الاثنين، 14 سبتمبر 2015

محاضرات خطوات المنهج العلمي:

خطوات المنهج العلمي : يصطنع العلم الحديث كما رأينا ـ منهج الاستقراء . ويتمثل هذا المنهج في عدة خطوات تبدأ بملاحظة الظواهر واجراء التجارب ، ثم وضع الفروض التي تحدد نوع الحقائق التي ينبغي أن يبحث عنها ، وتنتهي بمحاولة التحقق من صدق الفروض أو بطلانها توصلا إلى وضع قوانين عامر تربط بين ظواهر ، وتوجد العلاقات بينها . وسنعرض لهذه الخطوات فيما يلي بشيء من التفصيل : 1ـ الملاحظة والتجربة : ( أ ) دور الملاحظة : يبدأ الاستقراء العلمي بملاحظة الظواهر على النحو الذي تبدو عليه بصفة طبيعية . وتنصب الملاحظة في أي علم من العلوم المستقلة على مجموعة الظواهر التي اتخذها ذلك العلم ميداناً له . ففي علم الفلك مثلاً تدور الملاحظة حول حركة الأرض والكواكب ، وفي علم الطبيعة تنصب الملاحظة على خواص المواد ومدى تأثرها بالعوامل الخارجية المختلفة ، وفي علم الاجتماع يهتم الباحث بملاحظة المجتمع وبنيته وظواهره والعلاقات بين أفراده . وهكذا الحال في كل علم من العلوم . والملاحظة نوعان : بسيطة غير مقصودة ، وعملية مقصودة . وتقوم المتفرقة بين هذين النوعين على أساس قدرة العقل على التدخل في إدراك العلاقات التي تربط بين الظواهر . فإذا كان التدخل العقل بسيطاً ، ومساهمته في فهم الظواهر محدوداً ، كانت الملاحظة بسيطة ، وإذا كان نصيبه كبيراً في إيجاد الصلات وإدراك العلاقات بين الظواهر ، كانت الملاحظة عملية . وتعرف الملاحظة البسيطة عادة بأنها الملاحظة التي لا تهدف إلى الكشف عن حقيقة عملية محددة ، أو غاية نظرية واضحة . ويدخل هذا النوع من الملاحظة في نطاق المعرفة الحسية "التجريبية" التي سبق الحديث عنها ، والتي وصفناها بأنها تقف عند بعض المواقف العلمية . المحدودة ، والتي تبدو قاصرة تماماً في محيط التفكير النظري ، ومحاولة تفسير الظواهر وتعليلها . على أن الملاحظة غير المقصودة قد تتحول في بعض الأحيان إلى ملاحظة مقصودة ، فيصل الباحث عن طريقها إلى تقرير حقائق عملية على جانب . كبير من الأهمية ، وتتميز الحقائق الجديدة بما يأتي : 1ـ أنها لم تكن مقصودة لذاتها ، فهي تأتي عن غير عمد unanticipated ذلك لأن الباحث كان يلاحظ ظاهرة أو يسعى إلى تقرير حقيقة ، فالكشف حقيقة أخرى لم يكن يسعى غليها . 2ـ وبأنها تدعو للدهشة anamolous لأن الحقيقة الجديدة قد تقلب بعض الحقائق التي تواضع عليها العرف العلمي السائد . 3ـ وبأنها تصبح ذات أهمية استراتيجية من الناحية العلمية strategic بمعنى أن الحقيقة الجديدة ـ بعد دراستها ومحاولة التثبت من صحتها ـ تصل بالباحث إلى رفض نظرية قائمة ، أو تقرير نظرية جديدة . ويمكن التمثيل لهذا النوع من الملاحظات بما حدث لنيوتن حينما لاحظ. تفاحة تسقط من شجرتها ، فاسترعى سقوطها انتباهه ، فشرع في دراسة ظاهرة سقوط الاجسام ، وانتهى من دراسته إلى تقرير قانون الجاذبية الأرضية . ومن الأمثلة الأخرى ما حدث لأحد العلماء السويسريين حينما كان يقوم ببعض التجارب في معمله . فقد كان ممسكاً بنهايتي سلكين متصلين بدائرة كهربائية بها جلفانومتر حساس ، فلاحظ أن أبرة الجلفانومتر تتحرك أحياناً بلا سبب ظاهر. وقد اثارت الملاحظة اهتمامه ، فحاول أن يهتدي إلى سبب حدوث هذه الظاهرة ، فتبين له إبرة الجلفانومتر تنحرف عندما يكون هو في حالة انفعالية كالخوف أو التألم وما إليهما ، وما أن انحراف الإبرة معناه سهولة مرور التيار الكهربائي في اليد الممسكة بنهاية السكين ، فأنه استنتج أن الحالة الانفعالية قد ينتج عنها سهولة مرور التيار الكهربائي في جسم الانسان . وكان العالم الروسي بافلوف Pavlov يقوم بأبحاث تجريبية على عملية الهضم عند الكلاب الجائعة ، فلاحظ سيلان اللعاب في فم الكلب قبل أن يقدم له الطعام فعلاً ، ووجد أن هذا الافراز للعاب يحدث عند رؤية الكلب للطعام أو عند رؤيته للشخص الذي يقوم باطعامه ، بل عند سماع الكلب وقع اقدام هذا الشخص في حجرة أخرى مجاورة . وقد أثارت هذه الملاحظة اهتمام بافلوف ، لأن المثير الطبيعي لإثارة نشاط الغدد اللعابية هو الطعام نفسه ، وليس رؤية شخص معين أو سماع وقع خطواته . وبدراسة هذه الظاهرة توصل بافلوف إلى ما يسمى بالفعل المنعكس الشرطي cond tioned reflex وقد كان لهذا الاكتشاف أثره في الوصول إلى نظرية التعلم الشرطي في علم النفس . ونكتفي بالأمثلة السابقة للتدليل على أهمية هذا النوع من الملاحظة في الوصول إلى حقائق علمية على جانب كبير من الأهمية والخطورة . وأوضح من الأمثلة السابقة أنه ليس هناك تعارض بين الملاحظة العرضية والملاحظة العادية . فالملاحظة الثانية قد تكون امتداداً للأولى . كما أن الملاحظات العرضية ـ التي سبقت الإشارة إليها ـ هي التي أوحت بفرض الفروض وتنظيم التجارب واجرائها لاستنتاج النظريات . وتعتبر الملاحظة العلمية أعلى مكانة وأسمى درجة من الملاحظة العرضية . فهي تتميز بوضوح الغاية التي تسعى إليها وهي الكشف عن الخواص الرئيسية للظاهرة المدروسة ، ومعرفة الظروف التي أوجبت وجودها توصلاً إلى كسب معرفة جديدة وتحقيق هدف علمي محدد . وتعتمد الملاحظة العلمية على نظريات دعمتها حقائق العلم ، فكثيراً ما يسترشد الباحث بإحدى النظريات العلمية في توجيه ملاحظاته إلى عوامل ومتغيرات variables جديدة أو في تفسير ملاحظاته تفسيراً علمياً صحيحاً .وقد استفادت العلوم الطبيعية من هذا الأسلوب في البحث . وكلما زادت قوانين العلم ونظرياته ، كانت الملاحظة العلمية أكثر دقة ووضوحاً . ولا يكتفي الباحث العلمي بالحواس في ملاحظة الظواهر ، بل يستعين بأجهزة مختلفة بعضها للتكبير والتقريب كالميكروسكوب والتليسكوب . وبعضها للقياس كالترمومتر والميزان ، وذلك ضماناً لدقة النتائج من ناحية وتفادياً لقصور الحواس من ناحية أخرى . وكلّما كرت الآلات المضبوطة ، والمقاييس الدقيقة ، كان ذلك إيذاناً بتقدم العلوم ونموها . وفي ذلك يقول كلود برنارد : إني اعتقد أن الكشف عن أداة جديدة للملاحظة والتجربة في العلوم التجريبية الناشئة اكثر فائدة من عدة أبحاث مذهبية أو فلسفية . ( ب ) دور التجربة : لا تكفي ألوان الملاحظة التي عرضناها في التعرف على الحقائق العلمية . فقد راينا أن الباحث في حال الملاحظة يرقب الظاهرة التي يدرسها دون أن يحدث فيها متغيراً ، أو يعدل الظروف التي تجري فيها ، كما أنه يكتفي بما تقدمه له الطبيعة من ظواهر دون أن يوجد ظروفاً مصطنعة تهيء له دراسة الظاهرة على النحو الذي يريده . ولذلك كان من الضروري استخدام التجارب في البحث العلمي . والتجربة ليست إلا ملاحظة علمية تحت الضبط الناتج عن التحكم أما من جانب الباحث أو الطبيعة . فالقائم بالتجربة يستطيع ان يعدل الظاهرة بحيث تبدو في أنسب وضع صالح لدراستها ، كما أنه يستطيع أن يكرر التجربة ، ويعيدها تحت ظروف مختلفة ، ويلاحظ النتائج التي يحصل عليها في كل مرة ، ويقارن النتائج بعضها ببعض . وللتجربة فضل كبير في وصول معظم العلوم ـ خاصة العلوم الطبيعية ـ إلى ما وصلت إليه من تقدم ورقي . وقد استفادت العلوم الاجتماعية كما استفادت العلوم العضوية من التجارب غير المباشرة ،و هي التجارب التي تمدنا بها الطبيعة دون تحكم من جانب الباحث . وللتجارب غير المباشرة قيمة عملية كبرى ، وهي لا تقل في أهميتها عن التجارب التي يتحكم فيها الباحث بنفسه ، والتي تجري تحت ظروف صناعية . وتقوم الملاحظة والتجربة ـ في المرحلة الأولى للبحث ـ بتوجيه تفكير الباحث إلى وضع الفروض العلمية . ولذا فكل ملاحظة لا توجه تفكير الباحث إلى فكرة يكمن التحقق من صدقها تعد خطوة غير مجدية ، وكل تجربة لا تساعد على وضع أحد الفروض تعد تجربة عقيمة تافهة . 2ـ وضع الفروض العلمية : تعتبر الفروض العلمية مجرد أفكار مبدئية تتولد في عقل الباحث عن طريق الملاحظة والتجربة ، وهذه الأفكار ينبغي ان تكون قابلة للاختبار العلمي الدقيق . وتعتمد الفروض على خبرة الباحث السابقة في موضوع بحثه وما يتصل به من موضوعات . كما تعتمد على قدرة الباحث على استغلال معلوماته السابقة والملمة بمختلف جوانب الثقافة القائمة في المجتمع . وقد تأتي الفروض للباحث كالهام مفاجئ نتيجة تفكيره المستمر وبحثه المتواصل في الظاهرة التي يقوم بدراستها . وليس الفرض قاصراً على ميدان البحث العلمي .فالإنسان في حياته اليومية تعرض له أمور تحتاج إلى تفسير، وتواجهه كثير من المشكلات. والانسان الواعي المستنير يواجه المشكلة بصبر وأناة ، ويستعين بتفكيره في مواجهة الأمور التي تعرض عليه . فيضع احتمالات ، ويفترض فروضاً ، ثم يحاول التحقق من صحة هذه الفروض ليستبقي منها ما يراه كفيلاً بتفسير الموقف . ولذا فإننا نستطيع القول بان التفكير السليم هو البحث العلمي السليم ، وأساليب البحث العلمي السليمة هي بعينها أساليب التفكير السليم . وبالرغم من أهمية الفروض في التفكير وفي البحث العلمي ، فإن بعض العلماء يحاربون مبدأ فرض الفروض قائلين أنها تبتعد بالباحث عن الحقائق الخارجية لانها تعتمد على تخيل العلاقات بين الظواهر ، في حين ان الملاحظة والتجربة تكفيان في الكشف عن القوانين . كما أنها تدعو إلى تحيز الباحث ناحية الفروض التي يضعها مع إهمال باقي النواحي الأخرى المحتملة . ومن العلماء من يكتفي بمحاربة الفروض التي لا يمكن التحقق من صحتها لأنها تحجب الحقائق وتشوهها ، ومنهم من يقف منها موقف الحذر ، ويرفض أن يعترف بوظيفتها الأساسية في المنهج العلمي . وفي رأينا أن للفروض أهمية كبرى وخاصة في البحوث التجريبية ، فهي توجه الباحث إلى نوع الحقائق التي يجب أن يبحث عنها بدلاً من تشتت جهوده دون غرض محدد ، كما أنها تساعد على الكشف عن العلاقات الثابتة التي تقوم بين الظواهر . وقد أبرز كلود برنارد أهمية الفروض وضرورتها بقوله : أن المنهج التجريبي لا يتحقق إلا إذا اجتمعت فيه أمور ثلاثة هي : الحدس ، والتجربة ، والاستدلال . اما الحدس فهو الشعور الغامض الذي يعقب ملاحظة الظواهر ، ويدعو إلى نشأة فكرة عامة يحاول بها الباحث تفسير الظواهر قبل أن يستخدم التجارب . وهذه الفكرة العامة ـ أو الفرض بعبارة ادق ـ هي أساس المنهج لأنها هي التي تثير التجارب والملاحظات وتحدد شروط القيام بها . أما الاستدلال فيأتي بعد ذلك ، وهو يستخدم في استنباط نتائج الفروض لمعرفة مدى مطابقتها للتجارب . أما من ناحية تحيز الباحث للفرض الذي يضعه ، فإننا نفترض في الباحث المثالية والأمانة العلمية ، ومن الممكن غرس الأمانة العلمية في نفس الباحث عن طريق تعويده على الدقة والملاحظة ، وتدريبه على طريق البحث السليمة ، كما ان من الممكن ضمان الموضوعية العلمية باستخدام وسائل دقيقة للقياس . ومن الضروري ألا يتسرع الباحث في وضع الفروض ، وأن يستمدها من الملاحظات والتجارب التي يقوم بها ، وألا يجعلها مخالفة للحقائق المقررة والقوانين العلمية ، كما يجب عليه ان يصوغ الفروض بطريقة تجعلها قابلة للاختبار . 3ـ اختبار الفروض : تعتبر هذه المرحلة من اهم مراحل البحث . فالفرض في حد ذاته ليست له قيمة علمية ما لم تثبت صحته إثباتاً موضوعياً مقنعاً . وغالباً ما يؤدي الفرض إلى إجراء التجارب ، والقيام بملاحظات جديدة ، وذلك للتأكد من صدقه ، والتثبت من صحته . وتهدف التجربة إلى التعرف على ما يحدث في جانب أو متغير معين من جوانب الظاهرة التي ندرسها بدلالة جانب أو متغير آخر في حالة ثبات سائر المتغيرات . فإذا كنا ندرس مثلاً أثر الوراثة والبيئة في السلوك الإجرامي أو الذكاء ، فإننا نحاول تثبيت احد المتغيرين لندرس أثر الآخر .ولقد سار العلماء في هذا الاتجاه حينما حاولوا معرفة أثر البيئة في الذكاء . فأنهم ثبتوا عامل الوراثة بإجراء أبحاثهم على التوائم المتشابهة التي تمت تنشئتهم في بيئات منفصلة . وحينما درسوا أثر الوراثة في الذكاء ، فإنهم ثبتوا عامل البيئة واجروا أبحاثهم على أطفال منتسبين لآباء مختلفين وأجريت تنشئتهم معاً كما هو الحال في أطفال الملاجئ . وبالرغم من ان بعض البحوث العلمية لا تشتمل على التجريب أو الدراسات المعملية ، وتعتمد على مناهج أخرى كالمنهج التاريخي مثلاً ، إلا أن التجريب يعد إحدى الدعائم القوية التي تعتمد عليها العلوم ، وبفضله وصلت كثير من العلوم إلى درجة كبيرة من التقدم والرقي . ومن الأمور الهامة في البحوث التجريبية ان تكون هناك قواعد عامة يسترشد بها الباحث في التحقق من صحة الفروض التي يختبرها . وتعتبر طريقة الحذف elimination من الطرق المتبعة في البحوث العلمية التي تحاول إيجاد العلاقة بين عامل واحد وبين الظاهرة موضوع الدراسة . وتنحصر هذه الطريقة في أن يضع الباحث جميع الفروض الممكنة لتفسير ظاهرة معينة ، ثم في حذف الفروض التي لا يؤيدها الواقع ، او التي لا يمكن اثباتها . وكثيراً ما تتمخض هذه الطريقة في العلوم الطبيعية عن استبقاء فرض واحد يقوم عليه البرهان بطريقة علمية . اما إذا ثبت خطأ الفروض جميعاً فمعنى ذلك ان الباحث لم يستوعب جميع الحلو ل الممكنة ، ولم يصل بعد إلى الفرض الصحيح . ولذا وجب عليه ان يعيد الملاحظات والتجارب ، ويضع فروضاً جديدة ثم يحاول التحقق من صدقها حتى يصل إلى الفرض الذي يمكن إثبات صحته إثباتاً علمياً . وقد وضع كل من فرنسيس بيكون f.bacon ، و جون ستيوارت ميل j.s.mill قواعد للتحقق من صدق الفروض باستخدام المنهج التجريبي سنشير إليها فيما بعد . ومن الضروري عند إجراء التجارب العلمية ألا يختبر الباحث أكثر من فرض واحد في الوقت نفسه ، وألا ينتقل من فرض إلى آخر إلا إذا تأكد من خطأ الفرض الأول . ومن الضروري أيضاً ألا يقنع الباحث باختبار الأدلة الموجبة التي تؤيد الفرض لان دليلاً واحداً يتنافى مع الفرض كفيل بنقضه ولو ايدته مئات الشواهد . فإذا وجد قتيل مصاب بطلقة نارية في صدغه الأيسر ، وظهر أن البندقية التي استخدمت في الإصابة ملك القتيل ، وأن أصدقاء القتيل الموثوق بصحة كلامهم يذكرون انه كان مكتئباً بسبب وفاة زوجته ، وان القتيل ذهب إلى محاميه في اليوم السابق لمقتله لكي يرتب الأمور الخاصة بوصيته ، ثم تبين ان ذراع القتيل اليسرى كانت مشلولة منذ سنوات ، فبالرغم من ان معظم الأدلة تؤيد الفرض القائل بان القتيل قد انتحر ، إلا أن الدليل الذي يقول بأن ذراع القتيل اليسرى شلت منذ سنوات يكاد ينفي الفرض نهائياً إذ انه ليس من المحتمل ان يستخدم القتيل ذراعه المشلولة في إطلاق الرصاص على صدغه الايسر . ومن الضروري أيضاً إلا يتحيز الباحث لفروضه ، بل يكون على استعداد تام لان يستبعد جميع الفروض التي لا يؤيدها نتائج التجارب والملاحظات العلمية . فالعلم لا يستفيد فقط من الفروض الصحيحة ، وإنما يستفيد أيضاً من الفروض التي يثبت بطلانها . فعن طريق المحاولة والخطأ يستطيع الباحث ان يصل إلى فرض الصحيح ، وقد قيل ان كبلر لم يهتد إلى القول بان مدارات الكواكب السيارة لها شكل بيضاوي إلا بعد ان اختبر تسعة عشر فرضاً متتالية كان آخرها الفرض الصادق . ثم أن الباحث كلما أثبت خطأ فرض من الفروض اقترب في بحثه من الحقيقة . وللتدليل على هذا القول نضرب مثلاً لما حدث في مصنع " هاوثورن " التابع لشركة " ويسترن اليكتريك western electric " بالولايات المتحدة . ففي الفترة بين1927، 1932 أجريت تجارب في ذلك المصنع كان الهدف منها دراسة الصلة بين الكفاية الإنتاجية وبين الظروف الفيزيقية العمل ، والصلة بينها وبين التعب والملل وطول ساعات العمل اليومي وفترات الراحة ومستوى الأجور ، وقد افترض الباحثون وجود صلة وثيقة بين انقاص ساعات العمل وإدخال فترات للراحة وزيادة الأجور وبين زيادة الكفاية الإنتاجية لدى العمال . ولإجراء التجربة اختار الباحثون ست عاملات و وضعوهن في حجرة اختبار خاصة . فلاحظ الباحثون أن زيادة الإضاءة تؤدي إلى زيادة في كفايتهن، وكلما امتد التحسين إلى ظروف خارجية أخرى كإدخال فترات للراحة أو انقاض ساعات العمل، أو زيادة الاجر ، اطردت الزيادة في الكفاية الإنتاجية في كل مرة يدخل فيها تحسين جديد ، غير ان الباحثين لاحظوا شيئاً لم يكونوا يتوقعونه ، ذلك أن العاملات كانت كفايتهن الإنتاجية تستمر في التحسن حتى بعد ان أعيدت ظروف العمل إلى ما كانت عليه من قبل ، أي بدون فترات للراحة وبدون تقليل لساعات العمل اليومية أو الأسبوعية ، وقد حاول الباحثون الاهتداء إلى الحقيقة العلمية ،فوضعوا فروضاً جديدة . ثم تبين في النهاية ان السبب في زيادة الكفاية الإنتاجية لا يرجع إلى الظروف والبواعث الخارجية بقدر ما يرجع إلى ارتفاع الروح المعنوية لدى العاملات . فقد شعرن أنهن نخبة اختيرت من بين زميلاتهن للتجربة ، وأن المصنع يهتم بهن كأفراد لا كمجرد آلات في المصنع ، كما نشأة بين الفتيات الست علاقات أولية كان لها أثرها في تقوية روحهن المعنوية ، و لذا زاد تحمسهن للعمل . وبعبارة أخرى وجد الباحثون ان الفرض الصحيح يشير إلى أن العوامل الحاسمة في زيادة القدرة الإنتاجية نفسية اجتماعية وليست مادية . وإذا وجد الباحث أمامه فرضين متناقضين ، فعليه ان يبرهن على خطا احدهما حتى يتأكد من صدق الآخر . وإذا وجد الباحث ان التجارب تؤيد صحة الفرض الذي وضعه ، فعليه أن يقوم بإحصاء جميع الفروض المرتبطة بالفرض الأول ثم يتأكد من صدقها لاكتشاف القانون الذي تخضع له الظاهرة التي يقوم بدراستها . ويشترط في التجارب أن تكون موضوعية غير متأثرة بذات الباحث وأهوائه . ويقتضي هذا من القائم بالتجربة ان يتوخى الدقة في التعبير عن النتائج التي يحصل عليها ، وأن يكون منزهاً عن الفرض حتى يرى الأشياء على حقيقتها لا كما يود هو ان يراها ، وان يكون اميناً في عرض النتائج حتى يستفيد بها غيره من الباحثين . فليست حقائق العلم وقفاً على فرد دون فرد ، أو شعب دون آخر ، وإنما هي تراث مشترك بين الإنسانية جمعاء . 4ـ الوصول إلى تعميمات علمية : إذا ايدت التجارب والملاحظات العلمية صحة فرض من الفروض دون أن يوجد فرض آخر يناقضه أو يتعارض معه ، فإن الفرض الصادق ينتقل إلى مرحلة القانون . وكثيراً ما توحي عدة فروض صحيحة بتكوين قانون واحد ، كما توحي فروض غيرها بتكوين قانون ثانٍ وثالثٍ وهكذا . وكلما تقدم علم من العلوم ، حاول الاقلال من عدد القوانين المستقلة فيه ، ومد نطاق العلاقات القائمة بينها ، وذلك بالربط بينها في قانون عام واحد يطلق عليه قانون القوانين . ويتميز هذا القانون الأخير عن غيره من القوانين الجزئية بانه أكثر عمومية واكثر تجريداً . وقد اقترب علم الفيزياء شيئاً ما من هذا الكمال . وبلغ مرحلة من النمو تسمو على ما بلغه أي علم آخر ، ولذلك لتقدم وسائل القياس فيه ، ولان العلماء توافروا على تهذيب قوانينه منذ زمن طويل . وقد سبق أن بينا أنه بفضل منهج الاستقراء الناقص يستطيع الباحث أن يربط بين الحقائق الفردية المتفرقة التي يجمعها ، ولا يقتصر على الحالات التي يدرسها ، بل يضع القوانين التي تنطبق على الحالات المشابهة والتي لم تدخل في نطاق بحثه . والباحث الذي يقتصر على جمع الحقائق ، ويتركها منفصلة عن بعضها دون ان يربط بينها ، ودون أن ينتقل من الحقائق التي درسها إلى الحقائق المجهولة التي لم تدخل في نطاق بحثه ، يكون شانه كمن يعتقد ان البناء قد تم حين يتم له جمع الأحجار . غير أن العلم لا يكوم الحقائق كقوالب الطوب ، وإنما يصل بينها ليقيم بناء متكاملاً على أساس التعميمات . ولا ينتهي المطاف بالعلماء عند وضع القوانين العلمية . فاكتشاف القوانين يدعو إلى وضع النظريات التي تعمل على تفسير الحقائق والقوانين . والنظرية العلمية تصبح أكثر احتمالاً للصدق إذا فسرت أكبر عدد من الحقائق والقوانين , ومجال تكوين النظريات مجال هام للتفكير العلمي . والتفكير النظري الخلاق هو في رأي " تالكوت بارسونز" أعلى مراتب النشاط الفكري في الميادين العلمية . ولا ينبغي أن يقلل من شانه اعتقاد البعض بانه لا يعتمد على الحقائق قدر اعتماده على التفكير الفلسفي . فالواقع انه لا يتعارض مطلقاً بين الحقيقة والنظرية العلمية . فكلاهما مكمل للآخر ، متمم له . والنظرية العلمية لا تقوم إلا على أساس من الحقائق الموضوعية ، ولا يكتب لها البقاء إذا كانت تحتوي على عناصر غيبية لا تخضع للبحث العلمي أو للتجريب ، وما لم تتأيد بالحقائق الجديدة التي يصل إليها العلماء . كما أن الحقيقة في حد ذاتها لا تصبح لها قيمة علمية إلا إذا ارتبطت مع غيرها من الحقائق في إطار نظري ، ومالم تساعد على اثبات أو رفض نظرية قائمة ، او تؤدي إلى اكتشاف قوانين ونظريات جديدة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق