السبت، 7 نوفمبر 2015
محاضرة عن القضاء البدوي
القضاء البدوي:
القضاء قديم عند البدو قدم حياتهم البدوية ، ويعتبر النابغة الذبياني قاضياً بين الشعراء ، فقد كانوا ينصبون له قبة من أدم ويتقدم الشعراء بين يديه لإلقاء قصائدهم ، وكان يحكم ويبين من أكثر شاعرية بينهم ، ويبدو أن المعلقات كانت تلقى في هذا السوق وما نال استحسان الناس وقبولهم يتم تعليقه على جدران الكبعة في مكة ليزيد انتشاره بين الناس.
وحياة الناس قديماً وحديثاً مليئة بالمشكلات والنزاعات والصراعات وهذا يحتاج إلى وجود جهة تحكم بينهم ، أو تجري الصلح بين الجهات المختلفة ، وكان معظم الأحكام في المجتمعات القديمة غير مكتوب ، وإنما يتناقلها الناس مشافهة ويتعارفون عليها ، ولقد تطورت مؤسسة القضاء مع تطور المجتمعات ، وكان للإسلام دور كبير وبارز في هذا الشأن حيث بين الأحكام المختلفة لكثير من القضايا التي كانت ولا تزال منتشرة بين الناس مثل القتل ، والجروح ، والسرقة والزنا ، والاعتداء على الممتلكات وغيرها من جوانب الخلاف والنزاع بين الناس.
ولقد كتب كثيرون عن القضاء عند البدو ، وأثنوا على إجراءاته ، وأنها موافقة للشريعة الاسلامية في الغالبية العظمى منها ، بل إن بعض قضاة البادية لديه إطلاع ومعرفة بكثير من أحكام الشريعة في القضايا المختلفة ، يقول خير الدين الزركلي "من تتبع أحكام القضاء في بادية الحجاز ، وعرف طرائقه وأساليبه ، أعجب به كل الاعجاب ، ورأى انتظاماً محكماً ، وقوانين متوارثة ، تتفق مع عاداتهم وأخلاقهم وسيرهم في الحياة الاجتماعية. ومن الخطأ أن يظن ظان أن قبائل العرب في البادية مطلقو السراح ، ملقى حبل كل منهم على غاربه ، بل إن هناك محاكم وقضاة أشبه بمحاكم الحضر وقضاتهم ، فترى القاضي الابتدائي والاستئنافي والتمييزي كما نسميه نحن. وهم لا يعرفون هذه الأسماء وإنما يعرفون أن هذا القاضي دور ذاك مكانة ، وفلان دون فلان ، فربما رجعوا إلى الأول في القضية ، فإذا فصل بينمها بما يرضي الفريقين ويقنعهما اكتفوا به ، وإلا رفعوا القضية إلى من هو أرفع منه ، فإذا لم يرو غليلهم قصدوا القاضي الأعلى –وهو كالتمييز- لا يردون له حكماً ، ولا يعدلون عما يقضي به أرضاهم أو أغضبهم" "خير الدين الزركلي ، وما رأيت وسمعت، 1923م المطبعة العربية ، مصر ص:150". وعندما كتب الزركلي كتابه هذا كانت الحياة البدوية في أوجها ، وكانت هي الغالبة على حياة العرب في المشرق والمغرب.
وكما ذكر الزركلي عن وجود درجات في القضاء البدوي ، فإن هناك قضاء معرفون في كل قبيلة ، يأتي الناس لهم عندما يختلفون ، وقد يكون بعضهم أعلى واكثر خبرة ودراية من البعض الآخر ، فلا تعرض عليهم إلا القضايا الصعبة والمعقدة ، أما القضايا البسيطة قفد يحكم فيها من هو دونهم ، وتختلف أسماء هؤلاء الحكماء باختلاف القضايا التي اعتادوا النظر فيها وذلك على النحو التالي "محمد زهير مشارقة ، مصدر سابق: 226-227":
1 – الوجه أو الملم: وهم الاشخاص الذين يجتمع عندهم طرفاً الخصومة لأول مرة ، من أجل تعيين نوع داعوهما ، وتحديد القضاة المناسبين لها ، فإذا اتفقا في ذلك الاجتماع على القضاة والموعد ، وإلا سار إلى المعترضة أو الكبار. وسمي الشخص الوجه لوجاهته ، وسمي الملم لأنه يلم ويجمع المتخاصمين ، وقد يكو نمن معاينها أنه ملم وعارف بهذا الموضوع.
2 – المعترضة ، أو الكبار: وهم الأشخاص الذين يحق لهم تعيين نوع الدعوى ، وأن يسموا القضاة الذين يجب على المتخاصمين أن يذهبوا إليهم لعرض القضية ، ويجوز للمعترضة أو الكبار كما يسميهم البعض أن يصلحوا بين الفريقين ، ويحسموا الدعوى.
3 – أهل الديار: إذا كان النزاع على أراض وحدود سيق المتخاصمان إلى أهل الديار ، وبعضهم يسميهم أهل الإقطاعات ، وهم قضاة الأراضي والعقارات ، وغلباً ما يكونون من أصحاب الأملاك الكبيرة ، ومن محمودي السيرة ، ولهم سمعة حسنة وخبرة في مسائل الأراضي والإرث والحدود ، و هذا النوع يشيع بين البدو شبه الرحل ، والبدو المستقرين ، أما البدو الرحل فلا توجد عندهم ملكيات للأراضي لكثرة تنقلهم وترحلهم في الديار ، وإذا نشأ هذا النوع من النزاع فإنه ينشأ بين قبيلة وقبيلة على الحدود والتعدي بالرعي في ممتلكات قبيلة أخرى ، وهذا النوع من النزاع لا يحله إلا شيوخ القبائل الأخرى ، والأعيان ، وقد يؤدي هذا النوع من الخلاف إلى حروب بين القبيلتين المتنازعتين.
4 – أهل الأرسان: إذا كان النزاع على خيل أو إبل ، رفع المتخاصمون قضيتهم إلى أهل الارسان وهم قضاة الخيل والإبل ، وهم متخصصون في فض المنازعات التي تحدث حول الخيل والابل ، من حيث بيعها وشرائها ، والعطب الذي يلحق بها أثناء إعارتها ، أو بيعها من قبل من لا يملكها ، أو لديه شبهة في ملكيتها.
5 – أهل حق الوجه أو المناشد: إذا كان النزاع على قضية عرض أو اقتحام منزل ، سيق الطرفان إلى أهل حق الوجه ، أو المناشد ، وهؤلاء يحكمون في القضايا التي تؤدي إلى بياض الوجه ، ورد الحق لصحابه ، ورد الاعتبار لهم. والمناشد نوعان:
أ – منشد قرض وفرض: عند ثبوت القضية وعدم الحاجة إلى برهان.
ب – منشد اعتيادي: وهذا للقضايا المشتبه بها والتي تحتاج إلى تمحيص ، وتحليل وشهود وقرائن.
6 – أهل حق الحلال أو الضريبة والزيود: يطلق على المواشي عند البدو والكثير من سكان الأرياف مسمى الحلال ، والبعض يطلقها على الملك ، فيقول هذا حلال فلان ، أي ملكة وحلال له ، وإذا كان النزاع حول ملكية ماشية أو ملكية مال كان التحاكم إلى أهل حق الحلال أو الضريبة أو الزيود ، وهم القضاة الذين يحكمون في مسائل المال مثل الاختلاف على ملكية الأغنام أو الإبل ، أو سرقتها ، أو قضية العداية ، وما ماثل ذلك وهم على درجتين:
أ – ضريبة: وهم أضعف حكماً وأقل صلاحية من الزيود.
ب – زيود: وهم أشد حكماً ، وأوسع صلاحيات من الضريبة.
ج – مناقع الدموم أو القصاصين: إذا كان النزاع من أجل دم ، كقتل أو قطع عضو أو جرح ، مثل الطرفان أما قاضي الدموم أو قاضي القصاص ، وهم القضاة الذين يحكمون في مسائل القتل ، وتقدير الجروح ، وتقييم إصابة الأعضاء ، وما يترتب على ذلك من ديات ، وتعويضات.
8 – أهل العشائر: إذا كان النزاع بين فخذين من قبيلة واحدة ، أو من عشيرة واحدة تم التقاضي إلى من يعرفون بأهل العشائر ليفصلوا بينهم.
مراحل التقاضي عند البدو:
يمر التقاضي عند البدو بعدد من المراحل وذلك على النحو التالي:
1 – اختيار القاضي: وذلك حسب القضية وحسب التخصص الذي تم التحدث عنه آنفاً.
2 – دفع رسوم المحاكمة "الرزقة": وقد تكون نقدية أو عينية. وفي حالات كثيرة تؤجل هذه المرحلة التي حتى النطق بالحكم ، وعندها يتحمل تكاليف رسوم المحاكمة من تم الحكم عليه ، لأن في هذه الحالة كان على باطل.
3 – المرافعة: بعد ان يجتمع الطرفان أمام القاضي يتقدم المدعي ويبسط دعواه وقضيته ، ويذكر ما لديه من أدلة وبيانات ، ويقسم أنه لا يقول إلا الحق ، ثم يعقبه المدعى عليه داحضاً ما ذكره خصمه نقطة نقطة ، ويجوز لكل من الفريقين اختيار من ينوب عنه في هذا الأمر ، وهذا يشبه توظيف المحامي ، فبعض البدو قد لا يجيد عرض دعواه ، وبعضهم قد لا يجيد الدفاع عن نفسه ، وعندها يختار كل منهم من ينوب عنه ، وغالباً ما يكون من اقاربه ومعارفه ، وغالباً ما يكون بدون أجر. وبعد أن ينتهي المعدي عليه أو كليه قد يعود المدعي ويقدم أدلة أخرى ، أو يثير بعض جوانب القضية ، أو يزيدها إيضاحاً.
4 – الإدلاء بالبيانات: في هذه المرحلة يقدم كل طرف ما لديه من بينات ، سواء أكانوا شهوداً أو علامات ، أو قرائن ، وقد يقدم طرف من الطرفين طعوناً في البينات مثل صلة القرابة ، أو العداوة مع الشاهد ، أو يثبت كذب الشهادة ، وأنه معتاد على قول الزور ، والطعن في دينه واخلاقه.
5 – اليمين: إذا لم يكن هناك بينات كافية ضد المدعي عليه ، فإن القاضي يطبق ما جاء في الشريعة الاسلامية من أن المدعي عليه البينة ، وعلى المدعي عليه اليمين. وقد يطلب اليمين من المدعي في بعض الحالات ، وخاصة إذا كان المعدي ورعاً تقياً ، والمدعي عليه غير ذلك ويمكن يعتبر اليمين مخرجاً ، ومن أمثالهم "قالوا للحرامي احلف ، قال: فرجت".
6 – إصدار الحكم: قبل أن يصدر القاضي حكمه يعيد باختصار مجريات المحاكمة ، ويذكر أدلتها وقرائنها ، ليثبت أنه ملم بتفصيلها ، ثم بعد ذلك يصدر حكمه مقروناً بحيثيات الحكم وقد يطلب القاضي قبل إصدار الحكم من الطريفين تقديم كفيلين لتنفيذ ما يحكم به.
اللجوء إلى البشعة في التقاضي:
البشعة ، والبعض يسميها "المحلس" طريقة من طرق التقاضي في البوادي وبعض الأرياف ، وفيها يتم إيقاد النار ويوضع فيها محماس ، ثم يطلب من المدعي عليه أن يخرج لسانه ليراه الناس ، ويروا أنه سليم ثم يضع المحماس الساخن على لسانه ، فإذا كواه فهذا يعني أنه مذنب ، وإذا لم يؤثر فيه فهذا يعني أنه بريء ، ويقولون أن المذنب ينشف ريقه لذلك يؤثر فيه المحماس ، أما البريء فيظل ريقه في فمه لأنه واثقه من براءته ولهذا لا يحرقه المحماس ، وهذه طريقة غير دقيقة في الغالب لأن الموقف أحياناً قد يؤدي إلى جفاف ريق البريء ، و من ثم يؤثر فيه المحماس ، ويتم الحكم عليه وهو بريء. ويقال أن هذه الطريقة جاءت من الهند ومن إيران وهي مرتبطة بالشعوذة وعبادة النار في تلك البلدان في العصور القديمة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق