضائعي اكتسبت المدينة في الدولة العربية – الاسلامية أهمية متصاعدة من حيث هي مركز اقتصادي وثقافي مكثف . بيد أن المدينة استطاعت أن تتطور وتتوسع عمودياً وأفقياً من خلال الارتباط مع مقتضيات ومتطلبات الدفاع العسكري ضد أعداء الدولة الداخليين والخارجيين . ولنذكر هنا من تلك المدن ، على سبيل المثال ، دمشق وحمص والبصرة والكوفة . وقد أسست المدينتان الأخيرتان أصلاً كمدينتين عسكريتين في العراق ، بينما الاخريتان برزتا قبل الفتح العربي – الإسلامي كمركزين عسكريين بيزنطيين ، وظلتا محتفظتين بصفتهما هذه ، أي كونهما مركزين عسكريين ، بعد الفتح خلال عهد الخليفة عمر بن الخطاب .
أن المدينة أصبحت شيئاً فشيئاً الحامل الرئيسي للحضارة الجديدة الضخمة والمتعددة الآفاق . ومن الضروري الإشارة إلى أن ملاك الأرض الكبار ، الذين أخذوا تحت ظل السلطة الأموية يمارسون – إلى جانب قوى اجتماعية أخرى – تاثيراً حاسماً في الحياة الاجتماعية العامة ، ساهموا بشكل قوي في تطور المدينة . كذلك الملاك المتوسطون ساهموا في العملية تلك . والجدير بالذكر أن أماكن الإقامة لملاك الأرض الكبار والمتوسطين كانت المدينة ، وليس الريف ، . كما أن قسماً منهم عمل ، في نفس الوقت ، كتاجر وكمالك لمراكز صناعات حرفية . وعلى هذا الطريق ساهموا بشكل مباشر في تطوير الحياة الاقتصادية للمدينة .
من طرق آخر أتيحت للفلاحين الريفيين ، عبر التطور السريع للاقتصاد البضائعي السوقي، إمكانيات جديدة متنامية لتسويق وتوزيع منتجاتهم في المدينة . أن الفلاحين استطاعوا أن يبيعوا محصولاتهم في المدينة وأن يغطوا، من ناحية أخرى ، حاجاتهم من البضائع الاستهلاكية المعروضة فيها (في المدينة ).
لقد قام السوق المديني ، ضمن ما قام عليه ، على المنتجات الريفية الزراعية التابعة للمشاريع الخاصة ولمشاريع الدولة . والمدقق بالأمر يلاحظ أن هذا اللقاء بين المدينة والريف كان واحداً من الأسباب الأكثر أهمية للنهوض الحضاري الشامل في المجتمع العربي – الإسلامي ، وخصوصاً في المرحلة العباسية منه . ولكن عن ذلك نشأ وتطور واقع له أهميته الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية ، وهو الارتباط التاريخي بين الاتجاه الاجتماعي البورجوازي الأولي المبكر من طرف ، الذي حمل في أحشاء الاقتصادي النقدي ، وبين مصالح الأمراء والموظفين الكبار والوقاد العسكريين والسادة الإقطاعيين من طرف آخر .
وانسياقاً مع هذا الواقع التاريخي المثير نجد الصناع اليدويين المدينيين والتجار وأصحاب المصانع الأولية (أصحاب المانيفاكتورات) يتبعون في أنتاجهم الماطمح والحاجيات المختلفة للبلاط الخليفي وللعسكريين الآخذين بحياة الرفاة المدينية ولقصور الأمراء الكثر وموظفيهم وذوي الأعداء المتعاظمة . وهذا يلقي لنا ضوءاً على الحقيقة التاريخية التالية ، وهي أن الإرهاصات (أو الاتجاهات ) البورجوازية التي تواجدت آنذاك قد سقطت مع سقوط السلطة الإقطاعية العسكرية . وبالطبع ، نحن لا نرى في ذلك التواطؤ التاريخي بين الإرهاصات هذه والعلاقات الاجتماعية الإقطاعية المتينة العامل الوحيد في تلاشي آفاق تطور بورجوازية صناعية متميزة إلى حد كاف في المنطقة العربية – الإسلامية آنذاك ، وأن كنا نعتبره عاملاً جوهرياً في ذلك .
أن (النقد) ، من حيث هو معادل عام ، فرض نفسه في الحياة الاقتصادية العامة شيئاً فشيئاً. ولم يتم التبادل فقط على أساس الصيغة : بضاعة – نقد ، وإنما أيضاً حسب الصيغة : بضاعة – بضاعة . وقد دفع الفلاحون ضرائبهم المتوجبة عليهم تلقاء الدولة طوال الفترة الأموية وبدايات الفترة العباسية على شكل محصولات زراعية ينتجونها هم . بيد أن هذا الوضع تغير في القرن التاسع ، حيث (أن الضريبة المتوجبة للسلطة المركزية لقيت تحولاً واسعاً من المحصولات الزراعية على النقد)( ).
لقد اكتسبت (التبادل البضائعي ) حجوماً كبيرة بين الفلاحين في المدينة وفي الريف . وفي الحقيقة ، كان من نتائج ازدهار الاقتصاد النقدي السوقي ليس فقط التبادل الاقتصادي الواسع بين الريف والمدينة في الدولة العربية – الإسلامية ، وإنما أيضاً ( تبادلاً ) سياسياً مرموقاً . والانتفاضات الفلاحية العديدة ، التي اشتعلت طوال وجود هذه الدولة ، غذيت عن طريق تلك العلاقات الشاملة بين الريف والمدينة ، إلى جانب عوامل أخرى ساهمت في ذلك . لقد أخذ الإقطاعي يحتل شيئاً فشيئاً في الحقبة الأموية والحقبة العباسية – بشكل خاص – أهمية متعاظمة. فالضباط الكبار والقادة العسكريون كانوا ، في نفس الوقت ، مُلّاك أراضي وعقارات . ولكن ضمن هؤلاء الملاك في الحقبة الأموية نشأ وتبلور أكثر فأكثر تمايز في الوضع الاجتماعي ، بحيث يمكن الحديث عن فئة النبلاء العسكريين ذوي الامتيازات من طرف ، وفئة الملاك الإقطاعيين من طرف آخر . أما الفئة الأولى فقد تكونت من العرب ، بينما الثانية من عرب وغير عرب .
وقد حدث في أحيان كثيرة أن كافأت الحكومة المركزية ضباطاً وقواداً عسكريين من أصل عربي على انتصاراتهم بـ ( قاطاعهم ) قطع ارض خصبة كثيراً أو قليلاً ، أو ولاية من ولايات الدولة أو أحدى مناطقها . ولكن الضباط والقواد العسكريين استطاعوا الحصول على تلك ( الهبات ) و ( المكافآت ) بعد أن تعهدوا بدفع كمية محددة من النقد للحكومة المركزية وخلال فترة زمنية محددة أيضاً من قبل الفريقين ، الحكومة المركزية من طرف والقواد والمريدين من طرف آخر . وقد أستملك هؤلاء المساحات الواسعة من الأراضي الخصبة في العراق ومصر الخ .. وبالرغم من أن استملاهم في الجزيرة العربية لم يكن واسعاً ، بسبب الوضع الخاص لأراضي الجزيرة العربية (انظر ما ذكرناه سابقاً حول قضية الأرض ) ، فإنه – وخصوصاً منذ العهد الأموي – أصبح مألوفاً . حول ذلك يخبرنا الطبري في (تاريخه) . فهو يكتب لنا عن أساليب تملك واستغلال مثل هذه المساحات الكبيرة من الأرض في العهد الأموي .
أن الاضطهاد الاجتماعي والسياسي لفئات من مصدر غير عربي أزداد في عصر الأمويين بشكل طردي مع عملية تعميق وتوسيع العلاقات الإقطاعية الانفصالية في الدولة العربية – الإسلامية . ففي بعض مناطق الدولة الضخمة والمتعاظمة نشبت انتفاضات مسلحة ضد السياسة الضرائبية التي مارسها الأمويون ، مثل الانتفاضة التركية في آسيا الوسطى عام 73 هجرية . ذلك لأن الأمويين مارسوا ضغطوا سياسية واقتصادية ضد الفئات غير العربية كما تخلوا عن أهم المبادئ الاجتماعية التي دافع عنها (الرسول ) وعمر بن الخطاب ، وهو إعفاء الناس غير العرب والذين يدخلون الإسلام من جميع الضرائب ، ما عدا (الزكاة) . وقد برزت أهمية هذا (التخلي) خصوصاً في أوساط الفلاحين والأرقاء . والجدير بالملاحظة أن معاوية بن أبي سفيان (661-679) ، الخليفة الأموي البارز ، أحس بالمخاوف التي يشكلها مواطنو الدولة العربية – الإسلامية غير العرب ضد هذه الدولة . وحول هذا يخبرنا ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) : ( أن معاوية قال : أني رأيت هذه الحمراء (يقصد الفئات غير العربية في الدولة) قد كثرت .. وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطراً ، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق)( ).
أن السلطة الأموية مثلت في حينها بنية ارستقراطية قبلية وعسكرية . في أطار هذه السلطة تلاشى الاتجاه الديمقراطي ، الذي طره الإسلام ، وحلت محله سلطة سلالة ذات امتيازات اقتصادية وسياسية وعسكرية . وقد تركز اتجاه الأمويين العام تلقاء المواطنين غير العرب والخليطين ، سواء كانوا عبيداً أو موالي أو أحراراً من الفرحين وغيرهم ، على الاحتفاظ لأنفسهم بالمواقع الرئيسية في جهاز الدولة والجيش ، بينما تركوا للآخرين شؤون الزراعة والصناعات الحرفية والعلم والفن . وقد برز الصائع اليدوي والعبد العامل في حقل الصناعة اليدوية كـ (فنانين).
في ذلك الواقع لم يعبر فقط عن وجه آخر من وجوه قطاع الحرف اليدوية وقطاع العبيد في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط تجاه العمل الجدي المرهق والمهين حتى العظم الذي قام به عبيد وحرفيو أثينا وروما قديماً ، وإنما نجد فيه (في الواقع ذاك) واحداً من المبررات الجوهرية التي دعت إلى تضامن تلك الفئات (العبيد والحرفيين الفقراء والفلاحين المعدمين) وكفاحها ضد الارستقراطية الإقطاعية . وقد انضم إلى تلك الفصائل العوام والفقراء ضمن العرب.
أن الاتجاه الأموي الذي قام على الاضطهاد القومي والاجتماعي للشعوب المنضوية تحت لواء الدولة وللفقراء والمعدمين ضمن العرب ، خلق أساساً واسعاً لانتفاضة أولئك ومقاومتهم للسلطة المركزية . والملاحظ أن نتائج تلك الانتفاضة والمقاومة قد استغلت أكثر الأحيان من قبل الإقطاعيين ضمن تلك الشعوب . بالعلاقة مع ذلك الواقع المعقد وجدت الحركة المسماة بـ(الشعوبية) أرضاً خصبة . لقد رفعت (الشعوبية) شعاراً من قبل الفرس بشكل خاص يحاولون ، من خلاله ، التأكيد على أن الشعوب (والمقصود هنا الشعب العربي والشعب الفارسي) متساوية ، وأن ( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) . والحقيقة ، أن الطبقة الإقطاعية الفارسية هي التي غذت تلك الحركة ، هادفة من ذلك إلى وضع أنفسهم في موقع مساواة مع العرب الذين أطاحوا بهم . مع العلم أن الطبعة الارستوقراطية الإقطاعية الفارسية كانت تدعي ، قبل نشوء الإسلام واخضاعة فارس للدولة العربية – الإسلامية الجديدة ، بأنها لاشعب المختار الممتاز من سائر الشعوب . وقد وجدت هذه الطبقة الاقطاعية الفارسية المغلوبة أرضاً خصبة لدعاوتها ضد العرب بشكل عام ، متسترة في ذلك بشعار المساواة بين العربي والأعجمي ، وذلك في الاتجاه المماثل الذي نشأ من السلطة الإقطاعية الارستوقراطية العربية . فليس من النادر أن نعثر على هذا الاتجاه في نصوص لممثلين له مرموقين وغير مرموقين ضمن سادة الحقبة الأموية ، بل وما قبل وما بعد هذه الحقبة . فمعاوية بن أبي سفيان مثلاً قال : (أن الله اختاركم (المقصود هم العرب) من الناس وصفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها).
أن تلك الحركة الشعوبية بإطرافها العديدين ، استغلت لاحقاً من قبل العباسيين إلى حد بعيد ، بحيث توصلوا ، كما سنرى ، إلى السلطة بمساعدة أدعياء المساواة ، الإقطاعيين الساسانيين ، وبمساعدة المعدمين من العبيد والفلاحين الأعاجم والعرب الذي أصيبوا بهام العنصرية الأموية.
لقد تم أثناء إسقاط الأمويين من الحكم في عام 750هـ نتيجة أسباب اجتماعية واقتصادية مرافقة بعوامل قومية (شعوبية) ، كما نتيجة النزاعات العنيفة التي أثارها المتنفيذون الأمويون أنفسهم ضمن العرب ، هذه النزاعات التي أسفرت عن طابع قبلي (جاهلي) محموم – لأن أولئك توخوا من إشعال هذه النزاعات بين عرب الشمال وعرب الجنوب من الجزيرة العربية تدعيماً لمواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الآخذة بالتدهور. أن الظواهر الشعوبية (بمعنى القومية) ، التي ساهمت في إسقاط الحكم الأموي، اكتسبت في الحقبة العباسية الجديدة وزناً في التاثير على الأحداث آنذاك.
وخلال الفترة الطويلة التي حكم خلالها الأمويون ، وتمتد أكثر من قرن ، كان الاتجاه قائماً لتوطيد العلاقات الاجتماعية الإقطاعية ، وذلك بالتعارض مع (المركزية) في السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، هذه المركزية التي ساهم في توطيدها الأجزاء الذي قام به الخليفة عبد الملك بن مروان ، وهو مسح شامل لأراضي الدولة . إلى جانب هذا (المسح) ساهم ، كما أبرزنا مراراً ، الاقتصاد النقدي في توطيد (المركزية) المناوئة للتفتيت الإقطاعي ؛ وكذلك التجارة ذات الحجوم الضخمة والممتدة آفاقها من البحر الجنوبي حتى القوقاز ، ومن البحر الاطلانطيقي حتى الهند والصين وتركستان ، وحتى انكلترا أيضاً . والأسطول العربي الأول ، الذي أنشأه معاوية ، لم يخدم أغراضاً عسكرية فقط ، وإنما ساهم في تعميق حركة التجارة تلك .
إن هذه الأمور مجتمعة عملت على توطيد (المركزية) في الدولة العربية – الاسلامية : وبالتالي على الكفاح ضد (الاقطاع) . ولذا فيمكن اعتبارها، ضمن اطارها الاجتماعي التاريخي ، مظاهر للارهاصات البورجوازية الصناعية المبكرة ، التي سبق وتكلمنا عنها.
كان سقوط الأمويين فقد تم على يد العباسيين . إلا أن هؤلاء الأخيرين لم يستطيعوا ذلك إلا بعد أن كسبوا إلى صفهم جموع الفئات غير العربية ، والفلاحين والعبيد المستثمرين من قبل الدولة ، والعوام المدنيين الذين لا يملكون ، وأخيراً الشيعة والخوارج الثائرين على بني أمية . ولقد أظهرت الأحداث اللاحقة أن العباسيين لم ينشدوا مساعدة تلك الجموع من الفئات السياسية وغير السياسية المضطهدة إلا من أجل سحق الأمويين ليحلوا محلهم في السلطة ، وليس بغرض تحرير تلك الجموع.
وكما هو معروف ، كون (البرامكة) الفارسيون أحدى الحلقات الرئيسية الاساسية في عملية انجاح وصول العباسيين إلى السلطة ، حيث شكل هذان الفريقان نوعاً من التحالف المصلحي الطبقي. ولا شك أن كلاً من هذين الأخيرين كان ينطوي على مطامح خاصة ، أدت لاحقاً إلى خلق تعارض ، ثم صراع بين الفريقين المومى إليهما . وقد تم هذا فعلاً عام 813 ، حيث بدا البعاسيون بهجوم عنيف على البرامكة ، حلفائهم السابقين . بيد أنه علينا هنا الإشارة إلى محذور أساسي ، أوقع في شراكة مجموعة ضخمة من الباحثين العرب والأجانب ، وهو أن النزاع والصراع الدموي الذي نشب بين العباسيين والبرامكة الفارسيين لم يكن أبداً بين العرب والفارسيين عموماً ، كما توهمنا بذلك الأعداد الضخمة من كتب التاريخ ، بل أنه كان فعلاً بين طبقتين أقطاعيتين في المجتمع العربي – الاسلامي وفي فارس.
أما الفلاحون المعدمون والعبيد التابعون للدولة والعوام المدينيون ضمن الأعاجم والعرب على حد سواء ، الذين ساهموا بشكل حاسم في كسب المعركة ضد الأمويين ، فقد وجدوا أنفسهم في وضع اجتماعي – اقتصادي مماثل ، في الخط العام ، للوضع السابق عليه . فلم تمض خمس سنوات على تاسيس السلطة العباسية ، أي في عام 755 ، حتى اشتعلت الانتفاضة الفارسية المسماة بـ ( زمباس ) ضد هذه السلطة.
لقد أخذ تطور الاقتصاد والثقافة في ظل السلطة العباسية يكتسب آفاقاً جديدة واسعة خصوصاً في عهد هارون الرشيد (786-809) والمأمون (833-813) ، وذلك بالعلاقة مع تخفيض نسبي للضرائب المتوجبة على الفلاحين ، ومع أقامة أنظمة سقاية ذات حجوم ونوعيات عالية، وكذلك بالعلاقة مع استصلاح واستغلال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية.
أما التطور السريع والفني للعلوم الطبيعية والتجريبية ، كعلم الميكانيك (الحيل ) والكيمياء والحيوان والنبات والفلك ، فقد ساهم بشكل ملحوظ في تكوين ذلك الازدهار الشامل . أن البنية الاجتماعية الأموية السابقة (الأحادية) الجانب و (المغلقة) أزيلت هنا من خلال بنية اجتماعية (مختلفة) طبقياً ومتعددة الجوانب ومنفتحة عالمياً. والموالي شاركوا ، ضمن إطار هذه البنية العباسية ، ليس فقط في الشؤون الاقتصادية ، وإنما أيضاً في تلك ، السياسية والعسكرية للدولة. وبتعبير أدق يمكن القول بأن المملكة العباسية ضمت في شرايينها النبلاء الاقطاعيين والتجار الكبار وأرباب البنوك ضمن مختلف الشعوب التي أنضوت تحت لوائها. أما الارهاصات ، وربما يمكننا القول ، الاندفاعات البورجوازية القوية المبكرة ، التي احتواها تطور الانتاج البضائعي والاقتصاد النقدي ، فإنها استطاعت فرض نفسها في كل مكان انبثقت فيه وتأججت شعلة الكفاح الواعي قليلاً أو كثيراً ضد عمليات الانفصال والتمزق في جسد الدولة. أي أن تلك الاندفاعات فرضت نفسها إلى حد بعيد ، حيثما نشأت وتطورت علاقات بضائعية نقدية بين السوق المحلي والسلطة المركزية في داخل الدولة ، كما بين الدولة وأسواق أجنبية ، مثل الهند وروسيا . ولا شك أن هذا كان قد اقتضى وجود رأسمال تجاري مارس إلى جانب عوامل أخرى دوراً حاسماً في الحياة الاقتصادية.
بيد أن تلك الاندفاعات البورجوازية القوية لم تكتسب طابعاً متميزاً مستقلاً وشاملاً إلى حد كاف . وقد ساهمت في تكوين هذا الوضع طبيعة عملية نشوء وتطور هذه الاندفاعات ، هذه العملية التي تميزت ، كما سبق ورأينا ، بتواطؤها التاريخي مع مصالح النخبة الاقطاعية الارستوقراطية العسكرية المسيطرة على الأجهزة العليا في الدولة وعلى الحياة الاقتصادية الزراعية بشكل خصا.
ولقد حاول النبلاء الاقطاعيون في الشعوب المختلفة للدولة دائماً أثارة الوهم بأن كفاحهم ومنافستهم مع السلطة المركزية في هذه الدولة ما هو إلا كفاح فلاحيهم وصناعهم اليدويين وعوامهم الفقراء وعبيدهم ضد السلطة هيذه، وذلك دفاعاً عن حقوقهم (أي حقوق أولئك الفلاحين الخ..) المهضومة. والنبلاء الاقطاعيون أولئك كانوا يهدفون من ذلك أكساب محاولاتهم في الانفصال والاستقال عن الدولة المركزية طابعاً مشروعاً. وكمثال على هذا نستطيع ذكر النضال الذي نشب بين النبلاء الاقطاعيين الفارسيين ، وبطليعتهم البرامكة ، من جهة والسلطة المركزية للدولة من جهة أخرى ، هذا النضال الذي أدى إلى نزع السلطة من البرامكة وتجريدهم من كثير من امتيازاتهم . ولكن في نفس الوقت نشبت انتفاضات عديدة للفلاحين والعبيد في مختلف المناطق والدويلات التابعة للدولة ضد الاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي الذي مارسه ضدهم الأمراء والقادة المحليون ، الممثلون للخلافة . لقد كان لأولئك الفلاحين والعبيد مطالب اجتماعية واقتصادية لم يستجب لها الأمراء والقواد المشار إليهم.
ومن خلال الانتفاضات الثورية الكثيرة والمتتالية للفلاحين والعبيد والعوام ضد السياسة الضرائبية للسلطة المركزية الممثلة بأعوانها الأمراء المتنفذين في مناطق الدولة المختلفة (ومن الجدير بالذكر أن هذه السياسة الضرائبية لم تنفذ على نحو واحد ومتساو في تلك المناطق ؛ وسبب ذلك يعود إلى الظروف السياسية والاقتصادية المتمايزة في الاقطار المتمايزة في تطورها وإلى علاقات الأمراء المتنفذين بالسلطة المركزية) ، وكذلك من خلال نوازع الاستقال والانفصال لدى الأمراء والقادة عن السلطة المركزية وتحقيق ذلك في مناطق مختلفة من الدولة( ) ، وأخيراً من خلال أضعاف السلطة المركزية في بغداد نتيجة النزاعات ضمن هذه السلطة التي اشتعلت بين العرب والفرس والأتراك الخ.. من خلال ذلك كله وضعت صعوبات جدية وضخمة على طريق تطور الانتاج البضائعي وتسويقه على مستوى مناطق الدولة بمجموعها.
وقد حاولت السلطة المركزية أن تحد ، لصالحها ، من اتجاه التمزق والانفصال ذاك . لقد توجب عليها أن تكافح ، في آن واحد ، ضد العصاة والمتمردين من ممثليها الأمراء والحكام في المناطق العديدة ، وضد الحركات الثورة الفلاحية والرقيقية . ومن أجل ذلك استخدمت السلطة المركزية محاربين مأجورين من المدينة والريف – وضمن هؤلاء الكثير من العوام الفقراء والأرقاء والفلاحين الذي لا ملكية لهم . ومنذ خلافة المعتصم (833-842) مروراً بالواثق (842-847) والمتوكل (847-861) أرغمت السلطة المركزية على دخول معارك مستمرة ، وأكثر الأحيان يائسة ضد المتمردين من كل نوع .
وقد قدم لنا تاريخ تلك الفترة العصبية أمثلة حية من الحركات الثورية ، التي قام بها العبيد والفلاحون المسحوقون ، ولا شك أن الحركة القرمطية والحركة التي قام بها الزنوج في البصرة تقفان في طليعة تلك الأمثلة.
من ناحية أخرى ينبغي أن نشير إلى أن اتجاه التمزق إلى دويلات في فتراته المتأخرة قد أدى – آخذين بالطبع بعين الاعتبار التقدم الذي تم حتى ذلك الحين في حقلي الاقتصاد والتكتيك = إلى أن تنشأ بعض الدويلات التي ازدهر فيها الاقتصاد النقدي والتجارة والزراعة بشكل ملحوظ ، كما كان الأمر مثلاً في مصر أيام الطولونيين (من 868 حتى 950) وفي أسبانيا الأموية. في هذه الدويلات تكونت أسواق مستقلة نسبياً عن سوق الامبراطورية الشامل وحياة سياسية وثقافية متطورة.
بيد أن التمزق الاقطاعي المتنامي للدولة العربية – الاسلامية حد على العموم وأكثر فأكثر من أمكانيات التبادل البضائعي على مستوى الدولة هذه ، وجلب معه بالتالي نتائج سلبية بالنسبة إلى الدويلات والقاطعات من حيث هي منفردة . على ذلك النحو أخذت الخلافة تعاني أكثر فأكثر من صعوبات سياسية واقتصادية وحربية . وقد رافق ذلك تغيير مستمر في الأسر الحاكمة في بغداد . وأن كان ممكناً في القرنين التاسع والعاشر أن تنشأ وتتطور مراكز تجارية وثقافية عملاقة ، فقد اصبح هذا فيما بعد غير وارد . كما أن العلاقات الاقتصادية بين المناطق المختلفة للدولة أضعفت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بشكل قوي ؛ والنزاعات اللاحقة بين تلك المناطق قادت إلى الخراب الاقتصادي . أما الارهاصات والاندفاعات البورجوازية القوية في إطار القوى المنتجة فقد أصابها ضمور وأزمة من خلال أضعاف السوق التجارية الشاملة والتبادل البضائعي ومن خلال العصيانات ذات النزعات الانفصالية، والحركات الثورية الفلاحية والرقيقة الأصلية.
وقد عمل التمزق الاقطاعي للمجتمع وإزالة وحدته السياسية والاقتصادية والجمركية النسبية على تسهيل عملية تكون الحرف المنزلية البدائية ، كالغزل ، واتداد اقتصاد الدولة العام إلى الزراعة البدائية المتخلفة بقوى انتاج وعلاقات انتاج فنية خاملة.
وحين حاول الخليفة الناصر (1180-1225) يائساً (لملمة) الخلافة وإعادة وحدتها ، كان العصر قد أستنفد آفاق مثل هذه المحاولة . فالمنغول وقفوا ، وفي مقدمتهم هولاكو ، في بغداد بقبضتهم المدمرة . فقضوا بحقد ووحشية على ما تبقى من معالم الحياة الاقتصادية والثقافية والصناعية . وكان ذلك خطاً فاصلاً بين عالمين (مجتمعين) ، كان آخرهما تكثيفاً لحياة اقتصادية وسياسية وفكرية اقطاعية متخلفة حتى الأعماق.
أثناء موجة الفتوحات الخارجية اخضعت في عهد الامويين أسبانيا – ما عدا المنطقة الجبلية أستوريا – من قبل العرب ما بين 711 و 718 . بيد أنه بعد سقوط السلطة الأموية في دمشق عام 750 هرب الأموي عبدالرحمن الأول إلى أسبانيا ، وأسس هناك في عام 756 أمارة قرطبة.
لقد كانت أسبانيا منذ القرن الخامس تحت قبضة القوط الغربيين . وفي القرن السادس سقطت أسبانيا الجنوبية على أيدي البيزنطيين . بيد أنه خلال سيطرة القوط الغربيين كان ( الاقطاع ) قد تحول إلى المؤشر الجوهري الحاسم في العلاقات الاجتماعية للمجتمع الاسباني . وقد سقطت مملكة القوط الغربيين في القرن السادس تحت ضغط الانتفاضات الفلاحية واتجاهات التمزق والانفصال الاقطاعي.
والآن ، أن كان العرب قد استطاعوا أخضاع أسبانيا الاقطاعية المتداعية في خلال سنتين ، فإن هذا ا يجد تفسيره فقط ي التمزق والضعف السياسيين والاقتصاديين للبلد ، وإنما أيضاً – وهذا له دلالته الكبيرة – في ( البديل ) الذي قدمه العرب الفاتحون للاسبان ، وهو حضارة غنية عملاقة وانسانية على وجه العموم.
أن أهم شيء قام به العرب هناك كان :
1- انتزاع مساحات أرض خصبة واسعة من الملاك الكبار المحليين وتقسيمها على الاقنان المسحوقين والذين لا ملكية لهم ؛ .
2- تخفيض الضرائب التي توجب على الفلاحين والعوام الأحرار وأنصاف الأحرار دفعها للدولة.
وبما أن الدخول في الإسلام كان يعني بالنسبة إلى العبيد والأحرار المعدمين ضمن الفلاحين والعوام المدينيين تحريرهم من الضرائب (ومن الزكاة أيضاً ، لأن دخولهم المعاشية كانت منخفضة ) والعبودية ، فقد دخل فعلاً فيه ، أي في دين الفاتحين ، أعداد ضخمة من أولئك البؤساء. كذلك الآخرون الآخذون بدين توحيدي ، أي أهل الكتاب من مسيحيين ويهود ، استطاعوا الاحتفاظ بدينهم والعيش باطمئنان ضمن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجديدة . بيد أنه توجب عليهم دفع ضريبة (الجزية) للدولة المركزية ، وذلك مقدار دينار ذهبي واحد في السنة عن الرأس الواحد من الرجال ، أما النساء والصبيان فلا( ).
أن هذا يري أن العرب الفاتحين قد عموا ، من خلال خطواتهم الهامة تلك ، على تغيير العلاقات الاجتماعية الاقطاعية تلك وهزها واضعاف العبودية ، وإن لم يعملوا على إزالة هاتين الظاهرتين الاجتماعيتين بشكل نهائي . هذا إلى جانب ومن خلال قيامهم ببناء مجتمع جديد قائم على تجارة منفتحة على العالم واقتصاد نقدي متقدم . وهذا يفسر لنا كون العرب الفاتحين لم ينظر إليهم من قبل جماهير الاقنان والعوام الأحرار ونصف الأحرار والعبيد كغزاة ، بكل كمحررين ، بالمعنى الدقيق للكلمة . وقد عبر ذلك عن نفسه فكرياً ذهنياً من خلال التسامح العميق الذي أبداه العرب المسلمون تجاه المسيحيين واليهود الاسبان . فمما يذكر أن المدن الرئيسية قرطبة وغرناطة وبعض المدن الأخرى أديرت من قبل اليهود المقيمين هناك.
لقد عاشت أسبانيا السيطرة العربية ، وعلى الخصوص من عهد الأمويين هناك ، نهوضاً بارزاً في المجالين الاقتصادي والثقافي . فلأول مرة في تاريخ البلد تدخل فيه السقاية الاصطناعية بشكل واسع وأساليب زراعية جديدة ونباتات جديدة ، مثل الرز وقصب السكر والمشمش والرمان والبرتقال والصوف( ).
وجدير بالابراز الواقع التالي ، وهو أنه قد تكون في إطار السلطة السياسية المركزية هناك أساس واسع ومتعدد الجوانب لازدهار الانتاج البضائعي والاقتصاد النقدي ، وبالتالي لحركة تبادل بضائعي واسعة ذات وتأثر عالية . وقد أمكن لذلك الواقع أن يكتسب مضامينه الحقيقية الدافقة على طريق تحويل ملكية الأرض الصغيرة الحرة من قبل الفلاح المتحرر إلى المؤشر الرئيسيي للعلاقات الاجتماعية الانتاجية في الريف ، ومن خلال التحاق العبيد المحررين بقطاعات مختلفة من المجتمع ، كالقطاع الفلاحي والصناعي اليدوي والعسكري ، وأخيراً من خلال ادخال نظام مرموق لمنشآت السقاية ذات الحجوم الضخمة وتطوير التجارة والصناعة اليدوية التي انتجت ، على سبيل المثال ، السيوف والأسلحة الأخرى المستعملة آنذاك ، وقامت بتحويل المعادن .
أن تحويل – بل نود أن نقول تثوير – العلاقات الاجتماعية وقوى الانتاج جلب معه طبقات وفئات اجتماعية جديدة . وقد شكلت المدينة ، خلال ذلك ، الترسانة الرئيسية للارهاصات والاندفات البورجوازية الفتية . فقرطبة ، زينة الدنيا( ) ، كانت مثالاً بارزاً على ذلك . أن تعداد سكانها بلغ في عهد السيطرة الأموية نصف مليون . لقد عمل فيها في مجال استخراج الحرير فقط ، هذه الصناعة التي بلغت هناك وتأثر ضخمة في تطورها ، ما يقارب ثلاثة عشر ألفاً من العمال ، وفيها أي أي قرطبة ، وجد سبعون مكتبة عمومية ، وثلاثمائة حمام عمومي ، وسبعمائة مسجد ، ومدارس حكومية مجانية كثيرة ؛ كما وجد فيها الجامعة الشهيرة بأسمها ، ومكتبة الحكم الثاني ، التي احتوت أربعمائة ألف مجلد( ).
ومن الأمور الهامة الجديرة بالملاحظة الدقيقة أن الإمارة الأموية (استمرت من 756 حتى 912) ولاحقاً الخلافة الأموية (وجدت من 912 حتى 1031) مارستا دوراً مختلفاً عن دور الأمويين المسقطين في المشرق العربي . والحقيقة أن فترة الازدهار هناك انطلقت تكتسب أبعادها وآفاقها الزاخرة بعد القضاء على حركات ( الشغب ) والفوضى في قرطبة ومدن اندلسيه أخرى قام بها أمراء مقاطعات أقطاعيون أو متواطئون من الاقطاع لتجزئة الدولة . وقد تم ذلك أثناء حكم الخيفة عبدالرحمن الثالث (912-961) . أن هذا استطاع الاسهام في تكوين دولة قوية موحدة سياسياً . ومع الحكم الثاني (961-976) بلغ التقدم الاقتصادي والثقافي في أسبانيا العربية – الاسلامية قمته الأولى ، وتكون وجه مشرق جديد في تطور البلد تحت سلطة الأمويين المغربيين . لقد كتب حول ذلك هـ. لاي (برلين) بحق ، بأن الأمويين ( حققوا في المغرب ، ما حاول اسلافهم ( الأمويون ) في المشرق أن يكبحوه . فبينما هم في بغداد أقاموا سلالة للاقطاع والاضطهاد ( العنصري ) ، نراهم في المغرب قد أثروا على نحو تقدمي ، حيث أنهم ساعدوا على تحطيم العلاقات الاقطاعية القائمة وبقايا العبودية ... ( )).
ونحن نرى واحداً من الأسباب الحاسمة لذلك في الواقع التاريخي ، وهو أن الأمويين ، الذين كونوا في المغرب دولة موحدة قوية ، لم يفعلوا ذلك على أساس مخلفات الأمارات الاقطاعية المتقاتلة فيما بينها في البلد ، وليس على اساس التحريك المستعر للمصالح القبلية البطريركية وأحياء هذه المصالح ، وأخيراً ليس على اساس الاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لأبناء الشعوب المختلفة للدولة . بعكس ذلك ، توجب عليهم ، هنا في المغرب العربي ، أن يكافحوا أولئك الأمراء والأعوان الأقطاعيين . ذلك لأن تقدم القوى المنتجة للمجتمع الأسباني آنذاك لم يعد ممكناً على أساس التمزق السياسي والاقتصادي الاقطاعي المريع . وإن حطم الأمويون المغربيون تلك العمارة الاقطاعية المتآكلة ، وعملوا على بناء مجتمع ( حديث ) متقدم ، فإنهم فعلوا ذلك مدفوعين بعوامل عديدة ، في طليعتها مطالب التقدم في حقلي السقاية والتجارة ، هذا التقدم الذي كون لنفسه جذوراً عميقة في المشرق العباسي ، ومتطلبات تكوين وتطوير مجتمع قادر على حل المشكلات العديدة والمعقدة ، التي طرحت آنذاك . ولا شك أن الأمويين المغربيين قد استخلصوا بدراية وتيقظ دروس الهزيمة العميقة للأمويين في دمشق ، ودروس التنافس الواسع والشامل بين قرطبة الأموية وبغداد العباسية.
في عام 1031 سقطت هذه السلالة الأموية في أسبانيا . وقد بدأ اتجاه السقوط هذا يقوي بعد انتزاع السلطة من أيدي الخليفة الصغير هشام ابن الحكم من قبل ( الحاجب ) المنصور بن أبي عامر وإقامة ديكتاتورية سلالة رجعية متواطئة مع الأمراء الاقطاعيين ومناهضة للتقدم الحضاري العام .
أن الدولة – السلطة – المركزية ، التي ازدهر فيها بشكل مدهش الاقتصاد النقدي ، والتبادل البضائعي ، والتجارة المنفتحة على العالم ، وتكنيك سقاية متطور جداً ، وبالتالي زراعة عالية الوتائر الانتاجية وصناعات يدوية متعددة ، أن ذلك كله سار في اتجاه التلاشي تحت الضغط القوي المتنامي لاتجاهات التمزق والانفصال في مناطق الدولة المختلفة في ظل سيطرة السلالة تلك . وقد بلغ مدى التمزق هذا حدا تحولت الدولة فيه إلى أكثر من عشرين أمارة ، سميت بـ ( الطوائف ) . ولم يمض زمن طويل بعد موت المنصور بن ابي عامر حتى اشتعلت في البلد حرب أهلية( ) . بيد أن حكم ( الطوائف ) الاقطاعية هذه لم يستمر طويلاً ، حيث سقط بفعل التحركات الداخلية المناوئة وبفعل الغزو الذي قام به للبلاد (المرابطون) ؛ وهم شعب مراكشي بربري.
لقد أقام هؤلاء في اسبانيا ومراكش ( أفريقيا الشمالية ) دولة مركزية ارستوقراطية قبلية أخذت فيها بعين الاعتبار التركة العربية – الاسلامية المشرقة . ولكن في الوقت الذي احتفظوا فيه بالمكتسبات الاقتصادية والثقافية لأسلافهم العرب الاسلاميين ولم يعرضوها للضياع أو التلاشي ، فإنهم لم يطوروها إلى أمام بشكل ملحوظ . بل أنهم في حالات وحقول معينة مارسوا دوراً سلبياً. من ذلك ، مثلاً ، الملاحقة التعصبية العنيفة للمسيحين واليهود المحليين وللفلاسفة والفلسفة بشكل عام أثناء حكم علي بن يوسف تاشفين (1107 – 1143) – وقد كان هذا الأخير ، أي يوسف بن تاشفين مؤسسي السلالة المرابطية .
وقد سقط الحكم المرابطي عام 1147 علي أيدي سلالة أخرى تميزت باتجاهاتها الاجتماعية – الاقتصادية المنفتحة المتقدمة وتفكيرها المتحرر ، وهي سلالة الموحدين.
لقد أتى هؤلاء من شمالي أفريقيا ، واستطاعوا أن يسيطروا على اسباب حتى 1212 . تأسيس سلطتهم وتطورها كانا ذا أهمية جوهرية بالنسبة إلى أحياء وتطوير حضارة الاقتصاد النقدي والتجارة ذات الحجوم العالمية ، التي (أي الحضارة) أرسى دعائمها وعمقها العباسيون في المشرق، والامويون في المغرب.
أن الموحدين قد خلقوا بقيادة أبي يعقوب يوسف ( 1163 – 1184 ) وبعده أبي يوسف المنصور ( 1184 – 1199 ) دولة ساهم فيها المسلمون والمسيحيون واليهود مجتمعين بتطوير الاقتصاد الزراعي والتجارة والحرف اليدوية والثقافة بشكل عام . وقد مات مؤسس هذه السلالة الموحدية ، محمد بن تومرت ، قبل انتصار سلالته على المرابطين .
وفي الحقيقة ، أن تتويج الازدهار الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي لأسبانيا العربية = الاسلامية قد تم تاريخياً في عصر الموحدين . وقد أغنى هؤلاء التحولات العميقة في البلد بخصائهم القومية المتكونة عبر تاريخ مديد .
وفي الحقيقة ، أن تتويج الازدهار الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي لأسبانيا العربية = الاسلامية قد تم تاريخياً في عصر الموحدين . وقد أغنى هؤلاء التحولات العميقة في البلد بخصائهم القومية المتكونة عبر تاريخ مديد . أن Goldzieher يمثل الرأي بأنه لم يكن ممكناص في دولة الموحدين أن يتقلد أحد وظيفة قضائية دون أن يكون مسيطراً على اللغة البربرية( ). إلا أن الموحدين هؤلاء ، الذين حكموا طوال ستة عقود من السنين ، أرغموا أخيراً على مواجهة نهايتهم نتيجة النزاعات المستمرة مع الدويلات المسيحية المجاورة والموحدة عسكرياً ، وتحت ضغط اتجاهات التمزق والانفصال القاطاعي الداخلية . ففي عام 1212 انتصرت القوى الموحدة الخاصة بكستيليا وارأغون ونافارا والبرتغال على آخر أمير موحدي ، هو محمد الناصر ، في معركة قرب Las Navas de Tolosa.
الملامح الأساسية والجوهرية للمجتمع العربي (الجاهلي) ، ومن ثم للمجتمع العربي – الاسلامي بشكل موجز ومكثف ، فإننا نواجه النقاط التالية:
1- أن المجتمع العربي في حقبته ( الجاهلية ) كان مجتمعاً قبلياً بطريركياً ، ثم تطور ، في الحقبة العربية – الاسلامية إلى الاقطاعية ليس عبر العبودية ، إنما بشكل مباشر ؛ أي دون أن يمر بالعبودية ، من حيث هي نظام اجتماعي متكامل ومتطور وشامل . والعبودية وجدت كذلك في المجتمع القبلي ذلك ، ولكن كظاهرة خاضعة للاطر الاجتماعية – الاقتصادية العامة لهذا المجتمع .
بذلك يبدو لنا عدم قدرة التعبير (الجاهلية) على احتواء الملامح الجوهرية الاجتماعية والاقتصادية للفترة هذه . فبدلاً من ذلك التعبير تقترح التحديد المفهومي التالي : (المجتمع القبلي البطريركي).
2- أن انحلال المجتمع العربي القبلي البطريركي تم بشكل رئيسي ، كما قلنا ، ليس على طريق نظام اجتماعي عبودي شامل ؛ بل من خلال ثلاثة اتجاهات مجتمعة ، هي الاقطاعي والعبودي وإلى حدٍ ما البورجوازي الأولي المبكر . بالطبع ، لم يبق الأمر لاحقاً ، كما كان في بدايته . فالاتجاه الاقطاعي استطاع أخيراً أن يدمغ المجتمع بطابعة الحاسم . ومن الجدير بالابراز واقع أن العبودية منذ العصر القبلي البطريركي (الجاهلي) حتى اضمحلال المجتمع العربي – الاسلامي في وقت متأخر كانت قد أثبتت موجوديتها دائماً ، ولكن من حيث هي ظاهرة مرافقة . من طرف آخر نلاحظ أن القبيلة البطريركية لم تتلاش من خلال بديل اقطاعي . فالارستوقراطية القبلية المكية لم يشهر السلاح في وجهها من قبل ارستوقراطية ارض ، أو من قبل اقنان وفلاحين . لقد أبرزنا سابقاً ، أن الإسلام قد اكتسب ملامحه الأولى الأساسية من حيث هو تعبير عن الحاجات والمصالح المتنامية للحركة التجارية الواسعة ، التي كان يكبح من نموها الاقتتال العنيف بين المجموعات القبلية المختلفة . والذي حدث ، ويستحق كامل الاهتمام والدراية ، هو أن تحقيق تلك المطالب والمصالح التاريخية للتقدم الاجتماعي قد تم بشكل رئيسي عبر النهوض بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للرقيق والعوام الأحرار وأنصاف الأحرار . وبتعبير آخر ، أن النهوض بذلك المستوى ورفعه بشكل ملحوظ تاريخياً لم يمكن تحقيقه إلا من خلال الإسهام في خلق علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة، تتميز بشكل أساسي بأنها تحقيق لتعادل ومساواة اجتماعيين معينين . بالإضافة إلى ذلك ، من الملاحظ أن تحقيق تلك المطامح التاريخية لقي ارهاصات عميقة من خلال عملية الفتوحات لبلدان أجنبية ومن خلال تنظيم الطرق التجارية بشكل دقيق ومأمون . هنا يكفي أن نشير إلى مدينة البصرة ، التي أسست في عهد عمر بن الخطاب عام 635 ، والتي كانت صلة الوصل في عملية التجارة البحرية بمجموعها في حوض الخليج العربي .
في مجى ذلك أخذت اتجاهات اقطاعية وبرجوازية أولية تطر نفسها بوتائر مختلفة في نطاق المجتمع العربي – الاسلامي الوسيط . ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ الواقع التالي ، وهو أنه طوال الفترة التي تواجدت فيها الدولة آنذاك ، بدءاً من خلال أبي بكر (632-634) وانتهاءً باضمحلالها أيام السلطة العباسية ، لم تستطع (العبودية) ولا الاتجاه البورجوازي الآخذ في النمو اكساب العلاقات الاجتماعية السائدة الطابع الجوهري المحدد لها . لقد ظلا ، أي العبودية والاتجاه البورجوازي ، ظاهرتين مرافقتين للاتجاه الكبير الحاسم والمتعاظم في تحديده لإطار العلاقات الاجتماعية تلك . ضمن هذا التحديد للمسألة نجد (هـ. لاي) محقاً حين يكتب : ( في اقطاعية المجتمع العربي – الاسلامي يمكن تقرير وجود عناصر للمجتمع العبودي ، وأخرى للتمزق الاقطاعي ، وبدايات ( وضع ) مركزي ، هذه البدايات التي قامت على عوامل بدأت معها صبرورة مجتمع بورجوازي( )).
3- أما (الاقطاعية) فقد أخذت شيئاً فشيئاً ، ومنذ تكون الخلافة ، تكتسب أهمية متعاظمة ، وأصبحت في العهد الأموي ، ومن بعده العباسي الشكل الرئيسي في العلاقات الاجتماعية الانتاجية .
وقد تم هذا ليس فقط انطلاقاً من قانونية التطور الداخلية ، مع أن هذه قد مارست في ذلك التأثير الحاسم ، بل أيضاص تحت تأثير الحضارات القديمة الشهيرة في بيزنطة وما بين النهرين ، ذه الحضارات التي تجاوزت في الحقل الاجتماعي – الاقتصادي التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القائمة على العبودية من خلال أقامتها للاقطاعية كأساس حاسم لبنائها . أن احتكاك المجتمع العربي – الاسلامي الوسيط بهاتين الحضارتين العريقتين في مجموع الحقول كان له أثره العميق في اتجاهات التحرك الاجتماعي والثقافي .
معالم الحياة الفكرية وعوامل نشوء فلسفة وعلم
في العصر العربي – الإسلامي الوسيط
1- معالم الحياة الفكرية في المجتمع القبلي البطريركي – الجاهلي
لقد تكون ( الإسلام ) في مكة في الجزيرة العربية ، حيث لم يكن قد وجد هناك بعد فلسفة وعلم بالمعنى المتميز الدقيقة للكلمة . ونحن سوف نحاول هنا طرح قضية تكون أمكانات خصبة مع نشوء الاسلام ساهمت في تعبيد طريق النماء والتطور العلمي والفلسفي في العصر العربي – الاسلامي الوسيط . كما أننا سوف نقوم بمحاولة تحديد أبعاد وآفاق تلك الامكانات.
ومن أجل استيعاب أكثر دقة لمسألتنا هذه ، نرى من الضروري أن نرصد الوضع الفكري العام للمجتمع القبلي البطريركي – الجاهلي - ، الذي ابتدأ (قبل الإسلام بنحو قرنين تقريباً (وانتهى) بظهور الإسلام)( ) ، وأن نحلل الجوانب الايديولوجية الأساسية في الإسلام وفي التيارات الدينية والنظرية الأخرى ، التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تكوين وبلورة ذلك الوضع . في الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت (المسيحية) منتشرة إلى جانب (اليهودية) . كذلك كانت هنالك (الدهرية) ، وقد احتلت مكاناً ما في حياة العرب العقلية . إلى جانب ذلك كله ومن خلاله تم ، كما هو معروف ، تلاقح وتبادل فكري عميق وذو أبعاد متعددة وغية بين العرب والبيزنطيين والفارسيين ، حيث مارس العرب في هذا المجال دور الوسطاء التجاريين بين أولئك .
وفي الحقيقة ، من الممكن أن يكون هنالك عوامل وبواعث أخرى ساهمت في تكوين وعي الانسان العربي في تلك الحقبة التاريخية ، قبل نشوء الإسلام في القرن السابع . إلا أننا ، هنا ، نرى أن تلك العوامل والبواعث ، التي أشرنا إليها ، هي التي صاغت بشكل رئيسي الدائرة الفكرية والدينية للوعي ذاك . ونحن إذ نعمل على دراسة كل من حلقات هذه الدائرة على حدة ، فإننا لا ننسى أن هذه الحلقات يمكن فهمها كخلفية للوعي الإنساني العربي آنذاك فقد حينما ننطلق من اعتبارها تكون فعلاً وحدة عضوية ، لا تنفي طبعاً وجود تناقض فيها.
لقد وجدت اليهودية في الجزيرة العربية قبل الإسلام بقرون عدة، وكان مركزها الرئيسي مدينة يثرب (المدينة). عدا ذلك كانت منتشرة في مناطق أخرى من الجزيرة العربية ، مثل تيماء وخيبر . أما في يثرب نفسا فقد وجدت ثلاث قبائل ، هي بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو نضير( ). وهذه القبائل مارست حياة مادية متطورة بحدود الوضع آنذاك.
أما من أين تحدر يهود الجزيرة العربية هؤلاء ، فيما إذا كانوا قد أتوا من فلسطين بعد انكسارهم على يد البيزنطيين ، كما يخبر أبو الفرج الاصفهائي في كتابه البارز (الاغاني) ، أو فيما إذا كانوا عرباً من الجزيرة العربية تهودوا بعد ذلك ، كما يخبر ياقوت في (معجمة) ، أن هذا التساؤل والإجابة عليه لهما دلالة ليست عديمة الأهمية في دراسة وتوضيح أبعاد وآفاق وعي الإنسان العربي آنذاك. ذلك لأن اليهود قد تأثروا في الاسكندرية وعلى البحر الأبيض المتوسط بشكل قوي ومباشر بالثقافة الهلينية . ولا شك أنه في الوقت الذي يستعيد المرء فيه في ذهنه الدور الذي مارسه اليهود في حركة الترجمة العاصفة من اليونانية إلى العربية ، يجد نفسه على طريق منح ثقته لرأي أبي الفرج الاصفهاني . هذا بالإضافة إلى أن هنالك فعلاً عرباً تهودوا تحت تأثيرات عديدة احتواها التفاعل والتبادل التجاري الذي تم بين العرب والشعوب الأخرى( ).
لقد أثرت اليهودية على بنية الوعي الانساني العربي ، وذلك من خلال 1- التصورات الخاصة بها والتي طرحتها أمام ذلك الوعي ، و 2- من خلال التأثيرات الهلينية التي أدخلتها معها إلى الجزيرة العربية . فمن حيث تصوراتها الدينية نجد تأثيرها قد تم عبر فكرتين ، فكرة ( الشعب المختار ) ، وفكرة ( الاله الواحد ) .
أما من ناحية الفكرة الأولى ، فقد كان تأثيرها سلبياً ورجعياً . لقد ساهمت ، حسب ما أرى ، في تكوين بعض أرهاصات (الشعوبية) أو (العرقية) في ذلك الوقت وفي أوقات لاحقة ، وإن كان هذا قد تم على نحو غير مباشر . فلقد عاش اليهود في يثرب منعزلين نسبياً عن العرب المسيحيين والآخرين ، أو محاولين العيش بعزلة عن هؤلاء .
وقد كان في ذلك خطوة خطيرة على طريق محاولة اكساب (اليهودية) مضموناً وطابعاً عرقيين إلى جانب كونها عقيدة دينية . لم تسر الأمور كما أريد لها أن تسير ، ذلك لأن (اليهودي) العربي ظل يمارس وجوده من حيث هو كذلك ، أي عربي .
أن فكرة ( الشعب المختار ) اليهودية يمكن فهمها وتفسيرها بالدرجة الأولى انطلاقاً من رؤية اجتماعية طبقية . فلقد أخذ بها ( أي اليهودية ) . بشكل عام أولئك الأفراد من العرب ، الذين كانت لهم فعلاً مواقع اقتصادية متينة وخصبة . فالقيمون على شؤون الصناعات الحرفية والزراعية الأولية كان الكثير منهم يهودا . أن ( الشعب المختار ) كان في تصورهم تلك المجموعة من الناس القادرة فعلاً على الإحاطة بالحياة الاجتماعية – الاقتصادية بشكل عملي فعال . ووضعهم ( الشعب المختار ) تلقاء الشعوب ( الأخرى ) على نحو متعارض متجابه ، يعني أضفاء طابع ديني – عرقي على التعارض والتناقض بين الذين يملكون ويحسنون الاحاطة العملية تلك وبين الذين لا يملكون ولم يدخلوا حلبة الحياة الاقتصادية . لقد جاء في (التنبيه والاشراف) للمسعودي ، عن عمر بن الخطاب أن (الرسول) قال : (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )( )، يقصد بهما الاسلام واليهودية .
بيد أن الفكرة اليهودية الأخرى (الاله الواحد) كان لها – منظوراً للمسألة من جانبها التاريخي – صدى إيجابي ، وخصوصاً في المدن والمناطق المتحضرة نسبياً ضمن العلاقات الاجتماعية في الجزيرة العربية آنذاك . ففي تلك المدن والمناطق تأجج نزاع بين الواحديين (في هذ1ه الحال : اليهود) وبين عبدة الأوثان المختلفة . وقد برز هذا الوضع في مكة بوضوح.
لقد واجه الملأ المكي خطراً جدياً ماثلاً في فكرة (الالوهية الواحدة) ، كما شكلت هذه الفكرة في المسيحية والاسلام ، في حينه خطراً على ذلك الملأ . بيد أنه من الملاحظ أن هذه الفكرة ، التي رفضها الملأ ذاك ، لم تكن داعياً لرفض فكرة (الشعب المختار) من قبله ، أي من قبل ( النخبة المختارة ) في مكة. هكذا نكون قد تحاشينا في بحثنا الوقوع في وهم يقوم على أن (اليهودية) قد دخلت الجزيرة العربية آنذاك في (وحدتها) المزعومة المكونة من (الاله الواحد) و (الشعب المختار) . فخطر الفكرة الأولى على الملأ المكي لم يكن موجهاً ، بالدرجة الأولى ، ضد أوثانه ، من حيث هي أوثان بلغ عددها 365( )، وأنما ضد مصالحة وامتيازاته الاجتماعية والاقتصادية والدينية والحقوقية ، التي كمنت وراء تلك الأوثان. ذلك لأن هذه الأخيرة كانت تشكل مصدراً رئيسياً خصباً لحياة الملأ الثرية . فالحجاج قد وافدوا من كل مناطق الجزيرة العربية إلى مكة من أجل تقديم الضحايا والقرابين للأوثان المؤلهة، وذلك مقابل كمية من النقد أو أعطيات أخرى تقدم إلى ذوي الأمر من الملأ.
أما المسيحية فقد كان تأثيرها على الوعي العربي في الحقبة القبلية البطريركية أكثر عمقاً عما هو لديه اليهوديه . وكاليهودية ، أنتشرت المسيحية بشكل خاص في المناطق المدينية ، حيث كان سائداً نوع من التشكل السياسي والاجتماعي المتميز ، كالحيرة ونجران . وقد دخلت المسيحية الجزيرة العربية ممتزجة ومتأثرة بالثقافة اليونانية الهلينية بوضوح . أما أدخالها إلى جنوبي الجزيرة العربية فقد تم على أيدي الأحباش ، الذين وصلتهم المسيحية بواسطة البيزنطيين( ).
وفي الحقيقة ، يشكل ظهور وانتشار المسيحية واليهودية في الجزيرة العربية ، من الناحية التجريدية الذهنية ، تقدماً ملحوظاً تلقاء الوثنية . فلقد اكتسب الوعي العربي آنذاك أبعاداً جديدة وقدرة على التجريد أكثر من أية فترة مضت . ولكن هذا التقدم لم يكن كذلك بالنسبة إلى عملية المعرفة العقلانية للواقع الموضوعي ، الطبيعي والاجتماعي .
أما (الوثنية ) فقد ظلت محتفظة ببعض مواقعها القوية ، وخصوصاً في مكة . أن الحسية البدائية والتشخيص والتجسيد في الأوثان انتصبوا في نزاع مع ( التوحيدية ) المسيحية واليهودية ، المتضمنة نوعاً من التجريد الذهني . بيد أن الوثنية اعتقدت ، كالمسيحية واليهودية ، بوجود قوى غير مرئية ومن لحمة مغايرة للحمة واقعنا الاجتماعي والطبيعي الموضوعي. ولكن خلافاً للمسيحية واليهودية ، نجد الوثنية قد تضمنت جانباً طبيعانياً . فالوثن المسمى بـ(ود) مثلاً ، الذي يظهر لنا في شكل رجل عملاق سلاحه في يده ، كان يعني بالنسبة إلى قبيلة (عزرة) القوة ، ويجسد الدور الهام للحرب (الغزو) في الحياة اليومية الاقتصادية العامة والشخصية والاخلاقية. كذلك أيضاً الوثن (العزى) ، الذي تضمن شكل كوكب فينوس ، وعبد من قبل القرشيين في مكة ومن آخرين .
أن الطبيعة ( نتورا لتيت ) ( ) المتضمنة في الأوثان اختزنت عنصراً انسانياً ، تولد من محاربة تحويل (عواطف ومشاعر) الظواهر الطبيعية في خدمة الإنسان.
أن الاجسام والاشياء الطبيعية هذه منحت نفوساً وقوى خاصة لا يمكن فصلها عنها . ونحن نلاحظ ذلك من خلال التصور حول ( الشياط أو أبليس ) نفسه . فالشيطان يقيم في كل جسم أو موضوع ( شيطاني ) ، ( شرير ) . والمدقق في الأمر يجد مثل هذه التصورات في عصرنا لدى بعض القبائل البدوية في المملكة السعودية مثلاً . أن الاعتقاد بوجود مثل هذه (النفوس) لم ينطلق من تصور لا مادي أو لا حسي ( بمعنى ما وراء الحس ) . هذا يعني أن ذلك الاعتقاد لم يتجاوز التصور الحسي الخاص بطبيعة مؤنسنة .
أن هذا الاتجاه قد ساد ، بالدرجة الأولى ، لدى البدو الرحل القدماء . فهؤلاء كسبوا حياتهم المعيشية تقريباً فقط من خلال ممارستهم الرعي . أن المطر ، والأرض الخصبة ، والجمل ، والخروف شكلوا وكونوا آفاق الحاجات الحياتية للإنسان البدوي ولآفاق وعيه الذاتي. وقد تضمنت هذه العلاقة بين تلك الاطراف المتعددة طابعاً سببياً عفوياً . وبطبيعة الحال فقد تكون وتبلور ذلك على طريق ( العمل ) المجسد بتحصيل البدوي لحاجاته اليومية الضرورية المتواضعة . فالمطر والأرض الخصبة والجمل والخروف يخدمون حياته المتواضعة تلك . ولذلك فوجوده مشروط بشكل ضروري بوجودهم . فالمسألة ظلت ، كما هو بين ، محصور ضمن نطاق الحياة اليومية للبدو ؛ ولا شيء آخر فوق ذلك .
أن البدو القدماء لم يستطيعوا القراءة والكتابة . وقد خضعوا لقبائلهم وعشائرهم ، التي ملكت كل واحدة منها ( عالمها الذهني ) الخاص . وارتبط هذا العالم الذهني بالحاجات الحياتية الأولية للقبيلة وللعشيرة . ولكن مع تسرب المسيحية واليهودية إلى الجزيرة العربية أخذ الاتجاه الطبيعاني ، الذي عرضنا له فوق ، يكتسب أشكالاً دينية متميزة . فالاستقلالية الطبيعية للنفس الخاصة بالأشياء والمواضيع الطبيعية أخذت توجه من قبل هذين الدينين باتجاه غيبي ديني مفارق . وقد تم هذا بمقدار ما استطاع المتسربون الجدد أن يفرضوا أنفسهم ضمن القبائل العربية البدوية .
إلى جانب ذلك كله نجد أن تلك الرؤية للعالم لدى البدو لم تتكون بمعزل عن أي تأثير أجنبي . فمما لا شك فيه أن مجموع مناطق الجزيرة العربية قد تأثرت بدرجات مختلفة بالحضارات البشرية السابقة . وقد لعبت التجارة في عملية التأثير والتاثر هذه دوراً رئيسياً مرموقاً . خال ذلك وجدت الجزيرة العربية نفسها في نقطة لقاء واحتكاك هامة بين الطريقين التجاريين الرئيسيين المتقاطعين ، واللذين من خلالهما التقى الشرق بالغرب على نحو يدعو إلى الدهشة.
على أساس من هذا الاستيعاب للمسألة نستطيع فهم النزاعات العنيفة والمديدة ، التي اندلعت بين القوى الكبيرة آنذاك من أجل السيادة على المناطق الهامة اقتصادياً واستراتيجياً في الجزيرة العربية . فنحن نقرأ في كتب التاريخ بأن المصريين القدماء قد أسسوا عام 3000 قبل الميلاد مستعمرة في يثرب ، بغاية البحث عن النحاس واستخراجه . كما هاجم قائد الاسكندر الكبير المسمى (انتيغونوس) مدينة سلع ، عاصمة الانباط من أجل اخضاعها لحكمة ، ولكنه لم يفلح في ذلك . إلا أن هذه المدينة أخضعت لاحقاً ، أي عام 105 بعد الميلاد ، من قبل الامبراطورية الرومانية ، وعام 540 من قبل الفرس ، وأخيراً عام 550 من قبل الرومان( ) . كما ينبغي الاشارة هنا إلى النزاعات المديدة والعنيفة التي دارت بين الفرس والبيزنطيين من أجل المنطقة الجنوبية الخصبة في الجزيرة العربية .
وقد أرغمت التصورات الحياتية العفوية للبدو القدماء ، التي اختزنت في أثنائها الأصلية عناصر طبيعانية متعارضة مع الروحانية الغيبية ، على التلاشي تحت الضغط الكبير للمسيحية واليهودية والوثنية المحولة دينياً . فكل موضوع (وضمن ذلك الإنسان البدوي نفسه) ، الذي يحتوي ( ذاته ) أو ( نفسه ) ، وضع في تعارض مع ( ذاته ) أو ( نفسه ) . ذلك لأن ( ذاته ) أو ( نفسه ) فصلت عنه ، وأضفي عليها طابع غيبي مفارق . وقد فصلت النفس ومنحت استقلالية تلقاء الجسد على ذلك النحو في التكثثرية( ) (في هذا الحال : الوثنية ) كما في الواحدية( ) (في هذه الحالة : المسيحية واليهودية ) . إلى جانب تلك الاتجاهات الدينية والارهاصات الطبيعانية ، كان قد وجد اتجاه طبيعاني الحادي متميز مثله ( الدهريون ) . أن كتاب (المل والنحل) للمؤرخ الفلسفي الشهرستاني يعتبر وثيقة هامة في تاريخ هذا الاتجاه الفكري. فهو قد سماهم ، وهو المؤرخ الفلسفي المثالي ، (معطلة العرب) ، ورفض آراءهم بشكل حازم( ). وقد صنفهم في ثلاث مجموعات هي : 1- منكرو الخالق ، والبعث ، والاعادة . و 2- منكرو البعث والاعادة ، و 3- منكرو الرسل.
لقد ساهم في تكوين ذلك الاتجاه وجود العنصر الطبيعاني المتعارض مع العنصر الغيبي المفارق في وعي العرب (المثقفين) آنذاك ، والمماحكات والمناقشات الحادة التي تمت بين الاتجاهات الدينية والفكرية (مثل المسيحية واليهودية والأديان الهندية والفارسية والبيزنطية والفرق الطبيعانية الدنيوية ) . ولا شك أن معالجة المصدر الأجنبي لهذا الاتجاه الفكري تشكل جانباً هاماً من المسألة .
لقد أبرزنا في مواضع سابقة من هذا الكتاب ونتيجة لتحليل قمنا به للوضع الاجتماعي للطبقات المسحوقة في الجزيرة العربية ، وخصوصاً في مكة ، أن هذه الطبقات (الرقيق ، والعوام الأحرار ونصف الأحرار) تتحدد اجتماعياً وتاريخياً وفكرياً من حيث هي مبدعة المجتمع الجديد . ومن حيث هي كذلك ، كانت تجد نفسها بشكل أو آخر وبقليل أو كثير من الوضوح والوعي متجهة باتجاه الأخذ بايديولوجية تناهض الايديولوجية الوثنية الغيبية السائدة ، ايديولوجية التجار والمرابين . وقد كان للدهرية أن تمارس هذا الدور التاريخي كايديولوجية للطبقات المسحوقة . إلا أن آفاق التقدم الاجتماعي والفكري آنذاك لم يكن لها أن تستوعب ذهنياً من قبل (الدهرية) ، وذلك سببين : أولهما يكمن في الضعف وعدم التماسك الفكريين في الدهرية من حيث هي رؤية فكرية معينة ، لم يكن لها أن تمنح تلك الطبقات المسحوقة بوصلة نظرية فكرية ، لأن منطق التاريخ كان قد تحدد آنذاك من خلال آفاق التقدم ضمن رداء ديني . أما السبب الثاني فهو التمركز الشامل للمسيحية واليهودية في الجزيرة العربية آنذاك .
وهنالك واقع ينبغي إبرازه ، وهو أن الدهريين العرب قد تأثروا بشكل مباشر بالدهريين الفارسيين ، وذلك عن طريق المواصلات التجارية المستمرة والسلمية معهم . وقد تيسر لهذه المواصلات أن تكتسب وتائر الحيرة التي أسست من قبل الفارسيين وحكمت من قبل العرب اللخميين .
إن De Boer يرى أن الدهرية قد اكتسبت (( اعترافاً مكشوفاً خلال حكم الساساني يزدجرد الثاني ( من 9/438 – 457 ) ))( ).
إن الدهرية ترى في الزمان السبب الأولي للوجود . والزمان هذا ، حسبها ، غير مخلوق ولا نهائي . والفريق الواحد ضمن الدهرية رفض الاعتراف بوجود اله إطلاقاً : ( وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.)( )
إن ذلك الاتجاه الطبيعي الإلحادي لم يكن قوياً بشكل كاف ، بحيث يقف في خط معارض لـ(الكثروية) ، أي تعدد الآلهة في الجزيرة العربية ومعارض للتصول حول إله واحد الذي كان ممثلاً من قبل (الحنيفة).
إن الإسلام قد نشأ تاريخياً عبر ملامسات عميقة كثيراً أو قليلاً للمسيحية واليهودية والوثنية ، حيث جعل من اللحظة الدينية موضوع وجوده الديني . ولقد حدث هذا بالرغم من الخلافات والتناقضات التي برزت بينه وبين هذه الاتجاهات الدينية . أما الإرهاصات الطبيعية الإلحادية ضمن الوثنية فإنها لم تتلاش نهائياً مع نشوء وتطور الإسلام . إنها اكتسبت وجوداً جديداً ضمن الاتجاهات الفكرية المادية اللاحقة . والتعدد والحيوية والنمو تنشأ جميعا عن الخصوبة والتعدد والحيوية والنمو !.
أن موقع الكندي في تاريخ الفكر الإسلامي العربي الوسيط أساسي ، من حيث أنه ، أي الكندي ، أثار بأشكال طريفة وعميقة مشكلة الوجود بملحقاته . والشيء المهم في ذلك هو أنه جسد ذلك الميل المبكر لطرحه لمشكلات الوجود بشكل مختلف ، بل متناقض مع الطرح النصي الإيمان هذا بغض النظر عن كون الكندي قد توصل إلى هذا ( الميل ) كنتيجة من نتائج الصعوبات الذاتية المنطقية التي اعترضته خلال محاولاته لإيجاد تناسق وتماسك في وجهة نظره الأساسية حول (الخلق من عدم مطلق).
2- العوامل الأساسية في تكوين علم وفلسفة في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط
مع نشوء الإسلام وتبلور آفاقه نجد بداية حياة فكرية قد أخذت في التكون . و" الجدة " الحقيقية التي مثلها الإسلام نفسه كمنت تقدميته التاريخية . إن هذه التقدمية التاريخية كانت قد برزت في تعارض واضح مع المسيحية واليهودية. ونحن هنا نرى أن ذلك يكمن في " دنيويته" . هذا يظهر لنا بشكل متميز عبر مقارنة مع إذا كانت العلاقة بين الإنسان والإله في إطار فكرة التثليث لدى الأشكال الأساسية السائدة آنذاك في الكنيسة المسيحية ، وهي اليعقوبية والملكانية والتسطورية، قائمة على ارتباط وجودي " انطولوجي" معين ما بين الإله والإنسان، والإنسان والإله، فإنها تكتسب الصفة التالية: الأب والإبن والروح القدس. على أساس هذه العلاقة نرى أن ليس هنالك من هوة لا تعبر بين الإنسان والإله . فالإنسان (أي المسيح) هو على نحو ما جزء من الإله وشيء مشابه له حسب الزمان والذات.
أما الأمر في الإسلام فإنه يختلف في نقاط معينة . ففيه تكمن هوة لا تتجاوز بين الإله والإنسان . فالإنه هنا خلق الإنسان ليس من ذاته ( أي من ذات الإله ) وليس من مادة ما ، وإنما من عدم سلبي مطلق. فالقرآن يؤكد " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" ( ).
ولقد توجب ، انطلاقاً من واقع الهوة تلك، على الفلاسفة والمتصوفين في إطار الدولة العربية الإسلامية الوسيطة أن يكافحوا من أجل أنسنة العلاقة بين الإله والإنسان بغاية إبراز الإنسان كعنصر فعال ليس فقط في العالم المادي، وإنما أيضا في العالم الآخر، الإلهي . ولهذا السبب بالضبط كانت فلسفة " وحدة الوجود" و" نظرية الفيض" قد احتلتا مكانا بارزاً في الحياة الفكرية للدولة تلك.
إن الارتفاع إلى الإله من قبل الإنسان قد حل ضمن المسيحية حسب كل من الآراء التي طرحت لدى الفرق المسيحية المختلفة . أما في الصوفية الإسلامية – العربية فقد برزت مسألة الارتفاع ذاك في محور ومركز المشكلة، وكذلك أيضاً إلى حد ما في الفلسفة آنذاك.
إن هذا الموقف الفكري النظري للمسيحية والإسلام انتصب بشكل معارض للممارسة لدى الإنسان المسيحي والإنسان المسلم . ففي الممارسة المسيحية تبرز سلبية العلاقة بين الإله السلبي والإنسان المعذب ، أو سلبية الإله والإنسان في آن واحد. إنها غربة تجاه العالم المادي الواقعي . ولكن من الملاحظ أن التأكيد على " الفرد" في المسيحية والإبراز لدور الفرد أكثر من موقف ذاتي تأملي يسهم في عملية اغتراب هذا الفرد تلقاء واقعه الموضوعي الحقيقي . إنها ذاتية سلبية تكمن مهمتها في " تخليص" الإنسان الفرد من " هذا " العالم التعيس الملعون ، أي في إخضاعه وتبييئه مع هذا العالم . لقد كان هذا ولا يزال جانباً جوهرياً من جانب التصور المسيحي حول علاقة الإنسان بالإله.
بيد أننا نلاحظ المسألة مختلفة لدى الإسلام . فالفرد هنا يرى نفسه أمام مهمات كثيرة وعميقة تجاه نفسه هو. و" خلاصة " يتعلق به نفسه إلى حد متميز . إن الخطيئة الأصلية، التي يمكن إزالتها أو التخفيف من تأثيرها ضمن المسيحية من خلال تضحية شخصية ، ولكن سلبية إن هذه الخطيئة تضع أمام الإنسان المسلم وجانب ومهمات دنيوية وملموسة من أجل تجاوزها. وهكذا فليس " العذاب" السلبي هو طريق إلى الخلاص، كما هو الحال في المسيحية، وإنما " الكفاحية " الدنيوية المغلقة بأغلفة دينية هي محتوى الخلاص في الإسلام.
إن " الخلاص" يكتسب ضمن الإسلام مضموناً آخر ، حيث أنه ( أي الإسلام) يؤكد على الإنسان المشخص الاعتيادي . ومن الأمور التي تحتاج إلى التقصي والبحث الدقيقين كون " الإسلام " الذي نشأ في القرن السابع ضمن ظروف حرجة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، قد جسد مرحلة جديدة هامة مراحل عملية تجاوز الأطر الماورائية الموغلة في انغلاقها الماورائي. ففيه لم يتكون جهاز كهنوتي مستقل عن البيئة الاجتماعية السائدة. فالشيخ أو الأمام أو الفقيه لم يكن له وظيفة دينية من حيث هي نشأت كتعبير عن رفض الإله المسيحي المؤتسن والإله اليهودي المحدد الأفق والفاعلية في العالم .
هي (أي تلك الفكرة ) حيث تكونت ، فأنها كانت بذلك تعبيراً عن النشاطية العملية غير المباشرة للمكيين ، الناحية منحى توحيدياً في الحقول الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ولقد أثر في تبلور الوضع " الروحي" الجديد في الجزيرة العربية عاملان أساسيان :
الأول:- هو الضرورة التاريخية المُلحة لخلق وحدة اجتماعية – اقتصادي وسياسية في المجتمع، وذلك بالعلاقة مع تعاظم ونمو احتياجات الحركة التجارية المنفتحة على العالم.
أما العامل الثاني: فهو التأثر العميق بمستوى التطور الديني المسيحي واليهودي حتى آنذاك ، مرتبطاً بالمماحكات العنيفة المتشعبة والخصبة بين الوثنيين والدهريين والواحديين .أن " الله" هو أله الجميع. فالتجارة المنفتحة على العالم ، وبالتالي الأفكار الشمولية التي طرحت نفسها على مستوى عالمي كانت قد وجدت في " وحدانية" التصور الديني والعاطفي تبريراً مقبولاً وسهل التفهم من قبل مجموعات من الناس تجمعهم وحدة الهدف والسلوك الاجتماعيين. وباعتبار الإسلام قد عبر في مرحلة نشوئه عن المطامح الحياتية الأولية للعوام والرقيق والمزارعين والصناع الصغار، وذلك من خلال العمل على تحقيق تلك المطامح عن طريق ممارسة التجارة الواسعة وتطوير الحياة الاجتماعية العامة ولم شمل تلك الفئات من السكان في وحدة سياسية محددة، باعتبار ذلك كله نرى أن " الإله" الإسلامي هو إله " المحرومين" الذي يسلط" غضبه" على الظالمين المرابين. والمحرومون أولئك لهم، إلى جانب نتائج كفاحهم في الحياة الدنيوية، الجزاء الكبير في" الجنة" بينما الظالمون هؤلاء سوف يلقون العذاب الأليم في "النار".
وفي الوقت الذي نرى فيه الاتجاه قوياً في الإسلام للتأكيد على إمكانية تحقيق مطامح ومطالب الإنسان المسلم خلال حياته الدنيوية دون شرط" الاتحاد" بالإله، نلاحظ أن هذا" الشرط" وارد في المسيحية، وذلك من خلال اتحاد "الابن" و"الأب" وتكوينهما" الروح القدس".
وبالرغم من أن الإسلام لم يمل إلى طرح " الإله" من خلال تصور قائم على وحدة الوجود pantheism" " فانه لم يرفيه ذاتاً محضة توجد بعيداً عن العالم المادي. أن "علوية " الإله الإسلامي لا تتضمن القول بذات موجودة بعيداً عن ذلك العالم نحو مطلق. بالطبع، نحن نلاحظ أن الإسلام يميل إلى القول بالإله عل نحو بنتيتين: أي انطلاقاً من وحدة الوجود -، ولكن فقط من طرف واحد هو الله. الإنسان. أي أن الله هو الذي يحيط بالإنسان والعالم بينما الإنسان لا يمكنه الاتحاد أو الإحاطة بالله.
ولقد عمل المتصوفة الإسلاميون والفلاسفة النازعون منزع وحدة الوجود لاحقاً على إتمام " الحلقة "، حيث أكدوا على ضرورة " الصعود " من الإنسان إلى الإله و" النزول" من الإله إلى الإنسان . كما أن المعتزلة ركزوا سهام نقدية على تصور " الإله" من خلال رفضهم للـ"جبرية " وللتمييز بين " ذاته " و" صفاته ". أن هذا كله كان ذا أهمية عظمى في تأثيره على عملية تكوين علم نظري وتجريبي في إطار المجتمع العربي الإسلامي الوسيط .لقد نشأت وتطورت الفلسفة هناك في علاقة عضوية مع العلم، ولكن ليس بشكل متوازي .
وعلى وجه العموم اقتصر النشاط العلمي في بدايات التطور الثقافي للمجتمع ذاك على التجارب العملية التطبيقية التي استقت الكثير من ملامحها من الحضارات الهندية والفارسية واليونانية . والحقيقة أن آفاق وأبعاد التطور الفلسفي والعلمي الطبيعي قد تحددت بشكل عام بمقتضيات ومتطلبات التقدم التكنيكي المادي العاصف آنذاك . وبتعبير آخر:أن العلم والفلسفة أمكن لهما النماء والتقدم تحت ظلال ذلك التقدم التكنيكي المادي.
وهذا ما يدعونا إلى تخطيء الرأي القائل بأن « حاجة العرب إلى العلم انبعثت من الدين»( ) .
إذ ليس من الدقة العلمية التاريخية أن نأخذ بالجوانب الخارجية المباشرة من المسألة ، معتقدين أنها هي المؤشر العميق والمحرك لها . أن أخذ الخصائص الداخلية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية لتركيب المجتمع العربي الإسلامي الوسيط بعين الاعتبار يلقي ضوء ساطعاً على مسألتنا، مسألة نشوء وتطور علم وفلسفة في المجتمع المشار إليه آنفاً.
ومن خلال القيام بتحليل دقيق للخصائص تلك تستبين لنا النقاط التالية كعوامل أساسية في تكوين ذلك البناء العلمي الفلسفي:
1- التطور المتلاحق والمكثف لقوى الإنتاج المادية في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط، هذه القوى التي قامت على نظام سقاية متطور تكنيكياً بشكل عال، وعلى تبادل بضائعي واسع الأبعاد ، وأخيراً على حركة تجارية منفتحة على العالم. وقد كنا قد عالجنا هذه المسائل في فصل سابق من هذا الكتاب.
2- إن أحدى خصائص التطور الفكري- العلمي والفلسفي- آنذاك يمكن الكشف عنها في البيئة الإيديولوجية للإسلام نفسه. في مقدمة المسائل المكونة لهذه البنية نجد مسألة « الخلق من عدم مطلق»، و" العلاقة بين الإله والإنسان" و" الحرية والجبرية" و" وعلاقة الصفات بالذات الإلهية ".
3- هاهنا ينبغي التأكيد على أن الإسلام في بنيته تلك قد تضمن أثارات عميقة لعملية تكون وتطور علم وفلسفة ذات معالم محدودة وواضحة. وقد برزت هذه الاثارات انطلاقاً من الجوانب الاجتماعية والسياسية في الإسلام. هذا يعني أن الأخير لا يمثل دينا فقط ، وإنما أيضاً "رؤية " دنيوية تطرح الأمور في الحياة الاجتماعية على نحو إيجابي.
4- أن الاتجاه الإسلامي الديمقراطي " الدنيوي" والمعادي للانغلاق الملي وللانعزال الاجتماعي يمكن البحث عنه في " رؤية " الإسلام تلك حول المجتمع الإنساني. وبالطبع، هاهنا يكمن تناقض بين الموقف الاجتماعي العياني المفعم باردة التغير والتحول لصالح الإنسان، وبين الإحساس الديني الذي يلحق ذلك الموقف بقوى خفية غيبية. إن ذلك التناقض يجسد بين الفعل واللافعل . وفي الحقيقة، أن الجوهر الديني القائم على سلخ المتدين من واقعه العياني بإلحاق هذا الواقع بقوى غيبية غير إنسانية، يجد نفسه باستمرار متعارضاً مع الفعل الإنساني الذي يقتضي بالضرورة أخذ ذلك الواقع العياني كما هو، دون أية إضافة خارجية.
إن هذا التعارض والتناقض كان في تاريخ الفكر العربي الإسلامي الوسيط خصباً للغاية. فقد عمل على توضيح معالم الاتجاهين الاجتماعيين الكبيرين ، الإقطاعي والبرجوازي التجاري المبكر. إن الأول من هذين الاتجاهين ألح على تلك " الإضافية الخارجية " بل جعل منها محور الوجود الإنساني ( وسوف نجد أن إلا شاعرة والغزالي قد مثلوا هذا الاتجاه بقوة وعلى نحو طريف ومثير حقا). أما الاتجاه البرجوازي التجاري والديمقراطي المبكر فقد ألح في الخط الأول على الفعل الإنساني الحر وعلى رؤية الوجود بكسب تدخل العنصر الإنساني الواعي( وبالطبع يقف المعتزلة وأبن رشد صفية ممثلي هذا الاتجاه. وذلك من خلال نظرية الخالقين والقول بتعطيل الصفات الإلهية ، لدى المعتزلة ومن خلال نظرية وحدة الوجود المادية والتأكيد على العقل الفعال العالمي المشترك بين جميع الناس على نحو ديمقراطي متساوي لدى أبن رشد).
لاشك أن الإسلام في فترة كفاحه الأولى ضد " الذي جمع ماله وعدده" والذي جعل من الأعداد الكبيرة من الأوثان مصدر ثروة ابتزها من " الفقراء والمساكين" ، إن الإسلام في تلك قد مارس ، بشكل غير مباشر ، بجانبيه، الأول القائم على الإضافية الخارجية، والثانية القائم على الفعل الإنساني المحول، دوراً إيجابياً كبيراً في أضعاف طاقة أصحاب الامتيازات الاقتصادية والروحية على قهر المضطهدين مع مضطهديهم إلى علاقة بينهم وبين"قوة" خفية غيبية تحتضن في يديها العادلتين مصيرهم، كان قد أدى ضمن ذلك الواقع التاريخي ، إلى تقليم أظافر البؤس الاجتماعي والروحي من خلال رفض" شرعية" التملك الاضطهادي لخيرات البلد من قبل هؤلاء المضطهدين . أن إعلان جميع الناس متساوين في الحقوق والواجبات أمام تلك " القوة " مارس في حينه تأثيراً في التخفيف من الضغوط الاجتماعية على المضطهدين وفي طرح قضية العدالة والحرية في المجتمع ضمن غلاف ديني.
وحين يرى بعض المؤرخين الإسلاميين كتاب القرآن ليس فقط كوثيقة دينية، بل كذلك كتراث حقوقي وأخلاقي واقتصادي واجتماعي( ). فإن هذا صحيح إذا أخذنا بعين الاعتبار الجانبين، الروحي والعملي في الإسلام. ولاشك إن الجانب " الروحي" قد أثر آنذاك بشك إيجابي . أما استيعاب هذا التأثير فيكمن في تفهم الوضع الاجتماعي الحضاري في تلك الحقبة التاريخية. أن فكرة أو تصوراً ما من التصورات تكتسب دلالات اجتماعية ونظرية مختلفة باختلاف الحالات التاريخية المتعاقبة. هذا يعني أن المشكلة تتحدد من خلال " المشروعية التاريخية " و" الحقيقية المعرفية".
وقد تعرضنا لهذه المسألة في موضع آخر من فصول هذا الكتاب . هاهنا يجدر بنا التأكيد فقط على أن الفكر المثالي والفكر المادي، والعلم والدين، ظاهرات مشروعة تاريخياً، وإن لم تكن جميعها صحيحة من وجهة نظر علمية معرفية دقيقة. ولاشك أن العلم والفلسفة قد ربحا الكثير من ذلك الواقع الخصب. وحيث وجد المناخ الاجتماعي والسياسي المجسد للأفاق المستقبل الديمقراطي المبكرة، كان الفكر الفلسفي والعلمي المادي البرطقي يضرب جذور عميق في الحياة الإنسانية.
وهناك عامل آخر ساهم بشك جوهري في تكوين وصياغة الإرهاصات الأولى الفلسفة والعلم في المجتمع العربي الوسيط، وهو التأويل لدى الفرق الكلامية. أن تاريخ هذه الحركة يمتزج بقوة وعلى نحو عضوي بنشوء وتطور الاتجاه الفكري الآخذ بـ" العقل" كمنطق وكمحور في طرح المسائل الفكرية والاجتماعية المختلفة.
وفي معرض الحديث حول اتجاه التأويل العقلاني يذكر المرء الممثلين الأوائل له، كما يذكر قمته ممثلة بالمعتزلة.
ولا شك أن " داود ابن المحبر" كان في طليعة الأوائل في هذا الاتجاه . كذلك يمكننا أن نرى في " مالك بن أنس" ممثلاً بمعنى معين لذلك الاتجاه . لقد برز داود بن المحبر من خلال كتاباته حول " العقل" . وهو في كتاباته هذه قد أرتكز على " حديث قدسي" حول العقل رواه ابن تيمية في " بغيته" ومفاده أن « أول ما خلق الله العقل ، فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ، فقال وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم عليا منك فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب والعقاب»( ).
والجدير بالذكر أن داود بن المحبر هذا قد عاش ، كما يخبر ابن تيمية، في بدايات القرن الثالث الهجري( ) ، أي في وقت كان القول بمثل ذلك يؤدي بصاحبه إلى عواقب وخيمة . ونحن هنا لا يهمنا فيما إذا كان ذلك الحديث صحيحاً عن لسان " النبي" أو موضوعاً، إنما الدفاع عنه واتخاذه مرتكزاً كبيراً من قبل ابن المحبر وجماعات أخرى هو الذي يبرز لنا واقع الصراع الفكري الذي دار بين " التسليمية " و " العقلانية " والذي عمل بدوره على بلورة آفاق التقدم الفلسفي والعلمي الحقيقي.
ولاشك أن داود بن المحبر قد حاول في ذالك – ونحن نرى هنا أن ذلك الحديث القدسي موضوع لأنه يتبين وجهة النظر العامة الإسلامية – القيام بتقديم تفسير عقلي في الخط الأول للقرآن . من طرف آخر نلاحظ أن مالك بن أنس قد ركز على وحدة النظر والعمل، أو الكلام والعمل. فهو يؤكد أنه لا يجب " الكلام إلا فيما تحته عمل "( ).أنه استطاع ، في ذلك ، أن يمنح مفهوم الممارسة العملية التجريبية نبضة قوية ، وإن كان قد عمل على كبح التفسير العقلاني الحر الإسلامي الأساسي ، القرآن. أن العلم والفلسفة العقلانية الهرطقية قد اختزنا دائماً الكثير من النتائج الإيجابية من خلال طرح الأمور الفكرية والدينية بشكل مجانب للـ"تسليمية " و"القدرية " و" الإيمانية ".
أما المعتزلة فقد مارسوا تأثيراً عميقاً حقاً على عملية تكون وتطور فلسفة وعلم متميزين في حدود الفكر المادي الفلسفي والإنساني الهرطقي المبكر في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط . لقد كان إبراز موقع الإنسان والتأكيد عليه تلقاء الإله المشكلة الأساسية التي عالجها المعتزلة والتي كونت قاسماً مشتركاً بين مجموع القضايا التي طرحت من قبلهم- ونحن نجد تلك المشكلة الأساسية قد ظهرت لدى المعتزلة من خلال مناقشتهم المسألتين، هما " صفات الذات الإلهية " و" حرية " الإنسان.
لقد كتب الشهر ستاني متعرضاً للمسألة الأولى : « الذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد : القول بأن الله تعالى قديم ، والقدم أخص وصف ذاته . ونفوا الصفات القديمة أصلاً ، فقالوا : هو عالم بذاته ، قادراً بذاته ، حي بذاته، لا يعلم وقدرة وحياة . هي صفات قديمة ، ومعان قائمة به، لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية . واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل....وسموا هذا النمط توحيداً»( ). وقد عبر عن هذا الاتجاه بكثير من الوضوح المعتزلي الكبير أبو الهديل العلاف (130- 226هـ) . فالخياط ، وهو أحد المدافعين عن الفكر المعتزلي ، يخبرنا أن أبا الهديل قال : " أن علم الله هو الله "( ).
ولقد رأى الكثيرون من مؤرخي الفكر في طرح المعتزلة هذا لـ" الصفات" نفياً مستتراً،أو على الأقل أضعافاً " سلبياً " لمفهوم " الإله" الإسلامي . وعلى العكس من ذلك ، أكد رواد الاتجاه الأشعري السني على الفصل بين الصفات والذات الإلهية ، واعتبروا أن التوحيد بين ذينك الطرفين يؤدي إلى تعطيل الإله. لقد« قال أبو الحسن (الأشعري) : الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة،حي بحياة، مريد بإرادة ، متكلم بكلام ، سميع يسمع، بصير يبصر. قال: وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى. لا يقال : هي هو، ولا هي غيره، ولا : لا هو ، ولا: لا غيره»( ).
لقد أدرك الاشاعرة المخاطر التي تنجم عن القول المعتزلي بنفي الصفات الإلهية. وهذا الأمر يبرز على وجه الخصوص بالنسبة إلى صفة " القدم" . فلقد احتلت هذه الصفة مكاناً أساسياً جوهرياً ضمن الصفات الإلهية أو " الأسماء الحسنى" . أن المعتزلة بتعريتهم الذات الإلهية من أي تعيين صفاتي، قد توصلوا إلى مفهوم الجوهر اللازماني و اللامكاني، بل الجوهر الخارج عن نطاق التعيين الوجودي. أن الإمعان والإيغال في السلب الصفاتي للذات أدى إلى تحويلها إلى نقيضها، اللاذات. وقد ألح على هذا الإتجاه اللاهوتي السلبي معمر بن عباد السلمي. فالشهر ستاني في مؤلفة الهام "الملل والنحل" يخبرنا " أنه يحكي (عن معمر بن عباد ) أنه كان ينكر القول بأن الله تعالى قديم وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال: أن الله تعالى محال أن يعلم نفسه. لأنه يؤدي إلى إلا يكون العالم والمعلوم واحداً. ومحال أن يعلم غيره، كما يقال محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود".
ويتابع الشهر ستاني، مؤرخ الفلسفة المثالي ، معلقاً على ذلك القول المعمري فيقول « ولعل هذا النقل فيه خلل. فإن عاقلاً ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير معقول»( ). وفي الوقت الذي طرح فيه المعتزلة قضية " التوحيد" على ذلك النحو السلبي التعطيلي ، فأنهم – ماعدا الصالحي – أكدوا على أن " العدم" يمثل شياء( ).
وقد "غالى (الخياط) في أثبات المعدوم شيئاً وقال: الشيء يعلم ويخبر عنه. والجوهر جوهر في العدم، والعرض عرض في العدم( ). مما لاشك فيه أن ملاحقة هذه المسألة لدى المعتزلة تشكل إحدى مهمات البحث عن الفكر المعتزلي الهرطقي المادي. أن مجموع الأجسام والجواهر والأعراض تتضمن ، حسب ذلك ، شكلين وجوديين ، هما الكموني والعياني. أما الانتقال من الواحد إلى الآخر ، فيتم من خلال تدخل الهي . والوجود الكموني ملتحم بوجود الإله على نحو لا ينفصل.
وبناء على ذلك فأن الإله لا يخلق شيئاً من عدم محض. أن الخياط يحاول في كتابه "الانتصار" عرض هذه المسألة والانتصار لها بالرغم من عدم الإفصاح عن ذلك، وذلك باسم الدفاع عن الجوهر الواحدي، الله( ). أن المفهومين الأرسطيين ، الإمكان والتحقق، قد أثر في صياغة المفهومين المعتزليين الأساسين ، الوجود الكموني والوجود العياني.
لقد كان " النظام" (مات 231هـ) قمة الفكر المعتزلي، وهو الذي أدخل مفهوم " الكمون" لأول مرة في الفكر هذا( ). ومما لاشك فيه أن المعتزلة بمقولتهم حول العدم ، من حيث هو شيء ، قد أصابوا مقتلاً من التصور المثالي الغيبي للإله. عن هذه المقولة تبرز ثلاث نقاط أساسية، هي :
1- رفض المصادرة الإسلامية حول الخلق من عدم محض أطلاقاً.
2- التأكيد على قدم العدم الشيء إلى جانب الإله.
3- الإضعاف من الموجود الأول ، وذلك بأسلوب مستتر وذكي.
أن هذه العملية قد تمت عبر منحيين، الأول إرجاع الفعل الإلهي إلى القيام بمساعدة الانتقال من الوجود الكموني إلى الوجود المتحقق للأشياء. أما المنحى الثاني فقد عبر عن نفسه من خلال السلوب الصفات للإله، بحيث يتحول هذا الأخير إلى مجرد أسم. فهو ، في صفاته الإسلامية كأصل محرك للعالم، يفقد على يد المعتزلة أي تحديد.
ويذهب النظام إلى التأكيد عل مفهوم السببية ومفهوم الضرورة من خلال تأطير الفعل الإلهي ضمن حدود السببية ، حيث يقول« لا يوصف الله بالقدرة على أن يخلق قدرة غير القادر، وحياة غير الحي»( ).القدرة المطلقة غير المحدودة واللاسببية التي يتمتع بها الإله تتخلى في فكر النظام لـ"قدرة" مؤنسنة ، لها حدود ضرورية . أما فكرة الحركة لدى النظام من حيث هي ( أي الحركة) "مبدأ تغيير ما"( ). فقد مارست تأثيراً حاسماً في تحديد تلك النقاط. وهذه الحركة، من حيث هي مبدأ تغيير ما، هي حركة الأجسام، أنها حركتها الذاتية ، المسماة بـ " حركة اعتماد "( ).
وفي الحقيقة ، أن « الأجسام كلها متحركة، حركتان: حركة اعتماد وحركة نقلة. فهي كلها متحركة في الحقيقة وساكنة في اللغة، والحركات هي الكون ، لا غير ذلك»( ). أن النظام الذي لا يرفض ، كيفية المعتزلة، على نحو مباشر مفهوم "الإله" كأصل للعالم ومحرك له، يؤكد تلك الحركة الداخلية للأشياء، حيث يرى " إن الأجسام في حال خلق الله" (لها) متحركة حركة اعتماد( ) . و حال الكمون للأجسام لا تنقصها الحركة عموماً، بل فقط الحركة الظاهرة .وهذه الأخيرة ما هي إلا تعبير عن الحركة المكانية( ). أن النظام لم يبحث في أي وضع كان يوجد في الجسم قبل الخلق، أي في أي وضع كموني وجد فيه. وبمعنى أدق ، أنه لم يصرح فيما أذا كان الجسم موجوداً بشكل عام قبل الخلق. ولكننا إذا استعدنا في ذاكرتنا المقولة المعتزلية عن العدم كشيء قديم قدم الإله نفسه، فأننا سوف نتوصل إلى الاستنتاج الهرطقي المنادي بأن الأجسام الموجودة كأشياء معدمة متحركة بذاتها وليس نتيجة فعل خارجي ، وأن التأثير الإلهي في عملية الخلق يرتد إلى عملية شكلية مرافقة. أن هذا الأمر قد أكد عليه على نحو خاص من قبل بعض المعتزلة ، مثل الخياط ، الذي بأن " الجوهر جوهر في العدم" والعرض في العدم"( ) .
أي إن الشيء موجود في حالة الكمون العدمية قبل إن يكون موجوداً بالتحقق. وهكذا فالأمر يتحدد بالنسبة إلى المعتزلة من خلال طرحه، انطلاقاً من وجود العالم المادي الذاتي، إلى جانب مشاركة إلهية في تحديد ذلك الوجود. وتحول الأشياء من حالتها الإمكانية إلى حالتها المتحققة العيانية هو فعل خاص بهذه الأشياء يعبر عنه بالانتقال من حركة الاعتماد إلى حركة النقلة. هاهنا يتبدى لنا التأثير الأرسطي القائم على مقولتي الإمكان والتحقق واضحاً. كذلك " العدم" كشيء موجود، يفصح عن تأثير بـ" المادي غير المتعبة " القديمة الأفلاطونية وبـ"المادي الأولى الأرسطية " . والجدير بالبحث والشيق في المسألة يكمن في إخضاع هذه القضايا الفلسفية المبدئية الخصوصيات الواقع الحضاري العربي الإسلامي الجديد وفي أغنائها، وبالتالي في تجاوزها لاحقاً من قبل الفلاسفة العرب الإسلاميين تجاوزاً خلاقاً . وفي الوقت الذي نؤكد فيه على أن هذه المسائل الكلامية المعتزلية تشكل مرحلة ما قبل الفلسفة في ذلك الواقع ، فأننا نرى أنه لم يكن للمرحلة الفلسفية المتميزة اللاحقة من غنى عن هذه المرحلة الأولى لكي تحدد ملامحها الجوهرية. بل أننا نميل هنا إلى الرأي بأن الفكر الكلامي ، المثالي منه والمادي ، والعقلاني منه والتسليمي، يشكل حلقة، وأن كانت أولية مبكرة وأحياناً كثيرة غير متميزة وبدائية ، للفكر الفلسفي اللاحق . أي أن التمييز المطلق بين علم الكلام والفلسفة غير دقيق.
أما فيما يخص قضية الحرية الإنسانية ، فقد كون المعتزلة حولها . وجهة نظر ذات أهمية عظمى في تاريخ الفكر الاجتماعي . ووجهة نظرهم هذه اتخذت اتجاها صريحاً في مناوئته للاتجاه القدري التسليمي. وقد مارس المعتزلة في نظريتهم تلك ، وخصوصاً في مرحلة الازدهار الاجتماعي والاقتصادي والعلمي العاصف أثناء حكم الخليفة المأمون، تأثيراً كبيراً في العلمية الإنسانية التنويرية . وفي الحقيقة ، إن تلك النظرية في الحرية الإنسانية تعبير عن التحولات الاجتماعية العميقة التي امتدت في أديم المجتمع آنذاك. أن المعتزلة جميعاً قد« اتفقوا على أن العبد القادر خالق لا فعاله خيرها وشرها»( ).
ويناقش أبو الهذيل العلاف الجبريين قائلاً : « فإذا كان الكافر عندكم غير قادراً على الخروج من الكفر الذي هو فيه فقد صح أنه ليس بمختار ولا فاعل له بل هو مضطر إليه مجبر عليه، لأن القادر على الفعل هو القادر على تركه. فإذا صحت القدرة على أمر من الأمور صحت على تركه، وإذا انتفعت عن تركه انتفعت عنه»( ).أن المعتزلة في طرحهم مسألة الفعل الإنساني الحر على هذا النحو الإنساني قد أثاروا جانباً أساسياً ثورياً من جوانب قضية الحرية: الإنسان بخيره وشره، بحبه وحقده، بعدالته واضطهاده هو المسؤول عن نفسه.
أنه هو جذر المشكلة وهو المؤهل لحلها. أن هذا الموقف الإنساني قد تكون في أحشاء التقدم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والسياسي آنذاك. ولقد كافح الاشاعرة ضد المعتزلة في مسألة " الحرية الإنسانية " هذه، كما في مسألة "الصفات" التي تكلمنا حولها سابقا. وهذا، ولا شك، موقف طبيعي منهم. فلقد قال هؤلاء باللاحرية الإنسانية، من طرف، وبالقدرة الإلهية المطلقة من طرف آخر، أما بالنسبة إلى القضية الأخرى، فقد أكدوا على الصفات للذات الإلهية تأكيداً تبرز فيه " التسليمية" و" الإيمانية " على نح كامل لدى الكثير منهم.
في الحقيقة أنه من الصعب إلقاء ضوء كشاف على الوضع الفكري في المجتمع العربي الإسلامي الوليد بمعزل عن البحث الدقيق في المسائل التي طرحتها المعتزلة، والتي هي، كما جاء في"كتاب الانتصا" للخياط، التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمهم في الأمر هنا يتركز في المسألتين الأوليتين. ولقد توصل المعتزلة في مناقشتهم لهما، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى نفي" الصفات" عن الذات الإلهية وتحويل هذه الذات إلى جوهر في ذاته. ولذاته كما توصلوا- وهذا بالعلاقة مع المسألة الأولى- إلى نفي الفعل والفعالية عنه، حيث يصبح الإنسان نفسه القابض على مصيره إن العصر المأموني ، الذي تميز باحتوائه بوادر جدية مبكرة للتطور الصناعي البورجوازي، كان العصر المعتزلي. والتأكيد العميق على العنصر الإنساني كان يتضمن بشكل أولي إمكانية الانفتاح على واقع الحرية والمساواة بالمعنى البورجوازي المبكر المناهض للهيكل الهرمي الطبقي الإقطاعي.
أن الترتيب الديني الممتد من الذات الإلهية حتى الإنسان " العادي "مروراً" فعالاً في مجابهة أرباب السلطة المالية والاجتماعية والدينية في المراحل الأولى من الإسلام، تحول على أيدي المتنفذين الإقطاعيين لاحقاً إلى أداة تبرير لكونها "الأوصياء" والقيمتين على المجتمع. في إطار هذا الوضع الجديد المتميز، وبالعلاقة مع تكوين البوادر المبكرة للمجتمع الصناعي البورجوازي الذي يؤكد على الفعالية الفردية الحرة، طرح المعتزلة فكرة الحرية والمسؤولية في الفعل الإنساني. أن علي سامي النشار، المدافع عن الأشعرية بحرارة ، يرى بحق بأن المعتزلة قد مضوا « في جراة وقوة نادرتين يعلنون أن قدرة الله وإرادته لا تؤثر على قدرة العبد وإرادته، لأن من المحال اجتماع مؤثرين على أثر واحد، لو أراداه معاً. أن الشيء المراد يتحقق إذا ما وجدت دواعيه»( ).
وبالطبع، أن الوجهة اللاجدلية العامة لآراء المعتزلة في "الحرية والمسؤولية" لا تدعو إطلاقا إلى الإقلال من قيمتها. بل أن هذه الآراء – منظوراً إليها في إطارها التاريخي- مارست دوراً عملاقاً في طرح قضية الإنسان من وجهة نظر هرطقية مادية. وبما أن المعتزلة قد قالوا يكون الإنسان الخالق الفعال لأفعاله الخيرة والشريرة، فقد جوبهوا بعنف من قبل النصيين الاشاعرة وغيرهم. فالاشاعرة ردوا على " الحرية" المعتزلية بتعليمهم حول "الكسب" الذي لم يخرجهم من نطاق القول بـ"القدرة والعناية" الإلهيتين المطلقتين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق