دهشةٌ وصدمة، كلما أدخل إلى عالم الفيسبوك وأتصفح بعض الكتابات أجد نفسي من حيث المضمون لهذه المقالات التي يكتبونها أصحابها أعيش قبل 1400 سنة؛ زمن الردة، والغزوات، والفتوحات؛ تلك الأيام التي نهضت على إثرها أمة التفتت إلى تاريخها ما قبل الإسلام، أيضاً تاريخ الإنسانية فاستفادت أمتنا كثيراً؛ إذ أنجبت العظماء من الفلاسفة، والأطباء، والأدباء، والعلماء في المجلات شتى، وفتحوا العالم متسلحين بالنور، والقوة كي يسكن هذا العالم النور المطلق فيتحرر من براثم الجهل، والعبودية، والإقطاع، والمشاعية الحيوانية التي ما كانت تتصل بقيمة الإنسان العظيمة فتعلي من قيمة هذه الإنسانية، وترفع من شأنها، لا أن تبقى غارقة في عالم الغريزة الذي استمر في عالم الحيوان حتى الآن، وسيستمر إلى ما شاء الله.
بعد الفتوحات
منذ قيادة أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وعلى أيدي الصحابة الأفذاذ حملة مشعل
النور إلى أصقاع الأرض كافة، وحتى عادت الأمة إلى الطريق القويم الذي أراده الله عبر
إرساله الرحمة المهداة إلينا محمد صل الله عليه وسلم؛ نهضت، وانطلقت في سماء العلم
والمعرفة العالم الجميل الذي أعطى لأمتنا قيمة عند الآخر، ولم تبقى أمتنا غارقة في
خلافات السقيفة، وبعض أفعال الصحابة المعبرة عن بشريتهم، وما يعتري هذه البشرية من
نقص، وضعف، ولم تكن معبرة بأي حال من الأحوال عن دين الله الواحد الخالد الذي
أراده الله لنا.
لمَ إذا نستيقظ
من نومنا في الصباح نذهب إلى تلك العصور، ونتقفى سلبياتها، وننسى كل إيجابياتها،
وعند الخلود إلى النوم نُجبر أنفسنا على أن نعيش أضغاث أحلام تلك الحقبة بسلبياتها،
ولا نفكر في أن نتلمّس ورداً، أو نشتم عطراً، أو نرى ضوءاً يتصف كل ذلك بالجمال
آتياً من بعيد من زمن 1400 سنة يخاطبنا كي نسير على منهج النور، والرفعة، والعلم،
والفلسفة لنكون جديرين بالعيش في هذه الفترة التي يتصارع الأقوياء بعلمهم،
وسيطرتهم على تقنيات العلم في السيطرة على الأرض، والفضاء.
عندما أدخل إلى
عالم الفيسبوك أشعر وكأننا قد أنجزنا حلول كل القضايا التي نواجهها في هذا العصر،
مثل: السطو على القانون والدولة في اليمن، طغيان حكم العصابات، تدمير هامش الحضارة
والحياة الكريمة، والديمقراطية الهزيلة. نسينا قضايا المشردين، والمختطفين،
والشهداء، والجرحى. نسينا قضية وطن ينزف على أيدي أبناءه ممن أرتهنوا لفارس، و
أصبحوا وكلاءً لها يقتلوننا من أجلها، يستبيحون الأرض والعرض، استمرأوا تجويع اليمنيين
وإهانتهم. نسينا أن علينا واجبات نضالية جوهرها تحرير الوطن، واستعادة دولته، وحكم
القانون فيه، والقضاء على عصابة الانقلاب الحوثية النازية. نسينا أن وطننا من
الخليج إلى المحيط يعيش شعبه هم تدبير لقمة الغد، وتحرير فلسطين، واستعادة الأقصى،
وإعادة الاعتبار لعصرنا عبر دخولنا الفعلي في المنافسة على إنجازات سامية للحضارة
تليق بوصفنا ننتمي إلى هذا العالم، الذي أصبح الذكاء الاصطناعي سلاحه، ويده الطولى
في السيطرة على مقدرات الكون. نسينا كل هذا لنستبدل العيش بأرواحنا، وأفكارنا في
زمن لا نعرفه، في عالمٍ قد رحل، في حكايات أُدخل عليها سلباً، وإيجاباً الكثير عن
الصحابة، والإسلام، والرسول صل الله عليه وسلم، فنقتات صباح، مساء في أفعال عمر بن
الخطاب، عمر بن العاص، علي بن أبي طالب، معاوية بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد،
وكل الصحابة رضوان الله عليهم الذين ننسى أفعالهم العظيمة لنتذكر فقط حوادث قد تكون
مدسوسة على تاريخنا، وقد تكون في بعضها صحيحة إلا أنها تعبر عن الضعف البشري،
وليست تعبيراً عن جوهر ديننا، وقيمنا، وإرثنا الحضاري التاريخي العظيم الذي كان له
كل الجمال في النهضة الأوربية، واستعادة قيمة الإنسان فيها من جديد بعد أن كان
لقرونٍ طويلة ( الإنسان في أوروبا) يعيش فيها العبودية، والاستبداد للكنيسة، أو
القياصرة وغيرهم من ملوك أوروبا. والكل يعرف تاريخ أوروبا وكيف كان امتهان الإنسان
فيها خاصة المرأة، وفي هذا كلامٌ طويل، وعميق؛ تتناساه أوروبا لكنها في ذات الوقت
تدين تصرفاتنا، وطريقة تعاملاتنا في علاقاتنا البينية رجال، ونساء، وأطفال، حتى جعلتنا
نعيش فوبيا الخروج عن ميزان أوروبا الحديث، وهو في رأيي غير منصف، وغير جدير بإرثه
التاريخي بالحكم علينا، وعلى حياتنا، وحضارتنا، وقيمنا.
أنا أرجو أن
يلتفت الجميع لما نعيشه من جراحات، وآلام، وفضاعات أقلها تدمير الحياة الإنسانية،
على الأقل في بلدنا، ولنوظف مهاراتنا، وثقافتنا، وبعد نظرنا في الكيفية التي نعيد
لحياتنا الكريمة فيها الاعتبار.
أعني أن حياتنا
المهدرة فيها الكرامة، والمصادر فيها القانون، والدولة تستحق منا التفكير ملياً،
والتكاتف بأفكارنا، ومادياتنا، وكل طاقاتنا في وضع الخطط النضالية التي تنتهي
باستعادة انسانيتنا، وحياتنا الجميلة في وطننا الذي يجب أن يكون حراً كريماً.
ولندع عنا صراعات
الأمس لنلتفت إذا ما أردنا قراءة تاريخنا إلى كل جميل فيه وعظيم يحفزنا على
الاستمرار في مسار السمو، وليس الانحطاط.
أرجو ألا نمارس
الانحطاط في مغادرة عصرنا وقضاياه العظيمة، إلى البحث في مثالب الماضي، التي قد
تكون في جزء كبير منها مبالغ في أحداثها، وتهويل ما حدث رغم إنسانيته، وبساطته في
حينه وفقاً لظروفه، وبيئته، والعوامل المحيطة به في زمانه.
إن كان هم
الأمة يشغلنا فعلاً فعلينا النظر فيما تواجهه اليوم، ولنستقرئ بعقول فاحصة
المستقبل الحزين، والمؤلم إذا ما ضللنا على هذا الحال.
كونوا كما
ينبغي في انتمائكم لهذه الأمة جديرين برفع راية الحضارة فيها، مساهمين بفاعلية في
الحضارة الإنسانية اليوم، وغادروا مستنقع الوهم بظنكم أنكم تنتصرون، أو تدينون أمم
قد خلت لن تُسألوا عما كانوا يعملون، وإنما ستُسألون عن مضمون دوركم في حضارة اليوم،
والغد.
تحياتي لمن يعي هذا الدور، وخالص تعازيّ لمن لا يزال يعيش وهم الانتصار لقضايا غابرة، أكثرها مصطنعة، ومزيفة، ومدسوسة.
د. أحمد عتيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق