السبت، 14 نوفمبر 2015
محاضرة الدراسة الاجتماعية الريفية في الولايات المتحدة الامريكية
أولاً: الدراسات الاجتماعية الريفية في الولايات المتحدة الأمريكية
يعد تيار علم الاجتماع الريفي واحداً من أقدم فروع علم الاجتماع في الولايات المتحدة الأمريكية ويمكن تصنيف عمل أصحاب هذا التيار ، تصنيفاً مبدئياً إلى أربعة نماذج من الإسهامات على النحو التالي :
1ـ دراسة جوانب المجتمع الريفي المستقرة ، أو المتغيرة .
2ـ التحليل التصوري والصياغات النظرية .
3ـ تطوير مناهج البحث وتنميتها .
4ـ الإسهام في وضع سياسة عامة للحياة الريفية .
وقد أخذ عدد من أصحاب هذا التيار ، في الثلاثين عاماً الماضية ، يعلقون على إنجازات علم الاجتماع الريفي ، وتمثلت معظم هذه المحاولات في تتبع نمو هذا الميدان وتطوره ، وأوجه نجاحه ، وضروب فشله، لكن أغلب هذه المحاولات كانت تنهض على مجرد الانطباع العام وليس على الفحص المنظم لإطار ممثل من الكتابات والدراسات التي ظهرت في مجاله .
ومن أحسن تلك المحاولات التي يمكن الاعتماد عليها تلك التي قام بها "وليام سيويل" لتقويم بحوث علم الاجتماع الريفي في أمريكا مستهدفاً فحص نماذج من اهتمامات هذه البحوث وتقدير كفاءتها المنهجية والنظرية ، وهو العام الذي شهد صدور العدد الأول من هذه المجلة ، حتى عام (1965م) .
ومن الجدير بالذكر أن الاهتمام في أي علم اجتماعي يتغير عبر الزمن بتغير الظروف الاجتماعية كالإمكانية المادية ومصادر الدعم ، ونمو الإطار النظري ومناهج البحث والوضع الأكاديمي .ويشهد موقف علم الاجتماع الريفي في أمريكا على ذلك ففي خلال الثلاثين عاماً الماضية حقق علم الاجتماع الريفي مكانة راسخة ونال اعترافاً واسعاً وبخاصة في الكليات التي تعتمد على مصادر الدعم المحلية بوصفة (Land granted colleges ) عادة قسماً صغيراً مستقلاً أو فرعاً داخل نطاق قسم الاقتصاد الزراعي ، بوصفه في حالات محدودة جزءا من قسم أكبر لعلم الاجتماع العام ، أي أن علم الاجتماع الريفي ، من الناحية الأكاديمية مرتبط بكليات الزراعة أكثر من ارتباطه بكليات الآداب .
وقد أفاد هذا الارتباط علم الاجتماع الريفي من ناحية وأضر به من ناحية أخرى . فهو من الناحية الأولى قد أتاح فرصة الدعم المالي المنتظم للبحوث والدراسات إلا أنه من الناحية الأخرى قد جعله عرضه للضغوط التنظيمية ، والاهتمامات الإدارية التي أملت طابعاً معيناً على البحوث بحيث تجرى لحل مشكلات عملية مرتبطة بالزراعة والسكان الريفيين .
ومن هنا كانت معظم هذه البحوث تعكس اهتمامات الإدارة المشرفة على ميزانيات البحوث أكثر مما تعكس الاهتمامات المدرسية للمتخصصين في الدراسات الريفية ، وترتب على ذلك أنها كانت تعكس أيضاً التغيرات الكبرى التي حدثت وتحدث في مجال الزراعة والحياة الريفية خلال السنوات الماضية ، وربما أعاقت التقاليد العملية والتطبيقية لهذه الكليات ، وارتباطاتها المحلية ، نمو المعايير الأكاديمية والتمسك بها ، وسوف نعاود الإشارة إلى الوضع الأكاديمي هذا في موضع أخر بعد أن نناقش مجالات اهتمام الاجتماع الريفي الأمريكي ، والمتمثلة في البحوث والدراسات التي أجريت في نطاقه وسوف نعتمد في ذلك اعتماداً كبيراً على العرض الذي نشره "سيويل" وأشرنا إليه في موضع سابق .
وقد صنف "سيويل" دراسات علم الاجتماع الريفي في أمريكا عبر ثلاثين عاماً وفقاً لنسق تصنيفي ينهض على أساس نقاط التركيز الكبرى وما تنطوي عليه هذه المحاولات الكبرى من موضوعات متخصصة مع إسقاط بعض الدراسات أو ضم البعض إلى دراسات أخرى .
وقد قسم البحوث التي نشرت خلال هذه الفترة ، وهي عمر مجلة علم الاجتماع الريفي إلى ثلاث مراحل أو فترات فرعية تمثل كل فترة منها عقداً من الزمان موضحاً العلاقة بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية وبين اهتمامات هذه البحوث والتغيرات التي طرأت عليها .
وتقع المرحلة الأولى فيما بين عامي (1936،1945) وهي فترة الأزمات والكساد الاقتصادي والحرب العالمية الثانية التي ترتب عليها مشكلات عديدة عانى منها المجتمع الريفي الأمريكي ، وأثرت في اهتمام المخصصين في دراساته ، وفي هذه المرحلة بالذات بدأ الاهتمام الفيدرالي والمنظم برامج البحوث الريفية ومشروعات العمل في الريف .
وتقع المرحلة الثانية فيما بين عامي (1946، 1955) وهي مرحلة نقاهة النظام الاقتصادي العام والتغيرات الكبرى في الاتصال ووسائل الانتقال والميكنة والتحضر ، وهي مسائل أثرت تأثيراً ضخماً في الحياة الريفية وفي عمل أصحاب تيار الاجتماع الريفي هناك .
أما المرحلة الثالثة فتقع بين عامي (1956، 1965) وهي مرحلة الاستقرار والرخاء الاقتصادي التي أثرت في المجتمع الأمريكي ككل ، والزراعة المصنعة ، والزراعة المنقطعة أو لبعض الوقت ، ونمو الضواحي ، وارتفاع مستوى المعيشة والتقلص الكبير لسكان المزارع .
ويوضح الجدول رقم (1) مجالات الاهتمام الكبرى ، والفرعية خلال هذه العقود الثلاثة :
وإذا ما تتبعنا مجالات الاهتمام التي عرضها "سيويل " في الجدول المخصص لذلك نلاحظ أن التنظيم الاجتماعي (Social Organization) بمعناه الواسع الذي يتضمن الجماعات والنظم وجوانب البناء الاجتماعي الأخرى ،يحتل المرتبة الأولى ، ليس في فترة الثلاثين عاماً ككل فقط ، وإنما ظل يحافظ على مكانته هذه خلال العقود الثلاثة .
إلا أن هناك مجالاً أخر احتل مكانه مرموقة في الفترة الأولى وذلك هو مجال الرفاهية الاجتماعية والتخطيط أو السياسة الاجتماعية حيث حظي هذا المجال في تلك الفترة بقدر من الاهتمام يفوق الاهتمام الذي ناله موضوع التنظيم الاجتماعي .
أما المجال الذي يحتل المرتبة الثانية من الاهتمام خلال فترة الثلاثين عاماً (والمرتبة الأولى في الفترة الأولى ) فهو مجال الرفاهية والسياسة الاجتماعية وهو يضم تشكيله من الموضوعات الموجهة نحو السياسة الاجتماعية والبرامج العملية التطبيقية التي تتصل بمشكلات الحياة الريفية اتصالا وثيقاً وهنا ندرك ارتباط هذا الاهتمام بالتيارات الجارية ارتباطا كبيراً ، فقد كرس أصحاب تيار الاجتماع الريفي جهودهم في الفترة الأولى ، وهي فترة الأزمة الاقتصادية ، نح الاهتمام بالمشكلات التي خلقتها الأزمة حيث نلحظ أن تلثث المقالات المنشورة في هذه الفترة مخصص لمناقشة ومعالجة الرفاهية الاجتماعية الريفية ، والمشكلات الاجتماعية ، والسياسة والتخطيط ، وقد كان ذلك الاهتمام بمثابة انعكاس لمشكلات المرحلة من ناحية والفرص المتاحة من الدعم المالي المتاح لبرامج البحوث والعمل من ناحية أخرى . وقد تقلصت المقالات والدراسات في هذا المجال في الفترة الثانية إلى السدس فقط من المجموع الكلي وفي المرحلة الثالثة إلى أقل من 1/12 من المقالات المنشورة .
واحتلت الموضوعات التي تنتمي إلى مباحث علم النفس الاجتماعي مثل دراسات الشخصية والدور والاتجاهات والدوافع والقيم والمطامح والاتصال والقيادة ، احتلت المرتبة الثالثة في الفترة الكلية ، وقد أضحت هذه الموضوعات مجالاً يجذب اهتماماً متزايداً وبخاصة في المرحلة الحديثة .
ويمكن أن يفسر هذا الاهتمام المتزايد بوصفه انعكاسا للاهتمام العام المتزايد بالجوانب السيكولوجية للسلوك فيما بعد الحرب العالمية الثانية .
وقد شغلت الموضوعات المنهجية بما تنطوي عليه من التكنيكات والاعتبارات المنهجية العامة ، المركز الرابع خلال الفترة الكلية ، ومن الجدير بالذكر أن الاهتمام بهذا المجال قد نما نمواً بطيئاً وإن كان مستمراً وربما يرجع نمو الاهتمام بهذا المجال بين المتخصصين في الاجتماع الريفي إلى الاهتمام به في علم الاجتماع العام وهو ما كان يركز خلال هذه المرحلة على البحث الأمبيريقي والتكنيكات الخاصة بجمع البيانات ومعالجتها والتساؤلات المنهجية العامة ، وقد كان لذلك صدى كبيرا في "علم الاجتماع الريفي" بتقاليده الأمبيريقية الراسخة .
واحتل موضوع السكان بتفرعاته المختلفة كاتجاهات النمو السكاني والتركيب ، والتوزيع والخصوبة والوفيات والهجرة المرتبة الخامسة بين مجالات الاهتمام الكبرى ، علماً بأن موضوع السكان هذا يعد واحداً من الموضوعات التقليدية في " علم الاجتماع الريفي " .
أما مبحث التغير الاجتماعي فقد نشرت فيه مقالات نظرية ووصفية وتحليلية تعالج موضوعاته المختلفة كالتجديد والانتشار والميكنة والتنمية الاجتماعية والزراعية ، وهي تمثل في جملتها عشر المقالات المنشورة في الفترة الكلية ، لكن هذا المبحث أضحى ينال مزيداً من الاهتمام خلال العشرين عاماً الأخيرة وربما كان الاهتمام الحديث انعكاساً للتغير التكنولوجي في مجال الزراعة ليس في الولايات المتحدة فقط وإنما في مختلف أرجاء العالم .
ويوضح هذا المسح التحليلي لتراث الاجتماع الريفي أن التخصصيين فيه قد غيروا اهتماماتهم في المشكلات الاجتماعية الريفية إلى مجالات أخرى ذات أهمية سوسيولوجية ذلك لايعني أنهم هجروا هذه المشكلات ، ولكنهم اتجهوا إلى رؤيتها من منظور سوسيولوجي أكثر رحابة ، كما اتجهوا أيضاً إلى حد ما إلى صوغ مشكلات بحوثهم في ضوء أطر سوسيولوجية ذات معنى ،وتشع هذه الظاهرة بوجه خاص بين شباب العلماء هناك الذين أصبحوا يهتمون بموضوعات سوسيولوجية خالصة كالمشاركة الاجتماعية والقيادة والاتصال والانتشار وغير ذلك ، عاونهم على ذلك تدريبهم وما أٌتيح لهم من فرص تعليمية لم تتح للرواد الأوائل في هذا المجال ومن أبرز هؤلاء "ولكنج" و"روجرز" وغيرهما .
وإذا ما انتقلنا من عرض مجالات الاهتمام إلى تقويم المناهج والأدوات التي استخدمت في دراسة موضوعاتها ، يمكن القول باختصار أن أغلب البحوث التي نشرت في عام (1964) في مجلة علم الاجتماع الريفي قد حققت حداً أدنى من المعايير المنهجية الحديثة ، وفشل بعضها في تحقيق هذا الحد الأدنى ، ويمكن القول بأن الجهود التي بذلها علماء الاجتماع الريفي الشبان في بحوثهم ، وبخاصة تلك التي نشرت حديثاً تتمتع بمستوى مرتفع من الكفاءة المنهجية بالنظر إلى المعايير الحديثة في علم الاجتماع العام ، وسواء كان هذا التحسن مجرد انعكاس للتحسن الذي طرأ على مناهج البحث في علم الاجتماع أو كان تقدماً نسبياً لعلم الاجتماع الريفي فإن ذلك يمكن البت فيه إذا ما عقدنا مقارنة بين بعض البحوث التي نشرت في مجلة علم الاجتماع الريفي وبين تلك التي نشرت في المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع A.S.R في فترات متزامنة ، والمجال هنا لا يسمح بمثل هذه المقارنة المفصلة ولكننا يمكننا أن نقول إن بحوث علم الاجتماع العام تربط ربطاً محكماً بين النظرية والبحث وتركز على التأمل في دلالة النتائج وأهميتها وموضعها من النظرية السوسيولوجية العامة .
يمكننا أن نلتقط من هذا العرض بعض الملامح الرئيسية لموقف تيار علم الاجتماع الريفي في أمريكا نستطيع أن نلخصها فيما يلي :
1ـ كان الاهتمام في المرحلة الأولى وهي مرحلة الأزمات والكوارث السابقة على الحرب العالمية الثانية منصباً على مشكلات المجتمع الريفي لاعتبارات الخدمة الاجتماعية إلا أن البعض كان يعالج موضوعات سوسيولوجية تقليدية كالمجتمع المحلي والتعليم والأسرة والتقسيم الطبقي والهجرة لكنه كانت تعالج أيضاً حينما تعاني من مشكلات معينة ، أي أنها لم تكن تدرس دراسة أساسية ، بل لأهداف تطبيقية وعملية وكانت تستخدم مناهج وإجراءات فجة وساذجة .
2-تحول الاهتمام منذ الحرب العالمية الثانية من المشكلات الاجتماعية إلى الموضوعات ذات الدلالة السوسيولوجية ليس فقط تلك الموضوعات التقليدية في تراث علم الاجتماع الريفي كالتنظيم الاجتماعي وإنما بدأرا يهتمون بموضوعات ذات أهمية كبرى في علم النفس الاجتماعي والاتجاهات والشخصية والمطامح والقيم والقيادة والأنصال الاستشار وغير ذلك .
نظرة تقويمية شاملة لتيار الاجتماع الريفي في الولايات المتحدة:
قدم علم الاجتماع الريفي في الولايات المتحدة خلال السنوات الأولى من القرن العشرون إسهامات كبرى للإطار النظري في علم الاجتماع ،إلا أن هذه الإسهامات قد تقلصت فيما بعد حيث يستحق كثير من الأعمال في نطاق علم الاجتماع الريفي الأحكام القاسية التي توجه إليها بوصفها نوعاً من اكتشاف الحقائق Fact Finding) إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أن المتخصصين في فروع علم الاجتماع الأخرى يهملون معظم الأعمال الجديرة بالاحترام والتي أجريت في نطاق علم الاجتماع الريفي .
لقد ساهمت المقاييس والمفاهيم الإيكولوجية التي طورها "جالبين Galpin)) في الجيل الماضي في تطور مدرسة شيكاغو كما ساهمت أيضاً في إثراء التراث العلمي في دراسة المجتمع المحلي كما أسهمت دراسات الميدان الريفي في تقويم واختبار عدد من المناهج الديموجرافية الحديثة ، كذلك أوضح" شولر وكوفمان"
Kaufman) Schuler ) جدوى استخدام الإخباري المحلي Locak Informant)) في دراسة التدرج الاجتماعي ، بالإضافة إلى مفهومات مثل المتصل الريفي الحضري ، ودور الأسرة قد سيقت أول ما سيقت في أحضان تيار الاجتماع الريفي. هذا ولا يعيب المختصين في الاجتماع الريفي قلة إسهامهم في تنمية الجوانب العميقة من النظرية السوسيولوجية .
فمثل هذا العمل لا يأتي عادة من قبل الباحثين الموجهين إمبريقياً . ومن الجدير بالذكر أن تراث علم الاجتماع الريفي الأمريكي يفتقر إلى الدراسات الثقافية المقارنة بل أن هذا التراث يفقر حتى إلى مجرد عقد مقارنات بين مجتمعات محلية في الولايات المتحدة نفسها ، وربما يرجع ذلك إلى عدم الربط بين النظرية والبحث وإغفال وضع مشكلات البحوث في سياقات نظرية مما يسر إقامة تعميمات كافية . وينبغي أن نشير هنا إلى أن تراثاً متراكماً من نتائج البحوث في حاجة إلى أن يجمع في نسق نظري منظم ، وبخاصة في مجال المشاركة الاجتماعية ومن الجدير بالذكر أن الذين خلصوا إلى تعميمات خاصة بهذا الموضوع ينتمون إلى أقسام الاجتماع بكليات الآداب كما أن هذه الفرصة سانحة أيضاً في مجالات أخرى .
وهناك ملاحظة على تناول المتخصصين في الاجتماع الريفي هناك لموضوعات علم الاجتماع التقليدي والهامة فهم حين يدرسون الأسرة يختزلونها إلى مجرد أسلوب حياتها ، ثم هم يلجأون في بعض الأحيان إلى استخدامات التكنيكات الأنثروبولوجية التي لا يمكنهم تدريبهم فيها من استخدامها بمهارة بحكم انتماءه لكليات الزراعة ذات الطابع الخاص هناك ، فتخرج دراستهم سطحية إذا ما قورنت بدراسات علماء الاجتماع الآخرين .
وهناك مجال واحد بالتحديد اقتحم فيه هؤلاء المتخصصون أرضاً جديدة وذلك هو مجال "انتشار المهارات الفنية " وقد نبع الاهتمام بهذا الموضوع من الاتجاه العملي لكليات الزراعة كما نبع أيضاً من أهميته من حيث كونه يلقي ضوءاً جديداً على العمليات الثقافية ويبدو أن هذا الموضوع من أهم من عكف علية أولئك المتخصصون فهو يعد نقطة مركزية تلتقي عندها معظم العلوم الاجتماعية وموضوعاتها ، علم النفس الاجتماعي والاجتماع ، الأنثروبولوجيا ويرجع الفضل في طرق هذا الموضوع طرقاً سوسيولوجياً إلى "أيوجين ولكننج" (E.Wilkening) الذي أدرك أن التغيرات التي تطرأ على المهارات الزراعية وانتشارها ويمكن أن تدرس في ضوء التغيرات السيكولوجية والاجتماعية والثقافية وأن مسألة التبني يمكن أن تعالج بواسطة الاتجاه الاجتماعي النفسي ، وقد كتب حول ذلك الموضوع يقول أن موضوع تقبل الأساليب الزراعية الحديثة هو أحد مجالات الدراسة الأكثر رحابه ألا وهو التغير التكنولوجي ويعد هذا المجال من أبرز الميادين التي تشد المتخصصين في علم الاجتماع ... وبينما تحقق أساليب الزراعة غايات وأهدافاً اقتصادية إلا أن "فيبلن وبارسونز" قد وجها الاهتمام إلى أن السلوك الاقتصادي لا يمكن فهمه فهماً كافياً بمعزل عن العوامل الغير اقتصادية ، فالقرارات التي يتخذها المزارع في عملياته اليومية تتأثر بدرجات متفاوتة بعلاقاته الاجتماعية وبنسق الأفكار والقيم والمشاعر التي ينتمي إليها وينفعل بها .
وقد استطاع "ولكنج" في صياغته لفروض دراسته مستعيناً بأعمال "وسيلر" Wissler) ) و"مالينوفكسي" Malinowski) ) و"جون جيلين" حيث فهو هؤلاء الأنثروبولوجيون انتشار السمات الثقافية في ضوء دور هذه السمات ووظائفها في المركب الثقافي للمجتمع كما استعان أيضاً بتحليل "كورنت ليفين" Lewin) ) لمشكلة تغير العادات الغذائية أثناء الحرب في ضوء العوامل الموقفية والدافعية . وتوضح لنا هذه الإشارة السريعة لعمل "ولكننج" ، أهمية هذا الموضوع والجهود التي بذلت لتأصيله وربطه بمختلف العلوم الاجتماعية ومن الملاحظ أن الدراسات في هذا الموضوع تنمو الآن نمواً مستمراً ومتزايداً بحيث نستطيع أن نقول إن أصحاب الاجتماع الريفي في أمريكا واضحة كما أن معالجة مثل هذا الموضوع بالذات قد أدخلت تحسينات هامة على مناهجهم في البحث والدراسة فهم يميلون في معالجته إلى وضع المشكلة في سياقها النظري ، والالتزام بالتوجيهات النظرية ، على النحو الذي تبدى من خلال إشارتنا السريعة لإسهام ولكننج .
وفي ختام حديثنا عن تيار علم الاجتماع الريفي في الولايات المتحدة نستطيع أن نقول ، إحقاقاً للحق إن هناك بعض الباحثين الآن يبذلون جهوداً لتجميع النتائج المتراكمة والخاصة بعدد من مجالات البحث في المجتمع الريفي وبخاصة في مجالات الانتشار "روجرز" والتغير الاجتماعي . والأنساق الاجتماعية الريفية "لومس ويجل" .
ونمو هذا الاتجاه خليق بأن يتيح الفرصة لعقد المقارنات المحلية والثقافية وخليق بالتالي أن يسهم في نمو النظرية السوسيولوجية العامة من هذه الجوانب المشار إليها وتنعكس هذه الإسهامات الآن شيئاً فشيئاً على المؤلفات المدرسية لعلم الاجتماع الريفي التي تظهر في الولايات المتحدة والتي ظلت لفترة طويلة لا ترقى إلى مستوى مؤلفات الدرجة الثاني في فروع علم الاجتماع الأخرى من حيث تصنيفها ، والموضوعات التي تعالجها وأسلوب هذه المعالجة بحيث يمكن الاعتماد على عدد محدود جداً منها فقط لسطحيتها وطابعها المحلي الخالص .
يبقى أمامنا الآن في معالجتنا لموقف الدراسات الاجتماعية الريفية في الولايات المتحدة أن نشير إلى التيار الثاني من هذه الدراسات ونعني تيار الأنثروبولوجيا الريفية إن صح إطلاق مثل هذه التسمية .
سبق أن ذكرنا أن تيار الأنثروبولوجيا الريفية يمكن رده إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية والاتجاه الوظيفي منها بخاصة ، من ناحية وإلى تقاليد مدرسة شيكاغو التي بلورها "روبرت ردفيلد" من ناحية أخرى وقد أشرنا في موضع سابق إلى أن "جلبين" وهو من رواد تيار الاجتماع الريفي قد أسهم بمقاييسه الايكولوجية في نمو هذه المدرسة وتطورها وهو من ناحية أخرى من أوائل الذين أخرجوا مؤلفات مدرسية في علم الاجتماع الريفي بالاشتراك مع "سوروكن و وزمرمان" معنى ذلك أنه ليس هناك انفصال تام بين تياري الاجتماع الريفي الأنثروبولوجيا الريفية فقد تبادلا معاً التأثير وربما يعكس هذا التأثير المتبادل ذلك الفرع الذي يعرف الآن في الولايات المتحدة لسوسيولوجيا المجتمع المحلي Sociology of community ) .
وحينما نحاول الإشارة إلى موقف الأنثروبولوجيا الريفية في الولايات المتحدة نواجه بمقارنة مشوقة ، فبينما تبلورَ هذا الاتجاه ، ووضعت قواعده فيها فإنه لم يجد في مجتمعاتها أرضاً صالحة للدراسة فهو مرتبط ، أو ارتبط تاريخياً بالمجتمعات القروية التقليدية المتخلفة وهي أنماط غير معروفة في الولايات المتحدة ذاتها ومن ثم اتجه أصحابه إلى مناطق أخرى من العالم لدراستها وتناوله وقد نالت أمريكا اللاتينية جل اهتمام هؤلاء الباحثين ، وهي قدمت فرصة سانحة بمجتمعاتها القروية التقليدية ، أمام هؤلاء الباحثين للدراسة وفقاً لهذا الاتجاه ومن أكثر الدراسات شهرة تلك التي قام بإجرائها "روبرت ردفيلد" في مقاطعة " يوكاتان" بالمكسيك حيث درس عدة أنماط متدرجة من المجتمعات تضم قرية صغيرة ذات ثقافة شعبية ، ومجتمعاً فردياً صغيراً ، ومركزاً حضرياً صغيراً ومدينه "Meria " كذلك دراسة "أوسكار لويس" Lewis ) لمجتمع تبوزتلان "Tepoztlan ) ، وقد مارست هذه الدراسات تأثيراً قوياً على عدد كبير من الباحثين في الدول النامية ، كما نجحت إلى حد كبير في تحليل المجتمع القروي وفهمه بوصفه كلاً متسانداً مع وضعنا في الاعتبار ذلك الانتقاد الذي يوجه إلى هؤلاء الانثروبولوجيين والذي يتمثل في لأن ما يعدونه قرى قد تكون مدناً أو أسواق صغيرة تمد وحدات أصغر منها ، وهي الوحدات الريفية الحقيقية بالخدمات الاقتصادية والسياسية والإدارية ، ومن ثم فإن مجتمع "تبوزتلان" قد درس مات عديدة من منظور غير صحيح ، حيث توضح بيانات أوسكار لويس أن هذا المجتمع كان يضم وقت دراسته أكثر من أربعة آلاف نسمة ، كما كان أيضاً ، ولفترة طويلة مقراً للإشراف الحكومي ، ومركزاً اقتصادياً لعدد من المجتمعات الأصغر التي تضم كل منها أقل من خمسمائة نسمة ، ومما لا شك فيه أن سكان هذه الوحدات الأصغر والمحيطة بتبوزتلان كانوا ينظرون إليها باعتبارها الواجهة المطلة على العالم الخارجي . وربما عدنا إلى مناقشة أبعاد هذا الاتجاه مناقشه أكثر تفصيلاً في حديثنا عن علم الاجتماع الريفي في الدول النامية وفي مصر حيث كان له صدى قريب ظهر في كثير من الدراسات الهامة والجادة والتي أجريت في هذه الدول . وفي نهاية عرضنا وتقويمنا لموقف الدراسات الاجتماعية الريفية في الولايات المتحدة لابد أن نشير إلى أن إطالتنا في العرض إنما هي إطالة هادفة حيث أن موقف هذه الدراسات في هذا المكان بالذات خليق بأن يفسر لنا جانباً كبيراً من موقف هذه الدراسات في المناطق الأخرى من العالم ، سواء أوروبا أو العالم النامي وسوف يتضح ذلك بالتفصيل في موضعه .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق