الأحد، 29 مارس 2015
الملامح الاجتماعية الأساسية لمجتمع الجزيرة العربية الجاهلي
تمهيد:
إن قضية الوضع الاجتماعي لمجتمع الجزيرة العربية الجاهلي (قبل الإسلام) لا تزال تثير مشكلات معقدة ومتشعبة في وجه الباحثين فيها،عرباً كانوا أو أجانب. وفي الحقيقة، ان هذه القضية سوف تثير في المستقبل أيضاً مثل هذه المشكلات. وبالطبع، هذا بحد ذاته إيجابي، حيث انه خطوة ضرورية على طريق الإسهام في استجلاء الحقيقة التاريخية على أساس علمي وطيد.
وبغض النظر عن المحاولات العديدة لدراسة تلك القضية، التي قام ويقوم بها باحثون يأخذون بوجهات النظر لا تاريخية غيبية، فأننا نعلم أنها معقدة أيضا ضمن العلماء الآخذين بالنظرية التاريخية المادية. ولكنها هنا، ضمن هذا الإطار، تبقى موضوعاً يخضع للدراسة العلمية الموضوعية، ويمكن لها بالتالي أن تجد حلاً صحيحاً. وبالطبع، هذا الحل يمكن تقصيه بشكل دقيق بتضافر جهود عديدة متشابكة لعلماء من مختلف الحقول. أما ما نقوم به نحن هنا، فانه لا يعدو أن هنالك الكثير من الدراسات القائمة على تصنيف التطور التاريخي الاجتماعي بشكل مراحل، تتابع الواحدة بعد الأخرى. فيبدأ، على أساس ذلك، بالمشاعية البدائية ليعبر إلى الإقطاعية، بعد المرور بالعبودية، وهكذا....
أن هذا التصنيف التاريخي الاجتماعي يستثير نقطتين، يرى أنهما جوهريتان، وينبغي بالتالي أخذهما بعين الاعتبار في حال تعرضنا لمسألة تحديد الأطر الاجتماعية – الاقتصادية للمجتمع العربي- الإسلامي الوسيط عموماً: النقطة الأولى- " قديماً افترض المرء أن الإقطاعية قد تطورت، فقط في حالات استثنائية، على أساس العلاقات البطريركية (الأبوية) المتلاشية، وإن الانتقال من العبودية إلى الإقطاعية هو الذي كان، على العكس من ذلك، القاعدة أما في الواقع، فإن المسألة قد سارة تماماً بعكس ذلك فمع نشوء إنتاج الفائض جرى تحويل جزء ضئيل فقط من المنتجين المباشرين إلى عبيد وغالباً كان هؤلاء أتباع قبائل غريبة. أما الجمهور الواسع من السكان فقد أحتفظ بالحرية الشخصية واستغل من قبل الدولة ومع، زمن أرتبط هؤلاء السكان الفلاحين في الأرض، ودخلوا في ارتباط شخصي بالملاك الكبار، واتخذ نتاج الفلاحين الفائض شكل ريع عقاري.
النقطة الثانية: لقد تحقق التطور التاريخي والاجتماعي الواقعي بشكل جدلي. فتشكيلة الاجتماعية- الاقتصادية الواحدة، مثلاً الإقطاعية، تكوّنت وتطورت واكتسبت أبعادها الشاملة من خلال التشكيلة السابقة، أي من خلال نفيها- نفياً جدلياً لهذه السابقة. هذا من طرف. أما من طرف آخر، فإننا نجد من المهم التأكيد على أنه لم يكن نادراً إن تعايشت في تاريخ المجتمعات الإنسانية عدة تشكيلات اجتماعية- اقتصادية غير متطورة مع بعضها طوال حقبة معينة من زمن. وعبر تفاعل حضاري شامل وبعد مسيرة من التطور، تحققت السيطرة لواحدة من تلك التشكيلات على الأخريات، بحيث أصبح هذه التشكيلة العصر الحاسم في بنية وتطور المجتمع، وبحيث بقية الأخريات ظواهر مرافقة في المجتمع هذا، أي هذا الأخيرة ظلت تمارس تأثيراً غير حاسم في سير المجتمع.أننا دون شك، سوف ندرك أهمية وخطورة هاتين الملاحظتين، حيثما نأتي على مسألة الأطر الاجتماعية – الاقتصادية العامة والحاسمة للمجتمع العربي في الحجاز قبل تكون الإسلام، وللمجتمع العربي- الإسلامي بعد ذلك. وفي الحقيقة تبقى هذه المسألة بحاجة حقيقية ماسة إلى مشاركة فعالة من علماء التاريخ والاقتصاد السياسي والسكان والاجتماع ومؤرخي الدين والفلسفة والعلم.
حينما نصل مرحلة بحثنا هذا إلى "ما قبل" الإسلام "وما بعده" فأننا لا نعني بـ"الإسلام" عقيدة دينية فقط ، بل أيضاً وبشكل أساسي ، حركة اجتماعية جلبت معها نتائج عميقة. وسوف لن نستطيع استيعاب المرحلة الثانية اللاحقة بمعزل عن المرحلة الأولى.
وهذا يقتضي الإحاطة بالوضع الاجتماعي العربي– الجاهلي- إحاطة سريعة، ولكن واضحة.
كانت مكة الأرض التي نشأ فيها الإسلام. وقد تطورت قبل هذا الأخير، بحيث تحولت إلى أهم مدينة في الحجاز، الذي يكون مع اليمن الجزء الغربي من الجزيرة العربية. أما اليمن فيقع في الجنوب ، والحجاز في الشمال.
ولقد أقام معظم العرب آنذاك في شبه الجزيرة العربية. أن هذه الجزيرة لها خصائص جغرافية جديرة باهتمام الباحث المتقصي – فهي تتاخم من الشرق الخليج العربي وبحر عمان، ومن الغرب البحر الأحمر ، ومن الشمال سوريا، ومن الجنوب المحيط الهندي.
ومن المعروف إن مناطق الجزيرة العربية، من حيث الناحية المناخية الجغرافية، مختلفة بشكل واضح. وهي تضم صحراوين رئيسيتين، الأولى هي النفوذ، وتقع في الشمال، والثانية الأحقاف، وتقع في الجنوب. الأولى تمتد من البحرين حتى الصحراء العراقية ، أما الثانية فتمتد من اليمن حتى الحجاز . والحجاز نفسه غير خصب زراعياً. فبغض النظر عن بعض مناطقه، نجده متصفاً بتطرف مناخي: فهو بارد جداً في الليل، وحار جداً في النهار.
أما في حقل النشاط التجاري ، فقد تضمنت الجزيرة العربية طريقين تجاريين رئيسيين هامين، كلاهما أنطلق من حضرموت إلى الجنوب . الأول امتد حتى سوريا ، مروراً بالخليج العربي؛ والثاني حتى سوريا، ولكن مروراً بالبحر الأحمر فمصر.
إن هذا التحديد الطبيعي – المناخي والتجاري يلقي ضوءاً على طبيعة العملية الحياتية المعيشية في الجزيرة العربية آنذاك.
أما بالنسبة إلى مكة- وهذا ما يعنينا هنا بشكل رئيسي-، فقد قامت أهميتها على وضعها الستراتيجي جغرافياً، وبالتالي تجارياً. فهي، بوقوعها على الطريق التجاري الغربي الذي وصل اليمن بمصر وسوريا، اكتسبت أهمية بالغة . وقد ازدادت هذه الأهمية اتساعاً وعمقاً، على الأخص بعد تحول الوزن التجاري في بدايات القرن السادس الميلادي من أيدي اليمنيين إلى أيدي الحجازيين. في ذلك العصر عانت اليمن من نزاعات ماحقة نشبت من أجلها بين الفرس والأحباش . وقد تحولت نتيجة تلك النزاعات الدامية إلى دويلة فارسية عام 576. إلا أنها (اليمن) ظلت تحكم وتدار من قبل السكان العرب الأصليين.
ولقد أثرت النتائج السيئة القاسية للنزاعات تلك بشكل سلبي عميق ملحوظ على الوضع الاجتماعي – الاقتصادي لسكان الجزيرة العربية. بيد أن ذلك – وهذا ينبغي الانتباه إليه بدقة- حمل معه مكاسب جديدة وواسعة للسلطة القبلية في مكة ، كما امتد بتأثيره الايجابي هذا إلى بقية سكان مكة أيضاً، وإن كان جزئياً وبسيطاً بالقياس إلى مكاسب السلطة تلك، هكذا نجد أن تحويل الحركة التجارية من الطريق الشرقي إلى الطريق الغربي كان يعني علمياً توطيد سلطة " الارستوقراطية" الملكية.
ضمن هذا الإطار الاجتماعي – الاقتصادي ( سلطة الأرستوقراطية الملكية الممركزة في الحركة التجارية) برزت مكة في مجموع الحجاز كمركز رئيسي للتجارة الواسعة، إلى جانب مركزاً للعبادة الدينية، لوجود الكعبة فيها التي حج العرب إليها سنوياً. أما " المدينة " فلم ينالها نصيب كبير من هذا التطور التجاري الواسع.
إننا حيث نلح على الدور الكبير الذي مارسته التجارة والرأسمالي التجاري في حياة مكة، فإنما ننطلق من الواقع التالي ، وهو أن مكة الموصوفة من قبل القرآن بأنها واد غير ذي زرع( ).
لم يكن فيها ،كما هو معروف، سوى بئر ماء واحد ، هو زمزم. وقد اقتضى واستلزم هذا أسلوبا معيناً في تحصيل وكسب الحياة المادية المعاشية للمكيين. أن هذا الوضع الاقتصادي الجغرافي، الذي تميز بالكفاف والإدقاع، حول أنظار المكيين إلى البحث عن المصادر، بشكل رئيسي، في الحركة التجارية. هذا يعني أن المكيين قد مارسوا التجارة أيضاً قبل تحول الحركة التجارية من الخط الشرقي إلى الغربي.لقد خلق ذلك التحول " الاقتصادي التجاري" في مكة بنية سكانية فيها كثير من الخصائص الاجتماعية المغايرة لسابقتها، في وقت أخذت تبرز فيه مكة كأهم مدينة في الجزيرة العربية .
وكذلك الأمر أيضاً بالنسبة إلى القبائل البدوية، التي خضعت لقحل محيطها الطبيعي والاجتماعي والتي بسبب ذلك، كانت تأمل في إيجاد مخرج لها في الترحال والهجرة من منطقة إلى أخرى( ). أن هذه القبائل لقيت في مكة، المدينة التجارية المتنامية بقوة ، كما في مدن أخرى، مثل صنعاء في اليمن والطائف في الحجاز، حياة اقتصادية مستقرة وثابتة نسبياً.
فهذا لم يؤد فقط إلى تحسين جزئي في حياة البدو المرتبطين بمكة والمدن الأخرى، وإنما أيضاً إلى تكوين حضارة مدينية تجارية.
لقد زج سكان مكة في الحركة التجارية بشكل قوي. فهي شكلت بالنسبة إليهم الشريان الحياتي الرئيسي ولأساسي . لقد شاركوا فيها بنشاط أو بضرورة اقتصادية اجتماعية بحيث تكونت لديهم مع الزمن مصلحة عامة عميقة في إنجاح هذا الشريان المعاشي وهذا ما حثهم كما قلت بضرورة اقتصادية اجتماعية على أن يؤمنوا سيرها دون عوائق وبشكل ثابت ومستمر. إن وضع المسألة ضمن هذا الإطار يدعونا إلى بحث الإجراءات التي قام بها المكيون من أجل ضمان استمرار الحركة التجارية . فمن أجل حماية القوافل التجارية من الغزوات اللصوصية، التي كان يقوم بها البدو المنتشرون على أطراف الطرق التجارية وفي هذه الطرق نفسها، تشكل وتلبور شيئاً فشيئاً "مبدأ " معترف به من قبل الجميع قليلاً أو كثيراً، توجب على أساسه أن تمارس التجارة ويحج إلى الأماكن الدينية المقدسة خلال أربعة أشهر من كل سنة باطمئنان وبحرية، وعلى نطاق واسع . أما خلال الأشهر الثمانية الأخرى من السنة، فقد سمحت فيها الحروب والغزوات( ) .
وهنا نود الإشارة إلى للواقع التاريخي، وهو انه على الرغم من أن ذلك " العرف" المبدئي قد خرق وأسيء إليه في أحيان كثيرة، فإنه ساهم فعلاً في تنظيم الحركة التجارية في مكة ومناطق أخرى، وفي إعطائها القدرة على النماء والتطور.
لقد تعاطت مكة التجارة مع بيزنطة وبلاد الرافدين والهند وبلدان أخرى، كما تعاطتها مع مدن الجزيرة العربية. وفي هذا الإطار من المسألة نرى ضرورة التأكد على أن تطور التجارة في مجموعة الجزيرة العربية ، وعلى الأخص في مكة، لم يقد إلى " توحيد" وإنما إلى " ضم" اقتصادي محدود ضمن سوق كانت في البدء متجانسة بشكل أولي بدائي. أما في السوقين الآخرين من الحجاز، عكاظ وذي المجاز، فلم تتمكن التجارة أن تتحول إلى ينبوع رئيسي ثابت للحياة الاقتصادية.
لم يكن قد نشأ في السوقين عكاظ وذي المجاز حياة اقتصادية ثابتة ومتطورة، ما عدا ما كان يتم فيهما خلال الموسم السنوي (أربعة أشهر) من تبادل للبضائع والثقافات.
كان "عكاظ" نموذجاً حيا للتمازج العقلي والحضاري بين مختلف القبائل العربية؛ وكذلك أيضاً " ذو المجاز" . إلا أن كليهما كانا " موسمياً". على العكس من ذلك ، استطاعت الحياة الاقتصادية الثابتة والمتطورة أن تضرب جذوراً عميقة في مكة، ليس فقط موسمياً، وإنما أيضاً بشكل دوري. وهذا ما أدى بها إلى أن تتحول إلى السوق الرئيسي في مجموع الجزيرة العربية( ).
ولكن بالرغم من هذا ، فإنه لم يوجد في مكة بعد بنية اقتصادية- اجتماعية موحدة بشكل شامل، يبدو أن هذا كان في عملية صيرورته ونموه. لقد تمت في مكة، وخصوصا في مواسم الحج، عملية تبادل واسعة النطاق بالبضائع والتجارب والآراء بين فئات عديدة غير متجانسة من التجار العرب والسوريين والفرس والأحباش.
وفي الحقيقة، كانت هذه اللقاءات الدورية والأخرى غير الدورية بين فئات اجتماعية متمايزة في ثقافاتها وبناه الاجتماعية- الاقتصادية من العوامل الأساسية، التي أسهمت في خلق بنية اقتصادية- اجتماعية موحدة في مكة. ولكن في الحين الذي كانت تتشكل وتنمو فيه هذه البنية وتستكمل خصائصها، كانت عملية التمايز الاقتصادي والاجتماعي والثقافي تتسع وتكتسب شيئاً فشيئاً وتائر عالية بين سكان مكة ومدن أخرى، ومن ثم بين سكان مكة وهذه المدن من جهة وسكان المناطق الصحراوية القاحلة والمتعددة من ناحية أخرى.ومن الضروري الإشارة إلى تلك العملية أخذت مجراها بعلاقة وثيقة مع تكون وتطور مراكز ثقافية واقتصادية مدينية.
أما الحركة التجارية برأسمالها التجاري فقد مارست في ذلك دور النابض المحرك. بين تلك المراكز احتلت مكة في القرن السادس وحتى نشوء الإسلام وما بعيده أهم مكان.
ولقد رأى المؤرخ " اوليري" في كتابه " العرب قبل محمد" انه كان يوجد في مكة نفسها بيوت تجارية رومانية استخدمها الرومان للشؤون التجارية وللتجسس على أحوال العرب؛ كما كان فيها أحباش ينظرون في مصالح قومهم التجارية( ).
في الأوقات الأخيرة قبل نشوء الإسلام، حيث تحولت النزاعات بين بيزنطة وفارس إلى ظاهرة مرافقة للحياة في هاتين الدولتين، بلغ تطور الحركة التجارية في مكة درجات عالية. فقد عرف المكيون جيداً كيف يستغلون تلك النزاعات لصالحهم، وتكونت لديهم في هذا الحقل تجارب كثيرة. ونتيجة لذلك ارتفعت أعداد القوافل التجارية بشكل ملحوظ. فحسب معطيات تاريخية يقدمها تلنا الطبري، ضمت أحدى هذه القوافل 1500جملاً.
وباعتبار أن "المبدأ" أو " العرف" الذي تواضع عليه العرب التجار، والذي يحرم عليهم السلب والإغارة على القوافل التجارية خلال أربعة أشهر من السنة، قد خرق دائما من قبل البدو، فقد تحول اللخميون في الحيرة إلى حراس ووسطاء مأجورين بين وعبر عرب الجزيرة، والغسانيون في سوريا بين عرب الجزيرة وبيزنطة؛ إلى جانب أن اللخميين والغسانيين ، كان أنفسهم تجاراً. والشيء الذي يستثير نظر الباحث المؤرخ هو أنه قد تشكلت في مكة شيئاً فشيئاً وخلال العملي التجارية الضخمة" العالمية" طبقتان اجتماعيتان ، لهما مصالح اجتماعية واقتصادية وحقوقية متعارضة. فمن الطرف الأول برز المسيطرون على التجارة والمنظمون لها أكثر الأحيان كمربيين وأصحاب بنوك وكارستوقراطيي الكعبة الدينيين ذوي الامتيازات. وقد كان القرشيون في طليعة هؤلاء ، وبالتالي في طليعة سكان مكة والمدن العربية الأخرى على العموم. فبأيديهم استقلت السلطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والدينية . وقد ساعدهم على ذلك كونهم القيمين على الكعبة وسدنتها.
حول ذلك يخبرنا الزمخشري في " كشافه" انه كان لقريش رحلتين واحدة في الشتاء إلى اليمن، والأخرى في الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتاجرون. وكانوا في رحلتهم يحققون أهدافهم التجاري باطمئنان وهدوء، " لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يتعرض لهم، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم" .أما من الطرف الأخر ، فقد وجد العوام الأحرار ونصف الأحرار والأرقاء (العبيد) الذي كان وضعهم الاجتماعي – الاقتصادي متردياً ويزداد سوءاً.
هؤلاء ( أي العوام الأحرار ونصف الأحرار والأرقاء والعبيد) شكلوا الطبقة الثانية في مكة والمدن الأخرى، ووجدوا أنفسهم، من خلال عملية كسب حياتهم ، متعارضين في مصالحهم مع التجار الكبار وأصحاب البنوك والمرابين.
ولقد تطلبت واستتبعت عملية توسيع وتعميق آفاق التجارة تنظيماً أكثر دقة وإحكاماً واسعين، ومخططين وتمويلاً وتجهيزاً واسعين، ومخططين مسبقاً، ولكن هذا كان قد وضع شيئاً فشيئاً أمام القرشيين مهمة دقيقة وأساسية، وهي القيام بإيجاد فرق دفاع وحماية مأجورة لمرافقة القوافل التجارية وبتجهيز هذه الفرق بشكل جيد من حيث العتاد والمتطلبات المعاشية والخبرة بأمور الطرق التجارية . وقد تشكلت هذه الفرق، بالدرجة الأولى، من عوامل وأرقاء مكة ومدن أخرى، وكذلك من بدو مناطق صحراوية عديدة.
ومن يتتبع الأمر بدقة ، يجد أن العوامل لم يجدوا في تلك الحال أفضل طريق للعيش وتحصيله من أن ينخرطوا في صفوف تلك الفرق الدفاعية.أما بالنسبة إلى الأرقاء ، فقد كان الأمر مختلفاً عن ذلك؛ لأنهم كانوا مرغمين من قبل سادتهم التجار والمربين الخ...على القيام بهذه الخدمة. من هذا كله يستبين لنا أن مجموع سكان مكة، النخبة(أي الملأ) والعوامل والأرقاء كانوا مرتبطين اقتصاديا بممارسة التجارية وتوسيع آفاقها.
وهنا ينبغي أن يلاحظ بأن رقيق مكة كانوا يتكاثرون بشكل مواز لعملية توسيع وتعميق الحركة التجارية فيها. وهم أنفسهم كانوا، إلى جانب الجلود والبخور والتمور والسيوف والسجاجيد ، مادة للتجارة والمقايضة . لقد كانوا يشترون بالدرجة الأولى من أفريقيا . غير أن هذا لم يكن المصدر الوحيد للعبودية. فقد كان العرب أنفسهم معرضين أيضاً لأن يتحولوا إلى عبيد، وذلك نتيجة غزو تشنه إحدى القبائل ضد الأخرى. هذان كانا المصدرين الرئيسيين للعبودية في الحقبة الجاهلية قبل الإسلام. إلا انه إلى جانب هذين المصدرين الرئيسيين، كان هنالك طرق أخرى فرعية للاسترقاق، مثل الخطف والحيلة والدين واللعب( ) .
وهنالك واقع هام ينبغي أخذه بعين الاعتبار لدي التعرض للواقع الاجتماعي الطبقي للمجتمع العربي الجاهلي في حالات عديدة كان ممكناً أن تعبر الحدود بين العبد والحر. فلقد كان كل مغلوب في حرب أو غزو ما معروضاً لأن يصبح عبداً. أما ضمن القبيلة الواحدة وفي المراحل الأولى- البدائية للحركة التجارية التحضيرية، فقد كان الاسترقاق بشكل عام غير وارد وغير مألوف.ولكن مع تعميق الحركة تلك وإدخال نتائجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية العميقة إلى الحياة القبلية أعضاء ، أخذت العصبية القبلية (البطريركية) تضمحل، بحيث أصبح استرقاق أعضاء القبيلة الواحدة ممكناً.إن الاهتمام بهذه المسألة وملاحظتها بعمق شيء أساسي من أجل استيعاب عملية التطور والتقدم الاجتماعي في العهد الجاهلي.
ولكن تحرير الرقيق كان، من ناحية أخرى، ممكناً ضمن ظروف معينة، مثل الغزو والكرم أو تملك أولاد الموهوبين من أمهات أمات (أي رقيقات) .
أما العبيد الذين حرروا من قبل سادتهم ، فقد كونوا ما سمي بالموالي. وقد بقي هؤلاء مرتبطين بأسيادهم السابقين ارتباطاً محدوداً يجعلهم، ضمن ظروف حربية أو اجتماعية أو اقتصادية ، ملزمين بتأديته واجبات معينة تلقاء سادتهم أولئك.
وهناك نقطة أخرى تلقي ضوءاً على وضع " العبودية" ضمن النساء . فالأطفال من أب حر وأم مسترقه نظر إليهم كعبد، وعوملوا كذلك( ).
وبالرغم من أن المرأة كانت تمارس عملاً ما إلى جانب عملها المنزلي، فإنها بقيت دون الرجل في أمور كانت تعتبر أساسية جداُ، كاقتسام غنائم الحرب مثلاً. وبشكل عام، تعتبر لدى العرب الجاهليين مرادفاً للعار والخسة ، من أي مصدر أتت.
وهي لم تكتسب الطابع التقليدي ، الذي ساد في الدولة الرومانية القديمة مثلاً أي أنها تشكل في المجتمع العربي الجاهلي نظاماً موحداً وشاملاً لمجموع قطاعات الحياة الاجتماعية ، بل ظلت ظاهرة مرتبطة بالعمل التجاري وتغلغله في المجتمع ، أكثر من ارتباطها بالإعمال الزراعية والعمرانية من سدود ومنشآت مختلفة. وهذا ما سنتعرض له فيما بعد.
بيد انه يبقى ضروريا أن ننوه بأن تملك العبيد والاتجار بهم بلغ لدى العرب ، قبيل الإسلام ، درجة عالية بشكل ملحوظ. ومثال عبدالله بن جدعان، الذي أنعقد في بيته " حلف الفضول"، هذا الحلف الذي شارك فيه بنشاط "محمد" قبل دعاوته الدينية، إن ذلك المثال لبليغ جداً في هذا الحقل . فلقد كان عبد الله هذا أحد كبار النخاسين ( أي تجار الرقيق). وهو قد سمي بسبب ثرائه بـ"حاسي الذهب" من قبل معاصريه.
لقد عمل العبيد والعوام ليس فقط كحماة وحراس للقوافل التجارية الخاصة بالأثرياء المتنفذين، بل إنهم مارسوا، إلى جانب ذلك ، صنائع وحرفاً يدوية بدائية ، كما عملوا بحدود ضيقة، كمزارعين. وقد انتشر هذا خصوصا في الفترات التي تميزت بحركة بائرة قليلاً أو كثيراً. ونحن نستطيع أن نجد سبباً آخر لالتفات العوام والرقيق النسبي إلى الصنائع والحرف اليدوية والزراعة البدائية في موقف العرب السادة الأثرياء من العمل اليدوي بشكل عام، هذا الموقف الذي تميز باحتقار العمل ذاك وبالترفع عنه.
وفي الحقيقة، هذا الموقف من العمل اليدوي يعبر بعمق عن الوضع الاجتماعي الطبقي للتجار والمرابين السادة الأثرياء وعن رؤاهم الذهنية (الايديولوجية)، ولو بأسلوب عفوي خاص. هذا الأسلوب الخاص الذي تحديد من خلال شكلين من أشكال النشاط الإنساني: التجارة والغزو. وفي الحقيقة، إن الشكلين هذين ، اللذين مارسهما الأغنياء والأقوياء معارضين بذلك النشاط الإنساني اليدوي- يمكن فهمهما وتقييمهما تاريخياً واجتماعياً انطلاقاً من الخصائص الاقتصادية الطبيعية لمنطقة الجزيرة العربية آنذاك. ولقد رأينا، فيما سبق، أن هذه الخصائص قامت بشكل عام على الكفاف والقلة والقحل.
في المسألة هذه نقطتان ، ينبغي تفهمهما لدى طرح العلاقة بين العمل اليدوي والعمل التجاري "والحربي" في موقف السادة العرب الأثرياء:
النقطة الأولى: تقوم على معارضة اجتماعية طبقة بين السادة من طرف ولعوام والرقيق من طرف آخر، وبالتالي على معارضة " إيديولوجية " موقفية بين الممارسة اليدوية " العبودية " وبين الممارسة الأخرى التجارية والحربية " الحرة " .
أما النقطة الثانية: فتقوم على أن المعارضة بين الموقفين "اليدوي "و" التجاري الحربي أو الغزوي" من العالم الاجتماعي قد تحددت أطرها وآفاقها من خلال الإمكانات الاقتصادية- الاجتماعية القائمة.
هذا يعني أننا حين نقارن ذلك بالقضية نفسها لدى السادة والعبيد في الدولة اليونانية والأخرى الرومانية القديمتين، فأننا سوف نلاحظ أن المشكلة قد اكتسبت في المجتمع في تلك الدولتين شكل تعارض عميق بين الفعالية " الفكرية الفلسفية" والفعالية " اليدوية المباشرة" .
وبالطبع، هذا الشكل الأخير من التعارض يعتبر، تاريخياً ، مرحلة عليا متطورة من مراحل تقسيم العمل الإنساني إلى يدوي وفكري.
إن ذلك يعني معارضة العمل اليدوي المباشر بالعمل التجاري الغزوي في الحقبة العربية الجاهلية الانتقالية يمكن النظر إليها من حيث كونها أدنى تطور مما هو الحال في المجتمع اليوناني والروماني القديم. ولكن حتى في الفترات اللاحقة من توطد المجتمع العربي، حيث بلغ التطور الاجتماعي والاقتصادي والفكري هنا شأوا عالياً، لم تنشأ تلك الهوة السحيقة بين العمل اليدوي والآخر الفكري. وهذا يتعلق بطبيعة العبودية (الرقيق) التي وجدت آنذاك. وسوف نتعرض لهذه الظاهرة لاحقاً في هذا الكتاب.
إن العرب قبل الإسلام لم يستطيعوا ممارسة الزراعة والصنائع اليدوية إلا ضمن حدود معينة وضيقة . وبالطبع ، كان هذا يعود إلى الشروط الجغرافية المناخية القاسية المحيطة بهم . فنحن إن أخذنا بعين الاعتبار والتبصير التقاليد الاجتماعية والأخلاقية الخاصة بالفروسية والعنجهية البطريركية المسيطرة آنذاك ، والتي ساهمت في ذلك الموقف الازدرائي والاحتقاري من الزراعة والصناعة، فان المحيط الجغرافي المناخي قد مارس بدوره في هذا المضمار دوراً ملحوظاً، لا يمكن للباحث غض النظر عنه.
هذه الظاهرة كان ابن خلدون قد لاحظها في حينه، بيد انه عممها على غير حق. فهو كتب " بأن العرب أكثر بعداً عن الصنائع من جميع الناس. والسبب هو أنهم غارقون في البداوة وبأنهم أكثر بعداً عن العمران الحضاري"( ) .
فالعرب الجاهليون الأحرار " اختصوا " إذن بشكل عام بالتجارة والغزو. فعلى طريق التجارة مع دول حضارية سادت آنذاك ، كما على طريق الصنائع اليدوية المتواضعة استطاعوا سد حاجاتهم الحياتية الأولية. والآن إذا حاولنا تقصي قضيتنا المطروحة بشكل موجز، هذه القضية القائمة على تحديد الملامح الأساسية للمجتمع العربي الجاهلي المدني في الحجاز، فانه من الضروري والجوهري إبراز مايلي:
1- إن المجتمع المديني ذاك تكون خلال عملية تاريخية تتوجت بتبلور طبقتين اجتماعيتين رئيسيتين، هما طبقة التجار والمربيين في الطرف الأول ، وطبقة العبيد والعوام الأحرار ونصف الأحرار في الطرف الآخر. بيد أن علاقات الإنتاج البطريركية ( الأبوية البدائية) للقبائل المختلفة لا زالت حتى آنذاك موجودة . أما أنها كانت تجتاز عملية اضمحلال ، هذا من الضروري التأكيد عليه.
2- إن التجارة والربا لم يظهرا كـ" بديل" لهذه العلاقة الإنتاجية البطريركية ( التي قامت على الاقتصاد الطبيعي ، أي على تربية المواشي ومنتجاتها الألبانية الأولية، كما على الغزو)، وإنما إلى جانبها. ولقد بلغ الراسمال الربوي- التجاري في مكة في مطلع القرن السابع درجات عالية في تطوره . فهنا، أي في مكة، كان يطلب المرابون من مدينيهم فائدة بنسبة 40%إلى 100%، كما يخبرنا لامانس( ). وبغض النظر عن الجانب اللاانساني في الواقع ذاك، فانه استطيع ، على أساس الاستغلال الربوي المتزايد هناك، تكوين وضع اقتصادي معين متماسك وثابت إلى حد كبير.
3- وقد ساهم في هذا السبيل الاقتصادي النقدي الآخذ بالنمو. فهذا الاقتصاد جلب معه، بشكل أولي، دورة اقتصادية ثابته. كذلك نلاحظ إن حرفاً مختلفة نشأت واكتسبت، وبالرغم من بدائيتها، واقعاً اقتصادياً متميزاً في حياة المجتمع الانتقالية العامة وعبر تلك التحولات الاقتصادية – الاجتماعية، كانت مكة تبرز أكثر فأكثر كمركز اقتصادي استراتيجي لمنطقة الجزيرة العربي.
4- أما الأرقاء (العبيد) فقد برزوا من حيث هم "ناس" وذلك على العكس مما كان سائداً في الدول الرومانية القديمة. فهنا في هذه الدولة، كان ينظر إلى العبد من حياة. هو " شيء"، كما يخضع لشتى الاضطهادات من قبل سيده ، ومن ضمن ذلك القتل الجسدي .
ان الرقيق المكي، والجاهلي على العموم، تمتع فعلاً بحق أساسي، هو حق الحياة. ولا شك انه قد قامت علاقة معينة تحددت على أساسها تبعية الرقيق بسيده. أما طابع هذه التبعية فقد قام على أساس "تملك" السيد لرقيقة. هذا يعني، بقول آخر، أن حق "تصرف" السيد بالرقيق لم يتعد نطاق استخدامه في الشؤون التجارية والحربية والزراعية والمنزلية.
5- أما فيما يتعلق بظاهرة وأد البنات الوليدات لدى بعض القبائل،مثل قبيلة تميم، فان المسألة طرحت نفسها أيضاً على أساس اجتماعي طبقي . ففي الوقت الذي تمت فيه تلك الظاهرة نتيجة عوامل مادية و" أخلاقية " فإنها أصابت البنات من أبوين حرين أو عبدين على الحد سواء . أما أولاد الفئتين من الآباء فأنهم لم يخضعوا لتأثيرات تلك الظاهرة. في هذه المسألة نجد نوعاً من التساوي بين العبد والسيد. ولا شك أن الباحث في تاريخ الحقبة العربية الجاهلية لا يمكنه إلا أن يأخذ هذا الواقع التاريخي ذا الدلالة العميقة بعين الاعتبار. ونحن إن وضعنا هذا الواقع أمام أعيننا، الذي وجد فيه الرقيق خلال أوقات السلم والحرب، فإننا نستطيع سحب النتيجة الهامة، وهي انه قد تكون في المجتمع العربي الجاهلي قبيل نشوء الإسلام وضع مخلخل من الناحية الاجتماعية الطبقة، حمل في أثنائه إمكانية التداخل والفرز الطبقي ضمن الرقيق والسادة على حد سوء. ولقد تكاثر جمهور العوام بشكل مواز لعملية التمايز الاجتماعي- الاقتصادي ضمن القبيلة الواحدة وعدة قبائل . إن هذه العملية اكتسبت مضامينها من خلال الحركة التجارية الآخذة في العمق والأتساع والشمول مع الشرق والغرب ، ومن خلال تطور وسيطرة الرأسمال الربوي في مجموع الحياة الاقتصادي للمجتمع العربي الجاهلي . هكذا يظهر واضحاً أن الاغتناء الاقتصادي لطبقة التجار المرابين أو المرابين التجار، والإفقار لطبقة الرقيق والعوام الأحرار ونصف الأحرار قد تحققا على هذه الطريقة الوطيدة ، التجارة ذات الحجوم المتسعة أكثر فأكثر، والربا ذو النسب العالية في الفائدة لقد شكل العوام ، خصوصاً في بدايات القرن السابع أحد المصادر الأساسية للاستشراق في المدن. وهذا الواقع اكتسب في مكة وتائر عالي في تطوره. فهم ، أي العلوم، كانوا أكثر الأحيان معرضين لا قسى وأشرس معاملة من قبل المرابين ، وذلك في حالة عدم تمكنهم إرجاع المبالغ المستحقة لأولئك في الوقت المحدد. وقد تحدث القرآن الكريم بوضوح حول هذه المسألة، مثلاً كما جاء في سورة البقرة- الآية 274، وسورة النور- الآية 32. إن واحد من " المخارج" لتلك الجماهير اليائسة المضطهدة من أوضاعها، الأخذ سوؤها في الازدياد والعنف، كان- أي المخرج- قد كمن في إذعانهم لان يتحولوا من " أحرار" إلى أرقاء تابعين لدائنهم المرابين. وقد تطورت عبودية " الدين" تلك ساهمت بشكل عميق وفعال في مد جسور متحركة ومتداخلة بين العوام والعبيد (الرقيق) .
وهنا نجد أنفسنا أمام نتيجة هامة حتى الحد الأقصى ، تمس قضية العوامل العميقة الدفينة التي مهدت لنشوء الحركة الإسلامي بجانبها الاجتماعي الهام، على أساس تلك الرابطة الوثيقة والمشروط وجودها بشكل موضوعي بين العبيد (الرقيق) والعوام الأحرار ونصف الأحرار، تكونت وتبلورت الدوافع الاجتماعية البعيدة للحركة تلك.
لقد وجد ضمن العوام- والأرقاء أيضاً- صناع وعمال يدويون.وبالعلاقة مع اتساع وتعميق النشاط التجاري حققت الصناعة اليدوية تقدماً معيناً. وكانت الحاجات الحياتية للعرب الجاهليين مشروطة بالوضع المناخي الجغرافي . لقد صنعوا ثيابهم من وبر الجمال والماعز، وكذلك من جلود حيوانات مختلفة. أما بيوتهم فقد أنشاؤها من الحجارة والنخيل. والحال فيما يخص " ألهتهم" ، التي صنعوها أكثر الأحيان من النخيل .
وهنالك واقع يستدعي الاهتمام،وذلك بالعلاقة مع مسألة وحدة الفكر بالواقع، وهو أن "طبيب الحيوانات" عندهم قد وحد في شخصه الحداد والبيطري النظري. ولقد ساهم هذا بشكل ملحوظ في رعاية الحركة التجارية( ). ولكن بشكل عام يمكن القول بأن الأعمال والصناعات اليدوية لم تستطع أن تبلغ في مكة والمدينة درجة عليا وشاملة من التطور. إلا أنها حققت بشكل أولي حاجات ومطالب السكان والتجار، وخصوصاً في أوقات الأسواق والبازارات التجارية المنتظمة والدورية . ذلك لأن هذا تطلب من السكان الأصليين الأثرياء تهيئة مسبقة مركزة وكاملة إلى حد كبير. هذا يعني، من طرف آخر ، أن المكتسبات البسيطة ، التي تمت هنا في حقل الصناعات اليدوية، ارتبطت بشكل وثيق مع تطور وتوطد الاقتصاد النقدي- التجاري. وهنا يبرز سؤال جدي يطرح نفسه بالعلاقة مع التحليلات السابقة وهو: هل وجدت في الجاز الجاهلي مسألة مسألة ملحة خاصة ب"الأرض"؟.إن تقصي المسألة بأبعادها الاجتماعية والتاريخية يمنحنا القناعة بالإجابة السلبية على ذلك التساؤل. فالعلاقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هناك وجدت وتطورت، على الأقل حتى نشوء الإسلام وتوطيد مواقع "النبي" في المدينة، ضمن قبائل منفصلة عن بعضها بحدود، ومتصارعة أكثر الأحيان. ولقد أدى إدخال التجارة والربا في الحياة الاقتصادية – الاجتماعية لتلك القبائل الى تكوين حلقات تخلخل ضمن نظامها الاجتماعي البطريركي، وأن لم يستطع أزالته. عدا ذلك ينبغي أخذ الواقع التالي بعين الاعتبار،وهو أن تأثر تلك القبائل بالعلاقة الاجتماعية التجارية – الربوية الجديدة كان مختلفا ومتمايزاً من واحدة لأخرى. ففي مكة نفسها ، الترسانة الرئيسية والهامة للتجارة والربا في الجزيرة العربية منذ بدايات القرن السادس، تمركزت شريانات النشاط التجاري- الربوي ذاك في أيدي قبيلة القرشيين. هذا يرى أنه من الضروري النظر إلى قضية " الأرض" في الحقبة العربية الجاهلية انطلاقاً من معطيين تاريخيين، الأولى بالنسبة إلى القبيلة الواحدة، والثاني بالنسبة إلى عدة قبائل.
فضمن القبيلة الواحدة كانت" الأرض" شكلياً ملكية عامة لمجموع أعضاء القبيلة. ولكن في الحقيقة ، كانت هذه الأرض ( الحديث يدور هنا حول الأرض المتضمنة بعض المراعي أو بئر ماء، وبالتالي القابلة للإخصاب نسبياً) ضمن امتيازات رئيس القبيلة أو الأعضاء الأقوياء فيها، وأن لم يكن هذا مقرراً بشكل رسمي حقوقي.
وقد برز هذا المعيار نفسه بالنسبة إلى الأرض وحيازتها من قبل عدة قبائل. إن تجوال ورحيل قبيلة ما إلى مناطق عديدة، وغزوات القنص من قبل قبيلة ضد أخرى أو ضد عدة قبائل، كان يتم ، بالخط الأول، بدوافع اقتصادية معاشية ، وإن كان هذا قد تم مرافقا بعوامل أخرى أو ملبساً إياها، مثل الشجاعة والتبجح بالأصول القبلية . هنا يمكننا التذكير بالعداوة – التي أخذت أكثر الأحيان شكلاً حربياً- بين الأوس والخزرج في المدينة، أو بين هاتين القبيلتين من طرف والقرشيين في مكة من طرف أخرى. بيد أنه لا تنتج عن ذلك النتيجة القائلة بقيام علاقات ملكية زراعية هنالك بالمعنى الواسع، وبأن ذلك الاقتتال بين القبائل يعبر عن وجود مثل تلك العلاقات. ذلك لأن هذا يقتضي وجود مساحات أرض خصبة وكافية وثابتة نسبياً في خصوبتها، ويقتضي بالتالي وجود إمكانات سقاية ثابتة.
أي أن وجود درجة معينة من التطور الزراعي شيء ضروري من أجل نشوء علاقات تملك خاص بالأرض. وهذا الذي عددناه ما كان موجود. بذلك نجد أن ما يميز العلاقات الإنتاجية الاجتماعية في الحجاز الجاهلي هو فقدان ملكية الأرض بالمعنى الدقيق المميز. لقد فريدريك إنجلز عام 1853 رسالة إلى كارل ماركس جاء فيها الآتي:
« إن غياب ملكية الأرض هو في الحقيقة مفتاح لمجموع الشرق. وهنا يكمن التاريخ السياسي والديني. ولكن من أين أتي كون الشرقيين لم يتوصلوا إلى ملكية الأرض ، أو على الأقل إلى الملكية الإقطاعية؟ إني اعتقد بأن هذا قد وجد بشك ل رئيسي نتيجة المناخ
مرتبطاً بعلاقات الأرض ، وخصوصاً في المناطق الصحراوية الواسعة التي امتدت من الصحراء عبر المنطقة العربية وفارس والهند والتتر حتى الخليج الأسيوي الكبير . أما السقاية الاصطناعية فقد كانت هنا الشرط الأول للزراعة( )» .
على هذا يمكننا أن نلاحظ بأن ما أرجعه انجلز إلى المناخ يبدأ بالتوقف مع نشوء وتطور الحركة الإسلامية. فخلال عملية اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية طويلة، كانت قمتها الأولى نشوء الحركة تلك ، تكونت شيئاً فشيئاً بنية متماسكة إلى حدود ضرورية من القبائل العربية، وخصوصاً من تلك القبائل التي كانت اقرب إلى الحياة المدينية الحضارية. أما مع بداية الحروب العربية الإسلامية في الحقبة اللاحقة، فقد تغيرت صورة المسألة. ذلك لأن ملكية الأرض أخذت هناك باحتلال مكان واضح ضمن الحياة الاقتصادية. هذا يظهر إذن بأنه لم تنشأ في الحجاز الجاهلي بعد علاقات إنتاجية قائمة على ملكية الأرض. بل أكثر من ذلك، لم تتكون هناك نخبو إقطاعية وجمهور فلاحين أقنان. لقد تكونت وترعرعت الحركة الإسلامية في فترة زمنية بلغ فيها الرأسمال التجاري- الربوي درجات مرموقة، وتضاعف فيها بالتالي استغلال الأرقاء والعوام. وقد أصاب هذا الاستغلال أعضاء القبيلة الواحدة من قبل أغنيائها وأغنياء قبائل أخرى على حد سواء. فالعصر"الذهبي " ، الذي سيطرت فيه قرابة الدم والعصبية والذي كان فيه الواحد من أجل الكل والكل من أجل الواحد ضمن القبيلة الواحدة، هذا العصر قد تلاشى بدون رجعة. أما الوضع الجديد الآخذ في التكون والنمو والقائم على اضطهاد واستغلال عنيفين للـ"أخوة " و"الأقرباء" الضعفاء الفقراء، فإنه لم يتح الفرصة للشاعر كي يتغنى بوحدة وتلاحم قبيلته كلها، كما كان الأمر سابقاً.
لا يسألون أخاهم حين يسألهم في النائبات على ما قال برهانا
على العكس من ذلك ، نجد شعراء هذه الحقبة الجديدة والمتميزة بالاضطهاد والاستغلال
( وهم، أي الشعراء، إيديولوجيو قبائلهم) ينظمون حول قضايا جديدة بكثير من التعاسة والشكوى والاحتجاج. فالأعشى ، شاعر تلك الفترة، يقول مخاطباً ذوي الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية في مكة.
تنامون في الظل ملآى بطونكم وجاراتكن يبتن غواثيا
من ذلك كله يمكن صياغة النتيجة الأساسي التالية، كمخرج عفوي وضروري لجمهور الأرقاء والعوام الحجازي المضطهد والمستثمر- وخصوصاً في مكة والمدينة- وكتعبير عن الطموح الاجتماعي المشروع تاريخياً لخلق شعب موحد في الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وبعيد عن الحرب المبيدة بين القبائل العديدة، نشأت وتكونت الملامح الأولية الأساسية للحركة الإسلامية في القرن السابع.
المسار التاريخي للمجتمع العربي الإسلامي
الإسلام وتحول البنية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للمجتمع العربي الجديد
حسب روايات إسلامية( ) وغير إسلامية كان الوضع في مكة وفى مدن عربية أخرى قبل بدايات الحركة الإسلامية مهيأ لاستقبال " مخلص" جديد للناس من البؤس الاجتماعي والاقتتال القبلي و" الأوهام " الوثنية. فلدى مجموع القبائل العربية ، التي دخلت حياتها المسيحية قليلاً أو أكثر، توقع المرء مثل هذا" المرسل". وفي هذا الحقل أضفى المرء على هذا التوقع شغافاً أسطوريا متعدد الألوان والأشكال. وكذلك من الوجهة التاريخية كان وارداً أن يتكون ويتطور الأمل والطموح في مجيء مثل ذلك المحرر للقبائل المتشتتة المتصارعة. بل أكثر من ذلك، إذا وجد ذلك التوقع وذلك الطموح فعلاً، فأنهما برهان واضح على توتر الوضع الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي والفكري في مكة ومدن عربية أخرى في مطلع القرن السابع، هذا التوتر الذي أدى إلى تواجد العوامل الضرورية لنشوء وتبلور الحركة الإسلامية التي لعبت دوراً كبيراً في تغيير وتحويل البنى الاجتماعية والاقتصادية والقيمية للمجتمع العربي الجاهلي.
لقد تعرف " النبي محمد" (عاش 570حتى 632) على طبقة التجار والمرابين وعلى طبقة الرقيق والعوام الأحرار ونصف الأحرار عن كثب. فقد كان له قبل نشاطيته الإسلامية أربعين سنة من العمر، قضاها إلى حد كبير في قلب الأحداث الملكية . أن النضال الطبقي الاجتماعي بين الأغنياء والمفقرين ضمن القرشيين، الذين كان " الرسول" منهم- هذا النضال الذي تقنع بقناع العنجهية العصبية القبلية وبكثير من العادات والتقاليد البطريركية- والنضال بين مجموع سكان مكة والمدن العربية الأخرى، وكذلك المسار الحياتي المأساوي " للرسول" نفسه، أن هذا كله كون العوامل الحاسمة ( طبعاً هناك أسباب أخرى) لنشوء الحركة الإسلامية. لقد كانت هذه الحركة في نشوئها وتبلورها تعبيراً عن البؤس الاجتماعي العميق لأكثرية سكان الحجاز- وخصوصاً مكة-، وفي نفس الوقت احتجاجاً ضد هذا البؤس، وبالتالي" سلاحاً " لتجاوزه. أن الحركة الإسلامية قد عبرت في تلك الحقبة من وجودها عن البؤس المكثف لجماهير العوام الأحرار ونصف الأحرار والرقيق المكيين وغير المكيين على طريقتها الخاصة. أن هذه الطريقة الخاصة في التعبير، التي يحتل فيها الانسلاخ عن العالم المادي( الطبيعي والاجتماعي) مكاناً رئيسياً، لا تعني أبداً نفي النتائج العملية المباشرة والايجابية التي انعكست في حياة المعدمين، بل تعني نفي وجود ارتباط مباشرة بينها وبين المعطيات الاجتماعي والسياسية والاقتصادية التي كمنت وراء تكونها وتطورها. فهي – أي تلك الطريقة الخاصة في تمثل الأمور واستيعابها- ترجع التحول الكبير الذي حدث في بنى المجتمع العربي الجاهلي إلى عوامل خارقة ومفارقة. فاللحظة التاريخية تفقد هنا كيانها من خلال ذلك التصور اللاتاريخي.
وانه من الخطوة الجدية أن لا يستطيع الباحث تقصي وكشف تلك اللحظة التاريخية ، حيث يقع في متاهات المثالية الفلسفية الموضوعية أو في متاهات التصورات الغيبية. ولكن في حال انفلات الخط الأساسي للمسار التاريخي الحقيقي من يد الباحث في تاريخ الأديان والحضارات أو تعقد هذا الأمر بالنسبة إليه، يمكن ضبط هذا الخط ، بشكل مباشر ومتوسط ، من خلال النتائج العملية التي اتكأت عليها تلك الأديان والحضارات.
والحركة الإسلامية، كأية حركة دينية أخرى ، تضمنت – بالطبع ضمن أطر خاصة ونوعية- ذلك التقاطب بين كونها مرتبطة بنتائج عميقة في المجال الاجتماعي العملي وكونها تلحق المجتمع والطبيعة والإنسان بمحرك أو بمحركات مفارقة وخارقة. وهذا التقاطب كان شيئاً طبيعياً، كما كان في حينه أيضاً، نشوء الفلسفة المثالية الموضوعية (القائلة بوجود وعي أو عقل لا أنساني يوجد ويحرك العالم المادي) على يد أفلاطون شيئاً طبيعياً، نتيجة لتقسيم العمل الإنساني إلى جانب فكري وآخر يدوي في المجتمع الحضاري- الطبقي. فالإنسان في هذا المجتمع يحقق أشياء ومكتسبات هامة جداً على المستوى الاجتماعي – العملي. ولكنه – ضمن الأطر النظرية للمثالية الفلسفية الموضوعية وضمن التصور اللاهوتي الغيبي- يجتزئ هذه الأشياء، التي حققت، من إطارها الاجتماعي الحي ، ويلحقها بفعل مفارق خارق.
إن روجيه جارودي، في محاضرة له حول " الاشتراكية والإسلام"، لا يعطي هذه المسألة حقها من التقصي والاهتمام . فهو ، في الوقت الذي يلح فيه على أهمية دراسة القضايا الدينية من خلال رؤية تاريخية جدلية، نراه عاجزاً عن تمثل تلك اللحظة اللاتاريخية في التصور الديني للعالم الطبيعي والاجتماعي الإنسان. لقد كتب في محاضراته تلك :" وحين عالج ماركس وانجلز – بعد أن أصبحنا على وعي تام بمذهبها – المشكلة الدينية من جديد، فأن هذه الجدلية القائمة في نص عام 1843( أي في كتاب " مقدمة لنقد فلسفة القانون عند هيجل") اتسعت ولم يعودا يتكلمان عن الدين عامة على طريقة فيورباخ الانثروبولوجية، وأوضح تحليلها التاريخي أن المعتقدات الدينية تعبر على وجه التحديد (كانعكاس وكاحتجاج) عن ظروف تاريخية مختلفة، يمكن أن تلعب دوراً متبايناً في العصور المتباينة، وانه ليس من العلمية أن نضفي على كل عصور التاريخ نفس المفهوم الميتافيزيقي الذي أسماء فيورباخ" جوهر الدين"( ). لا شك انه من الضروري التمسك بـ"تاريخية" البنى الاجتماعية والفكرية والدينية، أي التأكد على أن هذه البنى وجدت نتيجة تطور تاريخي سابق وطويل كثيراً أو قليلاً؛ ولكن من الضروري أيضاً الإلحاح على أن " التصورات" الدينية تتضمن شرطياً محاولة الانسلاخ من التاريخ العياني المشخص، بحيث تنشأ، عبر ذلك، هوة بين ما يعتقد المرء وبين ما يفعله . فما يمكن أن يكون، في هذا الإطار، إيجابيا، يمكن – بشكل جوهري- في الممارسة العملية التي يحققها المرء الأخذ بتلك التصورات. أما هذه التصورات نفسها، فإنها طريق معبد لانسلاخ الإنسان عن اللحظة التاريخية العيانية التي يعيشها.
أن الانفصام في شخصية الإنسان في المجتمعات الطبقية لايبرز فقط عبر تصوراته الدينية وسلوكه العملي الضروري، وإنما أيضاً في أرائه تلك الفلسفية والجمالية والأخلاقية والاجتماعية ألخ....فهو يفكر أو يعتقد بشيء ما على نحو، ويمارس وجوده الحقيقي – العملي على نحو آخر. بالطبع ، ينبغي أن يتجسد في شخصية حد ما من التطابق بين الفكر والعمل .
ولكنه خلال عمله( ممارسته) يحقق، بالرغم من عدم وجود تجانس أو انسجام شامل بين ذينك القطبين، عملية تغيير وتحويل العالم وأنسنته. أما اللحظة الواعية الضرورية والمرافقة لهذه العملية، فإنها تتكون بالتعارض مع التصورات الغيبية والمثالية الموضوعية والمثالية الذاتية. ضمن هذه الإحاطة بالمسألة نجد أن تاريخ المجتمع الإنساني الطبقي لا يقوم على معطيات التصورات تلك ولا يمكن فهمه انطلاقاً منها، وإنما على العلاقات الاجتماعية وانعكاساتها الفكرية الايجابية.
ذلك لأن التصورات هذه أولاً : تفهم أصلاً عبر تلك العلاقات وانعكاساتها.
ثانياً: نشأت ضمن علاقة وثيقة مع عملية تشويه الواقع الحقيقي المادي بالنظر إليه كـ"تخرج" وهمي لشيء " غير" وهمي.
ونحن حيث نأخذ بعين الاعتبار واقع عدم وجود حدود لا تعبر بين العوام والرقيق، هذا الواقع الذي خلق، كما تبين لنا سابقاً، رابطة تضمان موضوعية عميقة بين هؤلاء،وحين نأخذ بالتالي بعين الاعتبار واقع الاحتجاج الواعي قليلاً أو كثراً من قبل أولئك المضطهدين(العوام والرقيق) ضد مضطهديهم ، أي ضد " الذي جمع ماله وعدده، بحسب أن ماله أخلده"( ). أقول، أن أخذنا بعين الاعتبار ذلك كله يؤدي بنا إلى التأكد على ضرورة كشف العلاقة بين ذلك الواقع وبين الحركة الإسلامية التي ابتدأت عام 610 وبقيت سرية مدى ثلاث سنوات، تحول بعدها " الرسول" إلى داعية علني. وعلى ضوء المعطيات التاريخية والاجتماعية لفترة نشوء وتبلور الحركة الإسلامية نجد العلاقة تلك قائمة على كون الحركة هذه تعبيراً مباشراً عن الواقع المزدوج ذاك ، أي التضامن بين العوام والرقيق من جهة ، واحتجاج هؤلاء ضد واقعهم البائس ومحاولة تجاوزه من جهة أخرى.
أن نزاع " الرسول" مع الملأ المكي حمل، بشكل متوسط وغير مباشر، مضموناً سياسياً واجتماعياً – اقتصادياً وفكرياً. وقد استطاع ( أي الرسول) كسب العبيد والعوام من خلال قدراته على إقناعهم المباشر بضرورة التمرد على" الملأ" المكي " الظالم" ومن خلال فكرة " وحدانية الإله"، التي تستوجب وجود رعية واحدة،" متساوية " أمام الله .
ولقد اتضح ذلك الطابع الاجتماعي – الاقتصادي والسياسي للنزاع بين العوامل والرقيق من طرف والملأ من طرف آخر من خلال ممارسة" الدعوة " المحمدية. كما أن عملية التمايز الاجتماعي بين الطبقات الملكية أخذت، في التطور اللاحق، تتسع وتكتسب طابعاً مسلحاً انفجاريا.أن التجار الكبار والمرابين في مكة – وقد كان أبو جهل ، عم الرسول، واحداً منهم – أخذوا يحسون بعمق متزايد وبحقد متأجج خط الرسول وأتباعه ضد مصالحهم الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية والحقوقية والدينية.
وفي الحقيقة ، أن هذا " الخطر" فهم ويفهم من قبل الباحثين المثاليين الفلسفيين والغيبيين من خلال المظهر فقط ، الذي اتخذه آنذاك ، أي من خلال الشكل الديني. وهم يرجعون ذلك الخطر إلى نشؤ فكرة " الإله الواحد" . ذلك لأن " الرسول" قد طرح على المكيين فكرة " الإله الواحد" بالتعارض مع " تعدد الآلهة" ، الذي ساد آنذاك؛ بالرغم من أن " الله" كان أحد الآلهة ، الذين أخذ المكيون بهم قبل دعوة الرسول( ) .
بيد أننا إذا استنطقنا المسألة علمياً عبر واقعها الاجتماعي والتاريخي العياني، فإننا سوف نصل إلى اليقين بأن الملأ المكي كافح ورفض فكرة " الإله الواحد" ورأى فيها خطراً محدقاً لأنه أنطلق، بالدرجة الأولى، من الدفاع عن مصالحة وامتيازاته الاجتماعية والمالية. فلقد وجد في مكة فعلاً عدة مئات من الآلهة والأصنام الصغيرة كانت تدر عليهم، بشكل دوري ومنتظم ، أموالاً طائلة من قبل العرب الوافدين إلى مكة لزيارة هذه الآلهة والأصنام وتقدم الصلوات والهدايا والقرابين لها . أن هذا يكشف بوضوح عن الطابع الاجتماعي الايجابي للحركة الإسلامية ، ويرى ، من ثم ، المضمون الحقيقي ، ولكن غير المباشر، للكفاح ضدها ووضع العراقيل الجسيمة على طريقها من قبل سادة الكعبة المتنفذين. ومما له حقاً في هذا المجال دلالة واضحة عميقة هو تسمية " الملأ" المكي أنصار " الرسول" بالأذنين والمحتقرين والأرذال، كما في قوله تعالى( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا..( ). أن نشاط " الرسول" الدعائي يمكن النظر إليه من خلال فترتين رئيسيتين، الأولى تبدأ مع دعوته السرية في عام 610 في مكة، وتمتد حتى " صلح الحديبية "عام 628. أما الفترة الثانية فأنها تبدأ مع هذا " الصلح" وتنتهي بوفاة " الرسول" عام 632. وبشكل عام يمكن القول بأن الفترة الأولى تتميز وتتحدد بكفاح " الرسول" وأنصاره " الأرذال" ضد الملأ المكي بشكل حازم وعنيف .
كذلك نجد المسلمين ( أي المحمديين) يقودون – وبطليعتهم الرسول – نزاعات ونضالات سلبية ومسلحة، في آن واحد، ضد الملأ المكي. وفي الحقيقة ، منذ هجرة " الرسول" وأصحاب المكيين إلى المدينة – يثرب – عام 622نجد ميزان القوى قد أخذ بالتغير لصالحهم، وأن لم يكن هذا التغير عميقاً بعد . إلا أنه مع تحقيق انكسار الملأ المكي التجاري- الربوي في معركة " بدر" عام 624، استطاعت الحركة الإسلامية أن تشق طريقاً واسعاً إلى قلوب "الفقراء والمساكين.." . فخلال وبعد هذه المعركة اتسعت مبادرة جماهير الأرقاء والعوام الأحرار ونصف الأحرار لسحق الملأ المكي، الذي أحس بعمق المخاطر الحقيقة " العملية" للحركة الإسلامية.
لقد رأى هذا الملأ ( التجار والمرابون) في مجيء تلك الجماهير المسحوقة إلى السلطة الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية " خرقاً للقوانين الطبيعية " وإيذانا باضمحلال " العالم"
( ولكن أي عالم؟ إنه عالمهم هم ، عالم البؤس والاستثمار). لذلك فأنهم وجهوا عملهم بشكل منسق وشامل باتجاه سحق هؤلاء " الدخلاء" على التاريخ . وفي سبيل تحقيق هذا الهدف جهز أولئك " القيمون على مسيرة التاريخ " حملة جديدة بقيادة أبي سفيان ضد " الخارجين على القانون" ، ضد القائمين على الحركة الإسلامية، بقيادة " الرسول" .
كانت هذه الحملة في " أحد" عام 625. لقد أظهرت معركة " أحد" أن المستغلين التجار والمرابين كانوا لا يزالون يتمتعون بقوى اقتصادية وحربية كبيرة. فقد استطاعوا كسر "المسلمين"، وبالتالي تقوية مواقعهم السابقة وخلق فوضى واضطراب في صفوف " الثائرين".
نتيجة للمعارك اللاحقة بين المعسكرين الطبقيين الرئيسيين، الملأ التجاري- الربوي في مكة من طرف والمضطهدين المسلمين الثائرين من طرف آخر، وعلى الأخص بعد معركة " الخندق" القاسية ، نشأت أوضاع جديدة مناسبة لعقد اتفاق بين الفريقين، كان، بشكل عام، لصالح التجار والمرابين المكيين . وقد وجد هذا صيغته الحقوقية والسياسية باتفاق الحديبية.
إن من شروط هذا الاتفاق إيقاف النشاط الإسلامي الاجتماعي والسياسي والفكري المعادي للملأ المكي. وقد كان هذا تعبيراً عن تنازل سياسي واقتصادي وفكري لصالح الملأ ذاك . والذي حدث بعد هو أن كبار التجار والمرابين دخلوا الإسلام ، وفي مقدمتهم "أبو سفيان" ،
ليستطيعوا عن قرب ضمان مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية ، ومنحها القدرة على النماء والتطور- وسوف نرى ذلك فعلاً وبشكل بارز في الفترة التي تسنم فيها الأمويون، ومعاوية بن أبي سفيان في طليعتهم، الحكم-.لقد جاء في كتاب " سيرة الرسول – عن طبقات أبن سعد" حول صلح الحديبية ما يلي:
« فكتب علي عليه السلام هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحاً على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض على انه من أتى محمداً من قريش بغير أذن وليه رده عليهم ومن أتى قريشاً ممن مع محمد لم يرده عليه وأن بيننا عيبه مكفوفة... وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه وأن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه....( )». وهكذا تستبين لنا تلك الشروط:
وضع الحرب المسلمين الثائرين والقرشيين التجار والمرابين عشر سنين؛
من أتى من المسلمين من القرشيين الطامحين في الانحياز إلى صفوف الثائرين من غير أذن " وليه" ردوه إليهم ، ولكن من أتى قريشاً ممن مع المسلمين لم يردوه إليهم؛
من أحب الدخول في عقد " الرسول" وعهده دخل فيه ، ومن أحب الدخول في عقد قريش وعهدهم دخل فيه؛
أن المسلمين يرجعون إلى المدينة – وقد كانوا عند الحديبية قرب مكة.
لقد كان ذلك مرحلة جديدة في الحركة الإسلامية الناشئة ، انطلقت منها ( من المرحلة) أبواب عريضة واسعة أمام تجار ومرابي مكة للدخول منها إلى الإسلام محاولين تحويله من حركة للفقراء المعدمين والرقيق إلى حركة للأثرياء ولأعداء التقدم الاجتماعي. أن البند الثاني من الصلح يظهر، إلى جانب البند الأول، هذا الاتجاه الجديد. ولتكوين صورة أكثر وضوحاً عن هذه المسألة نسوق هنا نصاً آخر عن الكتاب السابق :« وبينما هم يكتبون الكتاب " أي كناب صلح الحديبية " إذ جاء جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت من مكة إلى رسول الله(ص) وكان قد أسلم فقيدته قريش وعذبته فلما رآه أبوه سهيل ( وهو المكلف من قريش بعقد الصلح مع الرسول) قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه ثم قال يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا قال صدقت وقال (ص) يا أبا جندل قد تم الصلح بيننا وبين القوم فاصبر حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً( )» .
وقد أثار هذا التساؤلات لدى المسلمين، وفي طليعتهم الخليفة عمر بن الخطاب، تساؤلات حول وثيقة الصلح : « حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا رسول الله الست برسول الله ؟ قال بلى، قال أو لسنا بالمسلمين ؟ قال بلى، قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال بلى، فعلام نعطي الدنية في ديننا،قال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ».
إن هذا الاتجاه القائم على تفجير الإسلام كحركة اجتماعية كبيرة لصالح " الفقراء والمساكين" أخذ ينمو ويكتسب جذوراً قوية في كفاح الذين " يكنزون الذهب والفضة " من مرابين وتجار ضد الذين لا يملكون. وقد كتب أحمد أمين في " فجر الإسلام" وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي بعض الناس يتألف قلوبهم للإسلام ، كما أعطى أبا سفيان والأقرع بن حابس، وعباس بن مرادس، وصفوان بن أمية ، ويمينية بن حصن، كل واحد منهم مائة من الإبل، حتى قال صفون: لقد أعطاني وهو أبغض الناس ألي ، فما زال يعطيني حتى كان أحب الناس ألي....( ). وأحمد أمين يعلل ذلك بضرورة " تأليف القلوب" على الإسلام ، قلوب الجميع من فقراء مسحوقين وساحقيهم الأغنياء. وقد تابع أبو بكر ، الخليفة الأول، هذا الاتجاه . إلا أن عمر بن الخطاب قاوم ذلك بعنف وحزم. وقد برزت أهمية المسألة خصوصاً بعد وخلال الفتوحات الإسلامية، حيث أصبح في حوزة الدولة العربية – الإسلامية ممتلكات جديدة ضخمة، من أراضي وخزانات سقاية ومصادر تجارية، ونح ذلك.
فبالإضافة إلى منح العطايا المنقولة لذوي السلطان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أخذت " الأرض" تمارس دوراً في هذا المجال . ففي نص لـ" الزيلعي" ، أورده أحمد أمين في كتابه ذاك، نجد أشارة إلى ذلك الواقع الجديد: « ثم في زمن أبو بكر جاء عيينة والأقرع يطلبان أرضاً، فكتب لهما بها، فجاء عمر بن الخطاب، فمزق الكتاب وقال: أن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم عليه وألا فبيننا وبينكم السيف( )» .
لقد كان للفتوحات الإسلامية لكثير من البلدان أثر كبير في توطيد ذلك الاتجاه . وبالطبع، فقد مكن له أيضاً أولئك الذين توافدوا على الإسلام ليس انطلاقاً من أرضية اجتماعية كادحة ، وإنما ، كما سبق وقلنا،لتفجير الإسلام الأصلي ، وبالتالي لتسخيره لمصالحهم الاجتماعية – الاقتصادية، التي عجزوا عن الاحتفاظ بها وتوطيدها في بقائهم خارجه ومقاومتهم له. ولا شك أن عثمان بن عفان كان قد ساهم بقوة في فتح الأبواب على مصراعيها أمام " الذي جمع ماله وعدده" وأمام " الذين يكنزون الذهب والفضة".لقد جاء في شرح « أبن أبي الحديد" لنهج البلاغة وعلى لسان المعتزلة، أن عثمان بن عفان قد " أوطأ بني أمية رقاب الناس وولاهم الولايات واقطعهم القطائع. وفتحت أرمينية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان... وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال». كما أن قصة الثائر الزاهد " أبي ذر الغفاري" في كفاحه ضد « الذين يكنزون والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله»، وعثمان بن عفان في طليعتهم ، هذه القصة معروفة في العديد من كتب التاريخ من كل الذي يرى طبيعة الحياة الاجتماعية آنذاك ، التي اتسمت بالتناقض بين مصالح الأكثرية الكادحة من سكان الدولة العربية – الإسلامية ومصالح الطبقة الجديدة- القديمة القائمة على امتصاص واستنزاف الجوانب الكفاحية التحريرية للحركة الإسلامية. لم يكن ذلك التاريخ فريداً في نوعه في التاريخ الاجتماعي ، بل يمكن تقصيه – طبعاً ضمن ظروف اجتماعية تاريخية مختلفة – في تاريخ الدين المسيحي. فهذا الدين ، بعد أن نشأ كحركة اجتماعية ودينية حاولت – على طريقها الخاصة – تحقيق طموح الفقراء والعبيد المسحوقين في الانعتاق من العبودية والبؤس ، وجد نفسه محاطاً بضغوط هائلة، مصدرها السادة المالكون، لتحويل طابعه ومجراه، بحيث يصبح أداة طيعة في أيديهم، يسحقون من خلالها وباسمها كل من يطمح للأنعتاق من سلطتهم الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
أن التطور اللاحق للإسلام في " المدينة " والفتوحات العربية- الإسلامية لمختلف البلدان ، مثل سورية والعراق عام 638 ومصر عام 641، قد عمل على تحويل العلاقات الاجتماعية الطبقية في الجزيرة العربية والبلدان المفتوحة . ففي الجزيرة هذه تلاشت المجموعات القبلية البطريركية (الأبوية) شيئاً فشيئاً من خلال تكون المجتمع العربي- الإسلامي الموحد. وقد برز المبدأ النظري- الاجتماعي لهذا المجتمع من خلال الحديث: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. أن هذا المبدأ، الذي أكد عليه عمر بن الخطاب بوضوح في جملته الرائعة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً "، قد كثف الاتجاه الديموقراطي والمساواة ( سوف نرى لاحقاًً كيف دافع بن رشد وآخرون عن هذا المبدأ وكيف طوره في أبعاده الفلسفية). بيد أن المبدأ هذا لم يأخذ في الواقع مجراه إلا في فترات وجيزة من تاريخ الدولة الناشئة، وعلى الأخص في بداياتها؛ إلى جانب كونه لم يتحقق كاملاً في أي فترة من فترات الدولة، بحيث يخضع له مجموع المواطنين من أي عرق كانوا. فلقد استثنى العرب من الاسترقاق. وفي التطور اللاحق للمجتمع الجديد تشكلت وتطورت علاقات جديدة بين الأرقاء والأسياد، وذلك لصالح هؤلاء الأخيرين بالدرجة الأولى .كما أخذ مستوى العوام الأحرار ونصف الأحرار، وضمنهم الصناع اليدويون، بالتحسن بعض الشيء ونسبياً نتيجة اتساع الحركة الاقتصادية على نطاق الدولة الجديدة الكبيرة . وفي مجرى هذه العملية أخذت " الأرض" كما رأينا، تدخل نطاق الحياة الاقتصادية المعاشية؛ فنشأت خلال ذلك علاقات أرض إقطاعية.
إن المسألة الرق وتحريره شغلت مكاناً خاصاً في الإسلام. والحقيقة، أن الإسلام، من حيث هو حركة اجتماعية، لم يطمح- حتى في الفترات الأولى من نشوءه- في أن يزيل العبودية. لقد تحقق، ولا شك تحرير كبير للعبيد )الأرقاء، ولكن غير كامل. إن القرآن والحديث لم يحرماه قطعاً. وقد لاحظ هذا الواقع كثيرون من المؤرخين العرب والمستشرقين( ) لقد بقي الغزو سبباً واسعاً للاسترقاق. ففي عهد الرسول نفسه بقي هذا جارياً ومأخوذاً به: (وأصاب (ص) منهم- أي بني المصطلق- سبياً كبيراً في قسمة المسلمين)( )
ولكن هذا التحرير بقي مع ذلك هاماً ويمثل، ضمن العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية آنذاك ، مكسباً ضخماً للتقدم الإنساني ولصالح المضطهدين. لقد طولب بمنع استرقاق المسلمين من أية أمة أو شعب كانوا، مما أدى إلى فتح باب كبير أمام العبيد ليحصلوا عبره على حريتهم وكرامتهم. وهذا، ولا شك ، من الأسباب العميقة والمباشرة التي كمنت وراء كون الناس (والعبيد على الأخص) أخذوا ((يدخلون في دين الله أفواجاً)).
بهذا الخصوص يخبرنا علي بن أبي طالب، كما جاء عند أبي داود والترمذي، أنه قد ((خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليم يقولون يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، وإنما هربوا من الرق (خط التشديد مني : ط. ت)، فقال ناس ردهم إليهم، فغضب صلى الله عليه وسلم من ذلك .. وأبى أن يردهم( ))). لم يكن هنالك تصور للمدى البعيد حول قضية تحرير الرقيق . إلا أن طبيعة الأحداث الاجتماعية والسياسية والحربية كانت آنذاك انفجارية ؛ بمعنى أن الإسلام ، كحركة اجتماعية ، اطلق عملية التحرير من عقالها ، وفتح بذلك باباً عملت الأحداث اللاحقة على إلا يوصد أبداً ، وعلى أن تتحقق انتصارات رائعة في حياة العرب والإنسانية.
لقد كان هنالك سبل عدة للحد من (( الاسترقاق )) . وإن درست هذه السبل بعمق ، فإن الباحث فيها سوف يصل إلى نتائج هامه تلقي أضواء على كيفية تغلغل الحركة الإسلامية الاجتماعية، في فترات عديدة من تطورها، في الشعوب التي أخضعت للحكم الجديد. من تلك السبل ان مثلاً منع استراقاق المسيحيين واليهود والآخرين المؤمنين بأديان قائمة على اله واحد. أما أن هذه الحركة قد فضلت ، عملياً ، العرب على الآخرين غير العرب ، فهذا لا يفقدها طابعها التحرري والثوري في التاريخ العربي . لقد كانت أعمق وأشمل حركة اجتماعية شهدتها الجزيرة العربية حتى القرن السابع وانعكست تأثيراتها في التطور اللاحق على مجمل الدولة الجديدة . أنها عملت على ادخال تحويلات هامه اجتماعية واقتصادية وفكرية في المنطقة ، وفتحت آفاقاً واسعة أمام عملية نشوء وتطور منطقة موحدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، أي أمام عملية نشوء وتطور علاقات انتاجية اجتماعية جديدة.
لقد سارت عملية الحد من الاسترقاق ، بعد نشوء الإسلام ، على قدم وساق. فالعرف الاجتماعي ، الذي خضع له الأطفال من أب حر وأم أمة (عبدة) في المجتمع الجاهلي البطريركي – القبلي – أزيل من قبل الإسلام . لقد كان على الأطفال من ذلك المنشأ الطبقي أن يبقوا – حسب ذلك العرف – أرقاء. ولقد اضعف هذا ((العرف)) في الحقيقة الوضع العائلي بشكل واضح إلى حد التمزق. ولا شك أن هذا تعبير عن حدة التناقضات الاجتماعية الطبقية في المجتمع الجاهلي القبلي . بيد أن الإسلام في الوقت الذي أزال فيه ذلك ((العرف)) ، فإنه استبقى امكانية استرقاق الأطفال من آباء أرقاء. إلى جانب هذا المصدر للاسترقاق ، بعد نشوء الإسلام ، كان الحصول على رقيق ممكناً من أسواق الرقيق (النخاسة) المنتشرة في الجزيرة العربية ، كما عن طريق شرائهم من بلدان أخرى.
هنا ينبغي أبراز الواقع التالي ، وهو أن أمكانية الحصول على رقيق عن طريق الأطفال من آباء أرقاء قد ضئلت شيئاً فشيئاً في التطور اللاحق للدولة العربية – الإسلامية، وبالضبط حي أدخل الأمويون تقليد (أخصاء). العبيد في الحياة العامة . لقد كان الهدف البعيد من هذا التقليد تخفيف التكاليف المادية التي ينفقها السيد على عبيده . ولكن ذلك أدى إلى الاقلال من أعداد الرقيق في بيوت وأسواق السادة . وهذا ما جعل هؤلاء الأخيرين يبحثون عن عبيد لهم في أسواق البلدان الأجنبية .
في اليونان العبودية كان سائداً أسلوب الافناء الجسدي للعبيد بشكل واسع، بحيث ساهم هذا بقوة في اهتزاز النظام الاجتماعي هناك. أما في الدولة الأموية وما قبل ذلك ، أي في بعض فترات حكم (الخلفاء الراشدين ) كعثمان بن عفان ، فقد كان (خصي) الرقيق الشكل الرئيسي الذي حد من أعدادهم في الدولة .
ولا شك أن هذا يلقي ضوءً على أحد خصائص الرقيق في الدولة العربية – الإسلامية الوسيطة : احتفاظهم بحق الحياة . وقد ظل الغزو أو الحرب الشكل الإساسي للاسترقاق ، أي تحويل ((الأحرار)) إلى (( رقيق )) . ولكن حتى أسرى الحرب الأحرار لم يكن دائماً من الضروري أن يسترقوا؛ فقد كان ممكناً أن يشتروا حريتهم بالمال أو بأشياء ثمينة. عدا هذا السبيل لاستبقاء على الحرية ، كان هنالك (( العتق )) سبيلاً آخر للتحرير ، أتى به الإسلام وألح عليه .
ففي حالات معينة كان على المسلم أن (( يعتق )) رقبة – عبداً - كـ(تكفير) عن خطيئة قام بها . لقد جاء ، بخصوص هذا ، في الحديث : (( من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل أرب منه أرباً منه في النار )) ؛ كما جاء في القرآن : (( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله( ) )) . وهنالك خطوة جدية أكد عليها الإسلام في بداياته ، وخصوصاً في عهد (( الرسول)) والخليفة عمر بن الخطاب ، وهي تخصيص مبلغ من المال من أموال ( بيت المال ) لتحرير الرقيق . أن هذه الخطوة قد تمت انسجاماً مع الخلفية التاريخية الاجتماعية للإسلام . فهو نشأ ، اجتماعياً ، كتعبير عن طموح الفئات المسحوقة في التحرر تحرراً تتحدد آفاقه وأبعاده ضمن أمكانات العصر آنذاك .
وهنالك نقطة مؤثرة ينبغي التعرض لها في هذه المسألة : أن طموح الفئات المسحوقة في التحرر من قيود الاملاق والعبودية كان من مميزات العصر ذاك . إلا أن هذا الطموح اصطدم بالأطر التاريخية العيانية ، التي لم تكن تحمل بعد في أحشائها أمكانية تحقيق ذلك الطموح . وفي الحقيقة ، نحن نجد أعمق تعبير عن هذا الطموح المشروع والعميق في تلك الحقبة التاريخية في كلمة عمر بن الخطاب المدينة لمالكي الرقيق والمرابين والتجار الأثرياء بشكل فاحش : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ).
أن مبدأ الحرية والمساواة ( الطبيعية ) بين الناس قد نادى به الإسلام ، وخصوصاً حتى العهد الخطابي ، ومن ثم من قبل الفلاسفة الآخذين بالمنحى المادي الإنساني ، مثل الفارابي وأبن رشد ، كما نادت به لاحقاً الثورة الفرنسية البوازية الكبرى 1789 . ولكن بينما تم ذلك في الإسلام في وقت كان يتأهب فيه المجتمع العربي – الإسلامي لتوطيد العلاقات الاجتماعية الاقطاعية ولغرس البذور التمهيدية الأولى للعلاقات الصناعية البورجوازية ، فإنه اكتسب أبعاده في فرنسا في القرن الثامن عشر في وقت كانت فيه العلاقات الاجتماعية الاقطاعية قد استنفدت مجموع امكانيات وجودها التاريخي ، واصبحت المسألة بالتالي تطرح نفسها بالحاح من خلال ثورة بورجوازية متميزة واضحة . ولذلك فإن المبدأ الخطابي في الحرية والمساواة لم يتحقق إلا بقد ما أتاحته امكانيات التطور والتقدم في إطار اقطاعي تجاري متضمن ملامح أو بذوراً أولية مبكرة لمجتمع بورجوازي صناعي. هذا لا يعني أن المبدأ ذاك كان سابقاً لأوانه ؛ ذلك لأن المساواة والحرية هما نتاج مجموع حقب التطور البشري . والعبودية ، وإن لم تزل من حياة المجتمع العربي – الإسلامي إلا بحدود ، فإنه كوفحت باشكال مختلفة وبدرجات متمايزة في حدتها . ولا شك أن المبدأ الخطابي ظل ، من حيث هو مطمح وحلم انساني عميق ، يمارس تاثيره ويعبئ جماهير المعدمين والعبيد سياسياً واخلاقياً.
أم المبدأ الفرنسي الثلاثي (حرية ، أخوة ، مساواة ) فقد أكتسب مضامينة الواقعية الممكنة ضمن الأطر الجديدة التي تحركت فيها الثورة البورجوازية . لا شك أن ( عبودية ) رأسمالية قد حلت محل عبودية اقطاعية فنية ؛ ولكن هذه نفسه يعتبر خطوة إلى أمام .
أن الأمر هذا بالغ الدلالة بالنسبة على التطورات اللاحقة في الدولة العربية – الإسلامية . فالحركات والانتفاضات ، التي وقفت وراءها جماهير العبيد والفلاحين والمعدمين – وخصوصاً تلك التي انضوت تحت اسم القرامطة والزنج – كانت تعبيراً عملياً عن مبدأ المساواة والحرية الخطابي ذاك . لقد فشلت تلك الانتفاضات والحركات نتيجة فشل التطور البورجوازي الصناعي واستيعابه لمطامحها ونتيجة اصطدامها بالقوة الاقطاعية ، التي رفضت – وهي التي رافقها الوجود الرقيقي – أن تعترف بحق المساواة حتى شكلياً . أن الأمويين قد رفضوا ، مثلاً ، المبدأ المحمدي الثوري الذي نادى بتحرير العبد حال دخوله الإسلام واعفاء المعدمين من الفلاحين من الضرائب المرهقة حال تبنيهم الإسلام ديناً لهم .
ولكن بالرغم من هذا فإن العبد في المجتمع العربي – الإسلامي أعتبر وعومل بالخط العام كانسان ، وليس كشيء( ) . بل أن هذا الواقع التاريخي للعبد يشكل سمة هامة من سمات ذلك المجتمع ؛ وأخذ هذه السمة بعين الاعتبار ضروري من أجل تفهم المجتمع العربي – الإسلامي تفهماً علمياً دقيقاً .
مع موجة الغزوات الإسلامية – العربية لبلاد فارس وبيزنطة ومصر بعد موت (الرسول) اتسع الاقتصاد النقدي واكتسب مواقع قوية في الدولة الجديدة الفتية . وعبر ذلك انطلقت حركة عاصفة للتبادل البضائعي . أما المكتسبات التكتيكية – العلمية والاقتصادية ، التي حققتها شعوب تلك البلدان في تاريخها المديد ، فقد تعهدت وطورت بشكل بارز من قبل الفاتحين ، وخصوصاً في مجال أنظمة السقاية . كما نشأت مدن جديدة ، مثل البصرة والكوفة .
في تيار هذه العملية انطلق اتجاه كبير وعميق للتمازج والتمثيل بين العرب وشعوب البلدان المختلفة ، وذلك في جميع المستويات التحتية والفوقية . أما العوامل التي كمنت من وراء ذلك ، فكانت كثيرة . ضمن هذه العوامل التمازج السكاني ؛ الذ تم – طبعاً عن طريق تاثيرات أخرى – من خلال اقتناء النساء الأجنبيات العديدات والتزوج بهن من قبل العرب ، بحيث تحولن إلى ( سراري ) لهؤلاء . ولقد لقي التسري تشجيعاً كبيراً في المجتمع الجديد ، المنفتح ، حتى أن (الرسول) قال في حديث له : (عليكم بالسراري فأنهن مباركات الأرحام)( ). كما قال عمر : ( ليس أكيس من أولاد السراري لأنهم يجمعون فصاحة العرب وعزها ، ودهاء العجم ( )).
لقد لمس المرء تاثير دور العبيد (الرقيق) في مجموع قطاعات المجتمع الجديد ، في جهاز الدولة في العلم والفن والأدب ، وفي الحياة العائلية ، وبشكل خاص في قطاع الانتاج المادي القاسي ، مثل بناء الخزانات المائية التابعة للدولة .
وعلى العموم يمكن القول بأن العبيد هناك برزوا كعمال مأجورين مياومين . غلا أنهم لم يعاملوا على التساوي . فقد ظهر نوع من التمييز (العنصري) في هذا المجال . ذلك أن (السود) ضمن العبيد ، الذي جلبوا من أفريقيا ، استخدموا بأجور قليلة ، عدا أنه لم يطمح فيهم – بشكل عام – إلا من أجل انجاز المهام القاسية التي تتطلب جهداً جسدياً خاصاً. بالعكس من ذلك ، احتل العبيد (البيض) ، وخصوصاً الاناث منهم ، مكاناً جيداً في الحياة العامة ، مع أن مبدأ ( الخصي ) للعبيد قد انتشر بشكل واسع ، وبشكل خاص في الحقبة العباسية . وقد مس هذا المبدأ جميع العبيد الذكور ، من أي عنصر كانوا . وقد اكتسبت هذا النمط من العلاقات الرقيقية أبعاده من خلال تطور وتوسع تجارة العبيد في الداخل ومع البلدان الأخرى ، وذلك قبل وبعد موجة الفتوحات الرئيسية ، أي حتى منتصف القرن السابع تقريباً.
والآن ، قد يبدو ، بعدما تقدم من معالجة لدور ( الرقيق ) في الفترات الأولى من نمو المجتمع العربي – الإسلامي ، أن المجتمع هذا كان – بشكل أساسي – مجتمع عبيد ، أي أنه قام – بشكل أساسي – على علاقات اجتماعية تتحدد من خلال وجود العبيد وسادتهم .
أننا في الوقت الذي نؤكد فيه على أن العبيد قد مارسوا في المجتمع ذاك دوراً هاماً ، فإن هذا لا يتضمن الاستنتاج التالي ، وهو أن أولئلك (أي العبيد) قد طبعوا المجتمع المغني ، من حيث هو كل ، بطابعهم الخاص . فلا في المجتمع القبلي (الجاهلي) ولا في المجتمع الجديد الكبير بعد الإسلام استطاعت العبودية أن تسم العلاقات الانتاجية الاجتماعية بشكل رئيسي يميعها .
ففي المجتمع الأولى – القبلي الجاهلي – سادت ، بشكل أساسي ، العلاقات البطريركية ، حيث مارس فيها سيد القبيلة أو جدها السلطة على مجموع افرادها . ضمن هذه العلاقات الاجتماعية لم تلعب الملكية الخاص للأرض دوراً ملحوظاً . فالأرض كلها كاتنت من أجل الجميع . بالطبع ، كان هذا يرجع إلى طبيعة الأرض المناخية الجيولوجية . ولا شك أنه كانت هناك حالات أخرى مارست فيها ملكية الارض دوراً معيناً في تكوين العلاقات الاجتماعية الانتاجية . وهذا وجد خصوصاً في المناطق القابلة للزراعة والمتضمنة بئر ماء مثلاً.
أن سيد القبيلة – أو جدها – كان يتمتع بامتيازات خاصة ، مثل توزيع الغنائم نتيجة حرب أو غزو ، عبيداً كانوا أو جمالاً أو خرافاً الخ.. ولكن تملك الأرض لم يأخذ طابعاً فردياً ، وأنما جماعياً . ونحن نرى بأنه من المفضل أصلاً ألا نتحدث عن وجود تملك للارض في المجتمع القبلي قبل الإسلام . فالأرض نفسها لم تطرح بعد كوسيلة أساسية من وسائل الإنتاج.
في ذلك المجتمع ظلت العبودية سائدة ، ولكن ليس كظاهرة (حاسمة) وأنما (مرافقة) ؛ وهذا بالرغم من أنها قد تطورت آنذاك بحجوم ملحوظة .
لقد انحلت العلاقات الاجتماعية البطريركية في المجتمع الجاهلي شيئاً فشيئاً من خلال علاقات جديدة أقطاعية متنامية بشكل متصاعد وبورجوازية مدينية أولية . وقد أخذت ملامح التحويل الاقطاعي تخط أبعادها حتى منذ المراحل الأولى من نشوء الإسلام . فقد كان أسرى الحرب ، الذين يهدون في المدينة إلى المحاربين المنتصرين ، ينشغلون في الزراعة البدائية كعمال مياومين . والأرض ، التي كانوا يعملون عليها ، لم تخصهم بطبيعة الحال ، بل بقيت ملكية خاصة بأسيادهم.
(هكذا نجد أن العبيد (الرقيق) قد اكتسبوا في مواقعهم الانتاجية حرية التحرك . فقد شكلوا جزءاً هاماً من الحياة الانتاجية الاجتماعية العامة . لم يكونوا فقط أداة البناء الحضاري ، كما كان الأمر بالنسبة على عبيد اليونان وروما القديمتين ، بل أنهم كانوا أيضاً ذوات مبدعة محترم حقها في الحياة ومنظور إليها – بشكل عام – بنوع من الود والإنسانية .
أن الكثيرين من باحثي تاريخنا ، عرباً كانوا أو أجانب ، يستبعدون دور العبيد في عملية بناء المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط . وهم أن تحدثوا عن ذلك ، فإنهم يصرونه على كونهم (أي العبيد ) لم يمثلوا أكثر من (خدم) منزليين أو ندماء لسادتهم . أن البحث فيهم ، من حيث هم ظاهرة اجتماعية انتاجية ، لا يتصدون له ، معتبرينه مغالاة في تحديد المشكلة أو انزلاقاً (ميكانيكياً) في البحث الاجتماعية .
والآن نحاول بحث وتقصي الملامح الأساسية العامة لمسألة الأرض وملكيتها في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط ، ذلك لأن هذا يساهم في ألقاء أضواء ساطعة على الإطار الاجتماعي الانتاجي الرئيسي لذلك المجتمع ، ويساعد – ولو بشكل غير مباشر – على رؤية الأبعاد الاجتماعية الحضارية التي تبلور في رحمها الفكر العربي – الإسلامي آنذاك .
لقد المحنا سابقاً أن مسألة الأرض وملكيتها أخذت ، مع نشوء الإسلام والقيام بالفتوحات لبلدان أجنبية ، تبرز وتحتل مكاناص هاماً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية العامة للمجتمع الجديد . ولقد ناوا الخليفة الكبير عمر بن الخطاب عملية اقطاع الأراضي للمحاربين والقواد العسكريين( ). ولكن في الفترات اللاحقة للمجتمع ذاك ، وبالعلاقة مع التأثيرات المتنامية لحركة الفتوحات ، تكون وتطور نظام جديد للأراضي في المناطق المختلفة للامبراطورية الجديدة . لقد تضمن هذا (النظام) الاشكال الرئيسية التالية :
أولاً – أرض الجزيرة العربية .
ثانياً – الأرض التي دخل أصحابها الإسلام ودفعوا ، انطلاقاً من ذلك ، ضريبة الزكاة فقط .
ثالثاً – الأرض التي احتفظ مالكوها بدينهم القديم وخضعوا للسلطة المركزية الجديدة ، ولكن دفعوا لها ضريبة الجزية والحراج .
رابعاً – الأرض التي فتحت وأخضع أصحابها بالقوة ، ودفعوا ضريبة الجزية والخراج – وقد كان وارداً أن يسترق هؤلاء بعد اخضاعهم .
خامساً – الأرض الموات أو التي ليس لها أصحاب .
أن الشكل الأول من الأراضي لم يكن ، بشكل عام ، ملكية خاصة . فلقد ملك الأرض هنا ، بشكل غير مباشر ، الخليفة ، الذي برز على أنه الممثل الروحي والدنيوي لمجموع السكان . أن هذه الارض (أرض الجزيرة العربية) وضعت تحت مراقبة مباشرة من الدولة وتعهدت من قبلها من حيث السقاية والزراعة . وفي سبيل ذلك استخدمت الدولة القوى العاملة الضرورية ، من عبيد وفلاحين ومهندسين . ولقد عومل الفلاحون والعبيد هنا كعمال مأجورين. أما محاصيل الأرض فكانت تلحق بيت المال . ومن هنا تنفق على المشاريع العديدة التي تقوم بها الدولة .
بيد أنه مع تسنم الأمويين السلطة عام 611 والعباسيين عام 750 ، أخذ اتجاه جديد في هذا المجال يفرض نفسه ، اتجاه قام على توزيع أراضي الجزيرة العربية نفسها ، بحيث لم تعد تعتبر هذه الأراضي ملكية تابعة للدولة فقط . وقد أخذ هذه الاتجاه يقوى ويحقق وتائر عالية في تطوره بشكر مواز لعملية أضعاف السلطة المركزية ، وخصوصاً في الدولة العباسي . أما توزيع الأرضي تلك فلم يتم لصالح الفلاحين والمعدمين ، وانما لصالح كبار موظفي الدولة وقوادها العسكريين. وذلك حسب مبدأ ( الاقطاع ).
والأمر يختلف بالنسبة إلى الشكل الثاني من (الأرض) . فأصحاب الأرض هنا تحولوا إلى مسلمين ، ومقابل هذا احتفظوا بها . وبطبيعة الحال ، فقد كان عليهم ، كما هو الأمر بالنسبة إلى العرب المسلمين ، أن يدفعوا (الزكاة) ، التي هي واحد من المبادئ الأساسية للأخذ بالإسلام . وقد جبيت من قبل موظفين رسميين ؛ إلا أنها لم تكتسب طابعاً قسرياً . أما كميتها فكانت في الأحوال العامة ، حسب (لانداو) في كتابه حول الإسلام والعرب( ) 2.5% من دخل المسلم ، الذي (أي الدخل) يتجاوز حداً معيناً .
هنا نجد أنه من الضروري الإشارة إلى أن مجموعات كبيرة من الفلاحين المعدمين قد دخلوا الإسلام بسبب أنهم ، طبقاً للشكل الثاني من تملك الأرض ، حرروا من دفع الضرائب على دخولهم اليسيرة . لقد وجدوا في الحركة الإسلامية تحررهم الاقتصادي والاجتماعي . فإلى جانب اعفائهم من الضرائب ، نظر إليهم كمسلمين متساوين مع غيرهم ( كأسنان المشط). لقد كان عمر بن الخطاب هو الذي أدخل مبدأ التحرير هذا كركيزة أساسية للسياسة العربية – الإسلامية العملية تجاه المضطهدين الفلاحين . ونحن سنشهد في التطور اللاحق خرقاً كبيراً لهذا المبدأ من قبل أكثرية الحكومات المتتالية .
أن ذلك المبدأ الخطابي ، الذي ساهم بشكل بارز في نشر مبادئ الحركة الإسلامية في أوساط واسعة من سكان البلدان المفتوحة ، وبالتالي في توسيع قاعدة التحرر الإنساني ، أثر (سلبياً) على موارد (بيت المال) ، الذي تحول إلى الخزانة الخاصة بالحكام وبطبقتهم الاجتماعية . وهذا ما دعى الأمويين – باستثناء الخليفة عمر بن عبد العزيز – إلى الغاء المبدأ ذاك ، بحيث توجب حتى على الذين يدخلون الإسلام دفع ضريبتي الخراج والجزية . إلا أنهم احتفظوا بحق تملكهم للأراضي الخاصة بهم .
وكنتيجة لذلك لم يعد من فرق بين الذين دخلوا الإسلام مجدداً والذين احتفظوا بدينهم الأصلي ، وذلك من حيث موقف الطبقة الاجتماعية السائدة من هؤلاء ومن أولئك . من هذا نخلص إلى نقطتين هامتين جداً :
الأولى : هي أنه قد تصبت جسور عريضة ومتينة بين الناس الذين لا يشاركون في السلطة الاقتصادية والسياسية ، أدت في المستقبل إلى تكوين جبهة ، أكثر الأحيان ، قوية مضادة للطبقة الحاكمة .
أما النقطة الثانية – وهي مكملة للأولى – فقد تركزت في انخفاض إعداد الطامحين من البؤساء والمضطهدين في الدخول في الإسلام . وبالنتيجة تكون شيئاً فشيئاً عداء ضد السلطة المركزية السائرة في طريق تعميق آفاق التطور الأقطاعي على مستوى الدولة.
هكذا أخذ الشكل الثالث من ملكية الارض يحتل أكثر فأكثر مكاناً هاماً . لقد ظل السكان الأصليون ، مالكو الأرض محتفظين ، تبعاً لذلك ، بدينهم وعقدوا معاهدات صلح مع الفاتحين ، في حين ظلت ملكية أراضيهم في حوذتهم . غلا أنه توجب عليهم دفع ضريبتي الخراج والجزيرة ، كما فعل مثلاً أهل نجران المسيحيون في الجزيرة العربية نفسها .
أما ما يخص الشكل الرابع من ملكية الأرض ، أي التي تبعت سكان بلد غير مسلم أخضع من قبل الفاتحين بالقوة ، فقد برزت حالتان رئيسيتان .
في الحالة الأولى نظرة إلى الأرض من ذلك النوع على أنها غنيمة حرب ، بحيث وزع أربعة أخماس منها على الفاتحين وأدخل الخمس الأخير ضمن عائدات بيت المال ، لقد أعطى (الرسول) مثالاً عملياً على هذه الحالة حين اخضعت المنطقة اليهودية (خيبر) لسلطة العرب – المسلمين .
أما في الحالة الثانية فقد حولت الأرض المفتوحة إلى ملكية عامة للدولة والمجتمع ، وذلك تحت مراقبة الحكومة المركزية . وقد ظل الملاك السابقون لهذه الأرض عليها ، ولكن بصفة عمال مستأجرين ، أو أنهم عقدوا اتفاقية مع ممثلي الحكومة المركزية يمكنهم حسبها البقاء على الأرض لقاء واجبات معينة يقدمونها للدولة . ونحن نستطيع أن نرى في الإجراءات التي قام بها الخليفة عمر بن الخطاب في سوريا مثلاً مثالاً نموذجياً على ما أوردناه.
أما بالنسبة إلى سماح السلطة المركزية بتملك بعض المناطق المفتوحة من قبل سكانها الأصليين ، فإن هذا يختلف من منطقة على أخرى ، وذلك حسب الواجبات التي ينجزها سكان هذه المناطق للسلطة المركزية .
وحسب المعطيات التاريخية العملية ، يمكن القول بأنه في الأشكال الثلاثة الأخيرة من تملك الأرض كان سكان المناطق المفتوحة معرضين لامكانية تحويلهم على رقيق .
وأخيراً نخلص إلى الشكل الأخير من تملك الارض ، الذي ساد في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط ، وهو الأرض الموات أو التي لا ملاك لها . أن الأرض من هذا النوع كانت أما صعبة الزراعة ، أو أن أصحابها ميتون. فبالنسبة إلى الأرض الموات ، أي الصعبة الزراعة ، فقد وضع المبدأ المحمدي: ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له ) . أما حين لم يكن مالك للأرض ، أو أن هذا قد قتل في حرب ما ، فقد أعطيت للمسلمين مع التقيد بالمبدأ التالي الذي روعي قليلاً أو كثيراً ، وهو أن المالك الجديد للأرض إذا لم يزرعها ويحييها ، بشكل عام، خلال ثلاث سنوات ، فإنها تنتزع منه وتعطى لآخر( ).
لقد أثارت قضية (الأرض) في الحركة الإسلامية كثيراً من المناقشات والدراسات. وقد تصدى لها فريقان رئيسيان : الأولى يحاول انتزاع اليقين من بعض الآيات القرآنية بأن الأرض ، حسب تلك الحركة ، لا تشكل ملكية خاصة ، بل عامة . أما الفريق الثاني فيحاول العكس ، أي أثبات أن الإسلام في مبادئة الاجتماعية – الاقتصادية ، قال بالملكية الخاصة للأرض.
ونحن نرى هنا ، على ضوء التفصيلات التي أتينا عليها فوق ، أن الحركة الإسلامية ، وخصوصاً في خطواتها المتأخرة ، قالت بالملكية الخاصة للارض ، وليس فقط بحق الاستمتاع بها ، وأن لم يأخذ بهذا الموقف جميع الخلفاء والشخصيات المرموقة آنذاك ، كعمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري .
والآن ، حين نحاول الوصول إلى بعض النتائج الأساسية المترتبة على علاقات التملك بالنسبة إلى الأرض ، وبالتالي بالنسبة إلى (الرقيق) من حيث هو موضوع تملك ، فإننا نواجه النقاط التالية :
أولاً – إن التطور الاجتماعي الطبقي للمجتمع العربي – الغسلامي حدد أكثر فأكثر
من خلال أسلوب الانتاج الاقطاعي ، وذلك بالغرم من وجود آفاق تطور رأسمالي صناعي مبتكر.
ثانياً – أن العبودية ، التي سادت في عصر الجاهلية البطريركي ، لم تزل لاحقاً بشكل جذري وشامل ، وإنما حد منها بأشكال واساليب مختلفة ومتعددة . والعبودية في إطار الدولة العربية – الإسلامية اكتسبت اشكالاً جديدة (فهناك العبودية المنزلية ، والعبودية القائمة على العمل المأجور في الزراعة وفي حقول السقاية ) . ولكنها لم تبلغ مبلغ التشكيلة المجتمعية الاقتصادية في الإطار ذاك ، أي أنها لم تتحول إلى (المؤشر) الاجتماعي الجوهري والحاسم . أما الذي استطاع تحقيق ذلك ، فقد كانت الاقطاعية . هذا يعني أن العبودية وجدت هنا ، في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط ، كما كان الحال في المجتمع الجاهلي البطريركي ، كظاهرة اجتماعية طبقية مرافقة .
ثالثاً – لم يستطع التطور الاجتماعي – الاقتصادي في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط إلا أن يمارس تاثيراً غير متساو في مناطق المجتمع المختلفة .
أن عدم الوحدة الاجتماعية – الاقتصادية في تلك المناطق ما هو إلا نسبي ، ذلك لأن المناطق المختلفة هذه ساد فيها اتجاه مشترك قام على تواجد وتطور علاقات اجتماعية اقطاعية ورقيقة ورأسمالية مبكرة .
رابعاً – أن هذا الاتجاه المشترك في التطور قد تكون وتطور وتصاعد بالتآخي مع الحركة التجارية الواسعة آنذاك بين مختلف مناطق الامبراطورية من جهة ، كما بين الامبراطورية ودول أخرى من جهة ثانية؛ كذلك بالتآخي مع نشوء وتطور سلطة مركزية قوية كثيراً أو قليلاً في الحقول الاقتصادية والسياسية والعسكرية في المدينة ، ثم في دمشق وفي بغداد وقرطبة . هذا على الرغم من أن تلك السلطة كانت تدخل شيئاً فشيئاً في حالة التمزق.
والملاحظ أنه نشأ وتطور تبادل بضائعي نشيط ومتعدد الجوانب بالعلاقة مع توسع الحركة التجارية في المنطقة . كما ارتبطت بذلك عملية ازدهار الاقتصاد النقدي.
وفي الحقيقة ، هذا الاقتصاد النقدي الناشئ كون البذور الأولى للميل البورجوازي الصناعي الديموقراطي المبكر في المجتمع ذاك ، هذا الميل الذي وقف يعارض الأقطاع بأشكال مختلفة ، ومن ضمنها الشكل الاجتماعي والآخر الفكري الايديولوجي . ولكنه (ذلك الميل) بقي (ميلاً) ، ولم يكتسب طابع التشكيلة المجتمعية الحاسمة في الدولة تلك .لقد تمت تحت ظل السلطة الأموية خطوات هامة لتدعيم الاقتصاد النقدي ولخلق دولة موحدة نسبياً سياسياً واقتصادياً وثقافياً . في طليعة تلك الخطوات كان صك نقود جديدة على نطاق الدولة كلها ، وتحويل اللغة العربية إلى اللغة الرسمية الأساسية . وقد تحقق ذلك في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان (684-705) . ومع نهوض الاقتصادي النقدي ، وبالتالي نهوض التبادل البضائعي اكتسبت المدينة في الدولة العربية – الاسلامية أهمية متصاعدة من حيث هي مركز اقتصادي وثقافي مكثف . بيد أن المدينة استطاعت أن تتطور وتتوسع عمودياً وأفقياً من خلال الارتباط مع مقتضيات ومتطلبات الدفاع العسكري ضد أعداء الدولة الداخليين والخارجيين . ولنذكر هنا من تلك المدن ، على سبيل المثال ، دمشق وحمص والبصرة والكوفة . وقد أسست المدينتان الأخيرتان أصلاً كمدينتين عسكريتين في العراق ، بينما الاخريتان برزتا قبل الفتح العربي – الإسلامي كمركزين عسكريين بيزنطيين ، وظلتا محتفظتين بصفتهما هذه ، أي كونهما مركزين عسكريين ، بعد الفتح خلال عهد الخليفة عمر بن الخطاب .
أن المدينة أصبحت شيئاً فشيئاً الحامل الرئيسي للحضارة الجديدة الضخمة والمتعددة الآفاق . ومن الضروري الإشارة إلى أن ملاك الأرض الكبار ، الذين أخذوا تحت ظل السلطة الأموية يمارسون – إلى جانب قوى اجتماعية أخرى – تاثيراً حاسماً في الحياة الاجتماعية العامة ، ساهموا بشكل قوي في تطور المدينة . كذلك الملاك المتوسطون ساهموا في العملية تلك . والجدير بالذكر أن أماكن الإقامة لملاك الأرض الكبار والمتوسطين كانت المدينة ، وليس الريف ، . كما أن قسماً منهم عمل ، في نفس الوقت ، كتاجر وكمالك لمراكز صناعات حرفية . وعلى هذا الطريق ساهموا بشكل مباشر في تطوير الحياة الاقتصادية للمدينة .
من طرق آخر أتيحت للفلاحين الريفيين ، عبر التطور السريع للاقتصاد البضائعي السوقي، إمكانيات جديدة متنامية لتسويق وتوزيع منتجاتهم في المدينة . أن الفلاحين استطاعوا أن يبيعوا محصولاتهم في المدينة وأن يغطوا، من ناحية أخرى ، حاجاتهم من البضائع الاستهلاكية المعروضة فيها (في المدينة ) .
لقد قام السوق المديني ، ضمن ما قام عليه ، على المنتجات الريفية الزراعية التابعة للمشاريع الخاصة ولمشاريع الدولة . والمدقق بالأمر يلاحظ أن هذا اللقاء بين المدينة والريف كان واحداً من الأسباب الأكثر أهمية للنهوض الحضاري الشامل في المجتمع العربي – الإسلامي ، وخصوصاً في المرحلة العباسية منه . ولكن عن ذلك نشأ وتطور واقع له أهميته الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية ، وهو الارتباط التاريخي بين الاتجاه الاجتماعي البورجوازي الأولي المبكر من طرف ، الذي حمل في أحشاء الاقتصادي النقدي ، وبين مصالح الأمراء والموظفين الكبار والوقاد العسكريين والسادة الإقطاعيين من طرف آخر .
وانسياقاً مع هذا الواقع التاريخي المثير نجد الصناع اليدويين المدينيين والتجار وأصحاب المصانع الأولية (أصحاب المانيفاكتورات) يتبعون في أنتاجهم الماطمح والحاجيات المختلفة للبلاط الخليفي وللعسكريين الآخذين بحياة الرفاة المدينية ولقصور الأمراء الكثر وموظفيهم وذوي الأعداء المتعاظمة . وهذا يلقي لنا ضوءاً على الحقيقة التاريخية التالية ، وهي أن الإرهاصات (أو الاتجاهات ) البورجوازية التي تواجدت آنذاك قد سقطت مع سقوط السلطة الإقطاعية العسكرية . وبالطبع ، نحن لا نرى في ذلك التواطؤ التاريخي بين الإرهاصات هذه والعلاقات الاجتماعية الإقطاعية المتينة العامل الوحيد في تلاشي آفاق تطور بورجوازية صناعية متميزة إلى حد كاف في المنطقة العربية – الإسلامية آنذاك ، وأن كنا نعتبره عاملاً جوهرياً في ذلك .
أن (النقد) ، من حيث هو معادل عام ، فرض نفسه في الحياة الاقتصادية العامة شيئاً فشيئاً. ولم يتم التبادل فقط على أساس الصيغة : بضاعة – نقد ، وإنما أيضاً حسب الصيغة : بضاعة – بضاعة . وقد دفع الفلاحون ضرائبهم المتوجبة عليهم تلقاء الدولة طوال الفترة الأموية وبدايات الفترة العباسية على شكل محصولات زراعية ينتجونها هم . بيد أن هذا الوضع تغير في القرن التاسع ، حيث (أن الضريبة المتوجبة للسلطة المركزية لقيت تحولاً واسعاً من المحصولات الزراعية على النقد)( ).
لقد اكتسبت (التبادل البضائعي ) حجوماً كبيرة بين الفلاحين في المدينة وفي الريف . وفي الحقيقة ، كان من نتائج ازدهار الاقتصاد النقدي السوقي ليس فقط التبادل الاقتصادي الواسع بين الريف والمدينة في الدولة العربية – الإسلامية ، وإنما أيضاً ( تبادلاً ) سياسياً مرموقاً . والانتفاضات الفلاحية العديدة ، التي اشتعلت طوال وجود هذه الدولة ، غذيت عن طريق تلك العلاقات الشاملة بين الريف والمدينة ، إلى جانب عوامل أخرى ساهمت في ذلك . لقد أخذ الإقطاعي يحتل شيئاً فشيئاً في الحقبة الأموية والحقبة العباسية – بشكل خاص – أهمية متعاظمة. فالضباط الكبار والقادة العسكريون كانوا ، في نفس الوقت ، مُلّاك أراضي وعقارات . ولكن ضمن هؤلاء الملاك في الحقبة الأموية نشأ وتبلور أكثر فأكثر تمايز في الوضع الاجتماعي ، بحيث يمكن الحديث عن فئة النبلاء العسكريين ذوي الامتيازات من طرف ، وفئة الملاك الإقطاعيين من طرف آخر . أما الفئة الأولى فقد تكونت من العرب ، بينما الثانية من عرب وغير عرب .
وقد حدث في أحيان كثيرة أن كافأت الحكومة المركزية ضباطاً وقواداً عسكريين من أصل عربي على انتصاراتهم بـ ( قاطاعهم ) قطع ارض خصبة كثيراً أو قليلاً ، أو ولاية من ولايات الدولة أو أحدى مناطقها . ولكن الضباط والقواد العسكريين استطاعوا الحصول على تلك ( الهبات ) و ( المكافآت ) بعد أن تعهدوا بدفع كمية محددة من النقد للحكومة المركزية وخلال فترة زمنية محددة أيضاً من قبل الفريقين ، الحكومة المركزية من طرف والقواد والمريدين من طرف آخر . وقد أستملك هؤلاء المساحات الواسعة من الأراضي الخصبة في العراق ومصر الخ .. وبالرغم من أن استملاهم في الجزيرة العربية لم يكن واسعاً ، بسبب الوضع الخاص لأراضي الجزيرة العربية (انظر ما ذكرناه سابقاً حول قضية الأرض ) ، فإنه – وخصوصاً منذ العهد الأموي – أصبح مألوفاً . حول ذلك يخبرنا الطبري في (تاريخه) . فهو يكتب لنا عن أساليب تملك واستغلال مثل هذه المساحات الكبيرة من الأرض في العهد الأموي .
أن الاضطهاد الاجتماعي والسياسي لفئات من مصدر غير عربي أزداد في عصر الأمويين بشكل طردي مع عملية تعميق وتوسيع العلاقات الإقطاعية الانفصالية في الدولة العربية – الإسلامية . ففي بعض مناطق الدولة الضخمة والمتعاظمة نشبت انتفاضات مسلحة ضد السياسة الضرائبية التي مارسها الأمويون ، مثل الانتفاضة التركية في آسيا الوسطى عام 73 هجرية . ذلك لأن الأمويين مارسوا ضغطوا سياسية واقتصادية ضد الفئات غير العربية كما تخلوا عن أهم المبادئ الاجتماعية التي دافع عنها (الرسول ) وعمر بن الخطاب ، وهو إعفاء الناس غير العرب والذين يدخلون الإسلام من جميع الضرائب ، ما عدا (الزكاة) . وقد برزت أهمية هذا (التخلي) خصوصاً في أوساط الفلاحين والأرقاء . والجدير بالملاحظة أن معاوية بن أبي سفيان (661-679) ، الخليفة الأموي البارز ، أحس بالمخاوف التي يشكلها مواطنو الدولة العربية – الإسلامية غير العرب ضد هذه الدولة . وحول هذا يخبرنا ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) : ( أن معاوية قال : أني رأيت هذه الحمراء (يقصد الفئات غير العربية في الدولة) قد كثرت .. وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطراً ، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق)( ).
أن السلطة الأموية مثلت في حينها بنية ارستقراطية قبلية وعسكرية . في أطار هذه السلطة تلاشى الاتجاه الديمقراطي ، الذي طره الإسلام ، وحلت محله سلطة سلالة ذات امتيازات اقتصادية وسياسية وعسكرية . وقد تركز اتجاه الأمويين العام تلقاء المواطنين غير العرب والخليطين ، سواء كانوا عبيداً أو موالي أو أحراراً من الفرحين وغيرهم ، على الاحتفاظ لأنفسهم بالمواقع الرئيسية في جهاز الدولة والجيش ، بينما تركوا للآخرين شؤون الزراعة والصناعات الحرفية والعلم والفن . وقد برز الصائع اليدوي والعبد العامل في حقل الصناعة اليدوية كـ (فنانين).
في ذلك الواقع لم يعبر فقط عن وجه آخر من وجوه قطاع الحرف اليدوية وقطاع العبيد في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط تجاه العمل الجدي المرهق والمهين حتى العظم الذي قام به عبيد وحرفيو أثينا وروما قديماً ، وإنما نجد فيه (في الواقع ذاك) واحداً من المبررات الجوهرية التي دعت إلى تضامن تلك الفئات (العبيد والحرفيين الفقراء والفلاحين المعدمين) وكفاحها ضد الارستقراطية الإقطاعية . وقد انضم إلى تلك الفصائل العوام والفقراء ضمن العرب.
أن الاتجاه الأموي الذي قام على الاضطهاد القومي والاجتماعي للشعوب المنضوية تحت لواء الدولة وللفقراء والمعدمين ضمن العرب ، خلق أساساً واسعاً لانتفاضة أولئك ومقاومتهم للسلطة المركزية . والملاحظ أن نتائج تلك الانتفاضة والمقاومة قد استغلت أكثر الأحيان من قبل الإقطاعيين ضمن تلك الشعوب . بالعلاقة مع ذلك الواقع المعقد وجدت الحركة المسماة بـ(الشعوبية) أرضاً خصبة . لقد رفعت (الشعوبية) شعاراً من قبل الفرس بشكل خاص يحاولون ، من خلاله ، التأكيد على أن الشعوب (والمقصود هنا الشعب العربي والشعب الفارسي) متساوية ، وأن ( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) . والحقيقة ، أن الطبقة الإقطاعية الفارسية هي التي غذت تلك الحركة ، هادفة من ذلك إلى وضع أنفسهم في موقع مساواة مع العرب الذين أطاحوا بهم . مع العلم أن الطبعة الارستوقراطية الإقطاعية الفارسية كانت تدعي ، قبل نشوء الإسلام واخضاعة فارس للدولة العربية – الإسلامية الجديدة ، بأنها لاشعب المختار الممتاز من سائر الشعوب . وقد وجدت هذه الطبقة الاقطاعية الفارسية المغلوبة أرضاً خصبة لدعاوتها ضد العرب بشكل عام ، متسترة في ذلك بشعار المساواة بين العربي والأعجمي ، وذلك في الاتجاه المماثل الذي نشأ من السلطة الإقطاعية الارستوقراطية العربية . فليس من النادر أن نعثر على هذا الاتجاه في نصوص لممثلين له مرموقين وغير مرموقين ضمن سادة الحقبة الأموية ، بل وما قبل وما بعد هذه الحقبة . فمعاوية بن أبي سفيان مثلاً قال : (أن الله اختاركم (المقصود هم العرب) من الناس وصفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها).
أن تلك الحركة الشعوبية بإطرافها العديدين ، استغلت لاحقاً من قبل العباسيين إلى حد بعيد ، بحيث توصلوا ، كما سنرى ، إلى السلطة بمساعدة أدعياء المساواة ، الإقطاعيين الساسانيين ، وبمساعدة المعدمين من العبيد والفلاحين الأعاجم والعرب الذي أصيبوا بهام العنصرية الأموية.
لقد تم أثناء إسقاط الأمويين من الحكم في عام 750هـ نتيجة أسباب اجتماعية واقتصادية مرافقة بعوامل قومية (شعوبية) ، كما نتيجة النزاعات العنيفة التي أثارها المتنفيذون الأمويون أنفسهم ضمن العرب ، هذه النزاعات التي أسفرت عن طابع قبلي (جاهلي) محموم – لأن أولئك توخوا من إشعال هذه النزاعات بين عرب الشمال وعرب الجنوب من الجزيرة العربية تدعيماً لمواقعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الآخذة بالتدهور. أن الظواهر الشعوبية (بمعنى القومية) ، التي ساهمت في إسقاط الحكم الأموي، اكتسبت في الحقبة العباسية الجديدة وزناً في التاثير على الأحداث آنذاك.
وخلال الفترة الطويلة التي حكم خلالها الأمويون ، وتمتد أكثر من قرن ، كان الاتجاه قائماً لتوطيد العلاقات الاجتماعية الإقطاعية ، وذلك بالتعارض مع (المركزية) في السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، هذه المركزية التي ساهم في توطيدها الأجزاء الذي قام به الخليفة عبد الملك بن مروان ، وهو مسح شامل لأراضي الدولة . إلى جانب هذا (المسح) ساهم ، كما أبرزنا مراراً ، الاقتصاد النقدي في توطيد (المركزية) المناوئة للتفتيت الإقطاعي ؛ وكذلك التجارة ذات الحجوم الضخمة والممتدة آفاقها من البحر الجنوبي حتى القوقاز ، ومن البحر الاطلانطيقي حتى الهند والصين وتركستان ، وحتى انكلترا أيضاً . والأسطول العربي الأول ، الذي أنشأه معاوية ، لم يخدم أغراضاً عسكرية فقط ، وإنما ساهم في تعميق حركة التجارة تلك .
إن هذه الأمور مجتمعة عملت على توطيد (المركزية) في الدولة العربية – الاسلامية : وبالتالي على الكفاح ضد (الاقطاع) . ولذا فيمكن اعتبارها، ضمن اطارها الاجتماعي التاريخي ، مظاهر للارهاصات البورجوازية الصناعية المبكرة ، التي سبق وتكلمنا عنها.
كان سقوط الأمويين فقد تم على يد العباسيين . إلا أن هؤلاء الأخيرين لم يستطيعوا ذلك إلا بعد أن كسبوا إلى صفهم جموع الفئات غير العربية ، والفلاحين والعبيد المستثمرين من قبل الدولة ، والعوام المدنيين الذين لا يملكون ، وأخيراً الشيعة والخوارج الثائرين على بني أمية . ولقد أظهرت الأحداث اللاحقة أن العباسيين لم ينشدوا مساعدة تلك الجموع من الفئات السياسية وغير السياسية المضطهدة إلا من أجل سحق الأمويين ليحلوا محلهم في السلطة ، وليس بغرض تحرير تلك الجموع .
وكما هو معروف ، كون (البرامكة) الفارسيون أحدى الحلقات الرئيسية الاساسية في عملية انجاح وصول العباسيين إلى السلطة ، حيث شكل هذان الفريقان نوعاً من التحالف المصلحي الطبقي. ولا شك أن كلاً من هذين الأخيرين كان ينطوي على مطامح خاصة ، أدت لاحقاً إلى خلق تعارض ، ثم صراع بين الفريقين المومى إليهما . وقد تم هذا فعلاً عام 813 ، حيث بدا البعاسيون بهجوم عنيف على البرامكة ، حلفائهم السابقين . بيد أنه علينا هنا الإشارة إلى محذور أساسي ، أوقع في شراكة مجموعة ضخمة من الباحثين العرب والأجانب ، وهو أن النزاع والصراع الدموي الذي نشب بين العباسيين والبرامكة الفارسيين لم يكن أبداً بين العرب والفارسيين عموماً ، كما توهمنا بذلك الأعداد الضخمة من كتب التاريخ ، بل أنه كان فعلاً بين طبقتين أقطاعيتين في المجتمع العربي – الاسلامي وفي فارس .
أما الفلاحون المعدمون والعبيد التابعون للدولة والعوام المدينيون ضمن الأعاجم والعرب على حد سواء ، الذين ساهموا بشكل حاسم في كسب المعركة ضد الأمويين ، فقد وجدوا أنفسهم في وضع اجتماعي – اقتصادي مماثل ، في الخط العام ، للوضع السابق عليه . فلم تمض خمس سنوات على تاسيس السلطة العباسية ، أي في عام 755 ، حتى اشتعلت الانتفاضة الفارسية المسماة بـ ( زمباس ) ضد هذه السلطة .
لقد أخذ تطور الاقتصاد والثقافة في ظل السلطة العباسية يكتسب آفاقاً جديدة واسعة خصوصاً في عهد هارون الرشيد (786-809) والمأمون (833-813) ، وذلك بالعلاقة مع تخفيض نسبي للضرائب المتوجبة على الفلاحين ، ومع أقامة أنظمة سقاية ذات حجوم ونوعيات عالية، وكذلك بالعلاقة مع استصلاح واستغلال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية .
أن الزراعة المتطورة ، والتجارة الواسعة المتفتحة على العالم ، والانتاج البضائعي ، والصناعات اليدوية ، ونظام الحرف المتطور ، ذلك كله استطاع بلوغ قمة عالية في تطوره آنذاك ، وذلك بالعلاقة مع المكتسبات العلمية والتكتيكية التي أنجزها علماء ذلك العصر وعصور الحضارات القديمة الزاخرة . وجدير بالإبراز واقع أنه مع تطور الاقتصاد النقدي أزدهر أيضاً رأسمال تجاري قوي ، مما أثر على عملية تجديد الانتاج الاقتصادي بشكل إيجابي فعال . ذلك لأن قسماً كبيراً من ذلك الرأسمال وضع في خدمة تطوير الانتاج وفي إيجاد فروع أنتاجية جديدة . لقد انتهى وقت الفتوحات عام 732 ، حيث كان الأمويون لا يزالون في السلطة . وبغض النظر عن عمليات الفتوحات القليلة ، التي قام بها العباسيون ، مثلاً في صقلية ، فقد تميزت الحقبة العباسية بازدهار مدهش في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والثقافية : في بغداد أقيم مثلاً سوق صيني بكاملة بيعت فيه أفضل الأصناف من الفرو والجلد والشمع والسلاح ؛ وفي فارس تطورت صناعة السكر ؛ وصناعة الزجاج وجدت في سوريا وفلسطين . وقد أنتج في بغداد الزجاج الملون ، وكذلك الورق عام 794-795. وفي بغداد نفسها كما في مناطق أخرى من الدولة العربية – الاسلامية تأسست فبارك الانتاج الورق . هناك نجد الورق الحريري وورق الكتابة وأنواعاً أخرى صنعت من الكتان والخرق. ويخمن بأن صناعة الورق تلك قد استنبطت من صناعة الورق في الصين. كما أنه تم انتاج أنواع مختلفة من العطور ، التي تقتضي ، لكي تستخرج ، وجود معارف كيميائية معينة. بالإضافة إلى ذلك تطورت صناعة المنسوجات والسجاجيد بشكل واسع( ). أما صياغة الذهب فقد عملت ، ضمن ما عملته ، على تغطية حاجات فنون الزينة ، التي استخدمت في قصور الخلفاء والقادة العسكريين والتجار الأثرياء ، وفي المساجد والمؤسسات العامة الخاصة بالدولة . وقد اتسع نطاق استعمال النقد المعدني (الذهب والفضة) شيئاً فشيئاً ، من حيث هو وسيلة أساسية من وسائل التبادل الاقتصادي ، بالرغم من أنه لم يسيطر على ذلك النحو في الحياة الاقتصادية للريف . في إطار هذه المسألة اكتشف البعض نقوداً عربية من تلك الفترة في روسيا وسكاندينافيا( ).
أما التطور السريع والفني للعلوم الطبيعية والتجريبية ، كعلم الميكانيك (الحيل ) والكيمياء والحيوان والنبات والفلك ، فقد ساهم بشكل ملحوظ في تكوين ذلك الازدهار الشامل . أن البنية الاجتماعية الأموية السابقة (الأحادية) الجانب و (المغلقة) أزيلت هنا من خلال بنية اجتماعية (مختلفة) طبقياً ومتعددة الجوانب ومنفتحة عالمياً. والموالي شاركوا ، ضمن إطار هذه البنية العباسية ، ليس فقط في الشؤون الاقتصادية ، وإنما أيضاً في تلك ، السياسية والعسكرية للدولة. وبتعبير أدق يمكن القول بأن المملكة العباسية ضمت في شرايينها النبلاء الاقطاعيين والتجار الكبار وأرباب البنوك ضمن مختلف الشعوب التي أنضوت تحت لوائها. أما الارهاصات ، وربما يمكننا القول ، الاندفاعات البورجوازية القوية المبكرة ، التي احتواها تطور الانتاج البضائعي والاقتصاد النقدي ، فإنها استطاعت فرض نفسها في كل مكان انبثقت فيه وتأججت شعلة الكفاح الواعي قليلاً أو كثيراً ضد عمليات الانفصال والتمزق في جسد الدولة. أي أن تلك الاندفاعات فرضت نفسها إلى حد بعيد ، حيثما نشأت وتطورت علاقات بضائعية نقدية بين السوق المحلي والسلطة المركزية في داخل الدولة ، كما بين الدولة وأسواق أجنبية ، مثل الهند وروسيا . ولا شك أن هذا كان قد اقتضى وجود رأسمال تجاري مارس إلى جانب عوامل أخرى دوراً حاسماً في الحياة الاقتصادية .
بيد أن تلك الاندفاعات البورجوازية القوية لم تكتسب طابعاً متميزاً مستقلاً وشاملاً إلى حد كاف . وقد ساهمت في تكوين هذا الوضع طبيعة عملية نشوء وتطور هذه الاندفاعات ، هذه العملية التي تميزت ، كما سبق ورأينا ، بتواطؤها التاريخي مع مصالح النخبة الاقطاعية الارستوقراطية العسكرية المسيطرة على الأجهزة العليا في الدولة وعلى الحياة الاقتصادية الزراعية بشكل خصا .
ولقد حاول النبلاء الاقطاعيون في الشعوب المختلفة للدولة دائماً أثارة الوهم بأن كفاحهم ومنافستهم مع السلطة المركزية في هذه الدولة ما هو إلا كفاح فلاحيهم وصناعهم اليدويين وعوامهم الفقراء وعبيدهم ضد السلطة هيذه، وذلك دفاعاً عن حقوقهم (أي حقوق أولئك الفلاحين الخ..) المهضومة. والنبلاء الاقطاعيون أولئك كانوا يهدفون من ذلك أكساب محاولاتهم في الانفصال والاستقال عن الدولة المركزية طابعاً مشروعاً. وكمثال على هذا نستطيع ذكر النضال الذي نشب بين النبلاء الاقطاعيين الفارسيين ، وبطليعتهم البرامكة ، من جهة والسلطة المركزية للدولة من جهة أخرى ، هذا النضال الذي أدى إلى نزع السلطة من البرامكة وتجريدهم من كثير من امتيازاتهم . ولكن في نفس الوقت نشبت انتفاضات عديدة للفلاحين والعبيد في مختلف المناطق والدويلات التابعة للدولة ضد الاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي الذي مارسه ضدهم الأمراء والقادة المحليون ، الممثلون للخلافة . لقد كان لأولئك الفلاحين والعبيد مطالب اجتماعية واقتصادية لم يستجب لها الأمراء والقواد المشار إليهم .
ولقد استدعى هذا الواقع انتشار بعض الحركات (القومية) ضمن شعوب الدولة، هذه الحركات ، التي وأن كانت أحياناً ، كما رأينا ، مشروعة في نشأتها ، فإنها استغلت حتى الحد الأقصى من أقطاعيي تلك الشعوب الين سعوا للانفصال والاستقال . وللك فإن تلك الحركات القومية كانت معرضة للتلوث بمخاطر (الشعوبية) الشوفينية . بيد أن المضمون الطبقي بقي جانباً جوهرياً من جوانب دوافع الحركات تلك . ونحن نستطيع أن نرصد في تاريخ الحقبة العباسية الانتفاضة البابكية الخرمية كواحدة من أهم وأعمق انتفاضات العصور الوسطى قام بها عبيد فلاحوان وعوام أحرار ونصف أحرار معدمون واستمرت من عام 816 حتى عام 838 في إيران وفي أزربيجان . وقد شارك في هذه الانتفاضة ايرانيون وأكراد وأتراك وعرب أيضاً( ). إلا أن المخاطر كانت قد وجدت لاستيعاب وامتصاص آفاق هذه الانتفاضة من قبل اقطاعيي تلك الشعوب وتحويلها من حركة مشروعة تهدف إلى تعميق اتجاهات التقدم التجاري والصناعي النقدي ، التي كان بإمكانها (أي الاتجاهات هذه ) استيعاب تلك الحركة وحركات مماثلة أخرى من خلال تحقيق بعض مطاليبها ، إلى حركة اقطاعية انفصالية شعوبية (بالمعنى الشوفيني).
ومن خلال الانتفاضات الثورية الكثيرة والمتتالية للفلاحين والعبيد والعوام ضد السياسة الضرائبية للسلطة المركزية الممثلة بأعوانها الأمراء المتنفذين في مناطق الدولة المختلفة (ومن الجدير بالذكر أن هذه السياسة الضرائبية لم تنفذ على نحو واحد ومتساو في تلك المناطق ؛ وسبب ذلك يعود إلى الظروف السياسية والاقتصادية المتمايزة في الاقطار المتمايزة في تطورها وإلى علاقات الأمراء المتنفذين بالسلطة المركزية) ، وكذلك من خلال نوازع الاستقال والانفصال لدى الأمراء والقادة عن السلطة المركزية وتحقيق ذلك في مناطق مختلفة من الدولة( ) ، وأخيراً من خلال أضعاف السلطة المركزية في بغداد نتيجة النزاعات ضمن هذه السلطة التي اشتعلت بين العرب والفرس والأتراك الخ.. من خلال ذلك كله وضعت صعوبات جدية وضخمة على طريق تطور الانتاج البضائعي وتسويقه على مستوى مناطق الدولة بمجموعها .
وقد حاولت السلطة المركزية أن تحد ، لصالحها ، من اتجاه التمزق والانفصال ذاك . لقد توجب عليها أن تكافح ، في آن واحد ، ضد العصاة والمتمردين من ممثليها الأمراء والحكام في المناطق العديدة ، وضد الحركات الثورة الفلاحية والرقيقية . ومن أجل ذلك استخدمت السلطة المركزية محاربين مأجورين من المدينة والريف – وضمن هؤلاء الكثير من العوام الفقراء والأرقاء والفلاحين الذي لا ملكية لهم . ومنذ خلافة المعتصم (833-842) مروراً بالواثق (842-847) والمتوكل (847-861) أرغمت السلطة المركزية على دخول معارك مستمرة ، وأكثر الأحيان يائسة ضد المتمردين من كل نوع .
وقد قدم لنا تاريخ تلك الفترة العصبية أمثلة حية من الحركات الثورية ، التي قام بها العبيد والفلاحون المسحوقون ، ولا شك أن الحركة القرمطية والحركة التي قام بها الزنوج في البصرة تقفان في طليعة تلك الأمثلة.
من ناحية أخرى ينبغي أن نشير إلى أن اتجاه التمزق إلى دويلات في فتراته المتأخرة قد أدى – آخذين بالطبع بعين الاعتبار التقدم الذي تم حتى ذلك الحين في حقلي الاقتصاد والتكتيك = إلى أن تنشأ بعض الدويلات التي ازدهر فيها الاقتصاد النقدي والتجارة والزراعة بشكل ملحوظ ، كما كان الأمر مثلاً في مصر أيام الطولونيين (من 868 حتى 950) وفي أسبانيا الأموية. في هذه الدويلات تكونت أسواق مستقلة نسبياً عن سوق الامبراطورية الشامل وحياة سياسية وثقافية متطورة .
بيد أن التمزق الاقطاعي المتنامي للدولة العربية – الاسلامية حد على العموم وأكثر فأكثر من أمكانيات التبادل البضائعي على مستوى الدولة هذه ، وجلب معه بالتالي نتائج سلبية بالنسبة إلى الدويلات والقاطعات من حيث هي منفردة . على ذلك النحو أخذت الخلافة تعاني أكثر فأكثر من صعوبات سياسية واقتصادية وحربية . وقد رافق ذلك تغيير مستمر في الأسر الحاكمة في بغداد . وأن كان ممكناً في القرنين التاسع والعاشر أن تنشأ وتتطور مراكز تجارية وثقافية عملاقة ، فقد اصبح هذا فيما بعد غير وارد . كما أن العلاقات الاقتصادية بين المناطق المختلفة للدولة أضعفت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بشكل قوي ؛ والنزاعات اللاحقة بين تلك المناطق قادت إلى الخراب الاقتصادي . أما الارهاصات والاندفاعات البورجوازية القوية في إطار القوى المنتجة فقد أصابها ضمور وأزمة من خلال أضعاف السوق التجارية الشاملة والتبادل البضائعي ومن خلال العصيانات ذات النزعات الانفصالية، والحركات الثورية الفلاحية والرقيقة الأصلية .
وقد عمل التمزق الاقطاعي للمجتمع وإزالة وحدته السياسية والاقتصادية والجمركية النسبية على تسهيل عملية تكون الحرف المنزلية البدائية ، كالغزل ، واتداد اقتصاد الدولة العام إلى الزراعة البدائية المتخلفة بقوى انتاج وعلاقات انتاج فنية خاملة .
وحين حاول الخليفة الناصر (1180-1225) يائساً (لملمة) الخلافة وإعادة وحدتها ، كان العصر قد أستنفد آفاق مثل هذه المحاولة . فالمنغول وقفوا ، وفي مقدمتهم هولاكو ، في بغداد بقبضتهم المدمرة . فقضوا بحقد ووحشية على ما تبقى من معالم الحياة الاقتصادية والثقافية والصناعية . وكان ذلك خطاً فاصلاً بين عالمين (مجتمعين) ، كان آخرهما تكثيفاً لحياة اقتصادية وسياسية وفكرية اقطاعية متخلفة حتى الأعماق .
أثناء موجة الفتوحات الخارجية اخضعت في عهد الامويين أسبانيا – ما عدا المنطقة الجبلية أستوريا – من قبل العرب ما بين 711 و 718 . بيد أنه بعد سقوط السلطة الأموية في دمشق عام 750 هرب الأموي عبدالرحمن الأول إلى أسبانيا ، وأسس هناك في عام 756 أمارة قرطبة .
لقد كانت أسبانيا منذ القرن الخامس تحت قبضة القوط الغربيين . وفي القرن السادس سقطت أسبانيا الجنوبية على أيدي البيزنطيين . بيد أنه خلال سيطرة القوط الغربيين كان ( الاقطاع ) قد تحول إلى المؤشر الجوهري الحاسم في العلاقات الاجتماعية للمجتمع الاسباني . وقد سقطت مملكة القوط الغربيين في القرن السادس تحت ضغط الانتفاضات الفلاحية واتجاهات التمزق والانفصال الاقطاعي .
والآن ، أن كان العرب قد استطاعوا أخضاع أسبانيا الاقطاعية المتداعية في خلال سنتين ، فإن هذا ا يجد تفسيره فقط ي التمزق والضعف السياسيين والاقتصاديين للبلد ، وإنما أيضاً – وهذا له دلالته الكبيرة – في ( البديل ) الذي قدمه العرب الفاتحون للاسبان ، وهو حضارة غنية عملاقة وانسانية على وجه العموم.
أن أهم شيء قام به العرب هناك كان :
1- انتزاع مساحات أرض خصبة واسعة من الملاك الكبار المحليين وتقسيمها على الاقنان المسحوقين والذين لا ملكية لهم ؛ .
2- تخفيض الضرائب التي توجب على الفلاحين والعوام الأحرار وأنصاف الأحرار دفعها للدولة . وبما أن الدخول في الإسلام كان يعني بالنسبة إلى العبيد والأحرار المعدمين ضمن الفلاحين والعوام المدينيين تحريرهم من الضرائب (ومن الزكاة أيضاً ، لأن دخولهم المعاشية كانت منخفضة ) والعبودية ، فقد دخل فعلاً فيه ، أي في دين الفاتحين ، أعداد ضخمة من أولئك البؤساء . كذلك الآخرون الآخذون بدين توحيدي ، أي أهل الكتاب من مسيحيين ويهود ، استطاعوا الاحتفاظ بدينهم والعيش باطمئنان ضمن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجديدة . بيد أنه توجب عليهم دفع ضريبة (الجزية) للدولة المركزية ، وذلك مقدار دينار ذهبي واحد في السنة عن الرأس الواحد من الرجال ، أما النساء والصبيان فلا( ).
أن هذا يري أن العرب الفاتحين قد عموا ، من خلال خطواتهم الهامة تلك ، على تغيير العلاقات الاجتماعية الاقطاعية تلك وهزها واضعاف العبودية ، وإن لم يعملوا على إزالة هاتين الظاهرتين الاجتماعيتين بشكل نهائي . هذا إلى جانب ومن خلال قيامهم ببناء مجتمع جديد قائم على تجارة منفتحة على العالم واقتصاد نقدي متقدم . وهذا يفسر لنا كون العرب الفاتحين لم ينظر إليهم من قبل جماهير الاقنان والعوام الأحرار ونصف الأحرار والعبيد كغزاة ، بكل كمحررين ، بالمعنى الدقيق للكلمة . وقد عبر ذلك عن نفسه فكرياً ذهنياً من خلال التسامح العميق الذي أبداه العرب المسلمون تجاه المسيحيين واليهود الاسبان . فمما يذكر أن المدن الرئيسية قرطبة وغرناطة وبعض المدن الأخرى أديرت من قبل اليهود المقيمين هناك.
لقد عاشت أسبانيا السيطرة العربية ، وعلى الخصوص من عهد الأمويين هناك ، نهوضاً بارزاً في المجالين الاقتصادي والثقافي . فلأول مرة في تاريخ البلد تدخل فيه السقاية الاصطناعية بشكل واسع وأساليب زراعية جديدة ونباتات جديدة ، مثل الرز وقصب السكر والمشمش والرمان والبرتقال والصوف( ).
وجدير بالابراز الواقع التالي ، وهو أنه قد تكون في إطار السلطة السياسية المركزية هناك أساس واسع ومتعدد الجوانب لازدهار الانتاج البضائعي والاقتصاد النقدي ، وبالتالي لحركة تبادل بضائعي واسعة ذات وتأثر عالية . وقد أمكن لذلك الواقع أن يكتسب مضامينه الحقيقية الدافقة على طريق تحويل ملكية الأرض الصغيرة الحرة من قبل الفلاح المتحرر إلى المؤشر الرئيسيي للعلاقات الاجتماعية الانتاجية في الريف ، ومن خلال التحاق العبيد المحررين بقطاعات مختلفة من المجتمع ، كالقطاع الفلاحي والصناعي اليدوي والعسكري ، وأخيراً من خلال ادخال نظام مرموق لمنشآت السقاية ذات الحجوم الضخمة وتطوير التجارة والصناعة اليدوية التي انتجت ، على سبيل المثال ، السيوف والأسلحة الأخرى المستعملة آنذاك ، وقامت بتحويل المعادن .
أن تحويل – بل نود أن نقول تثوير – العلاقات الاجتماعية وقوى الانتاج جلب معه طبقات وفئات اجتماعية جديدة . وقد شكلت المدينة ، خلال ذلك ، الترسانة الرئيسية للارهاصات والاندفات البورجوازية الفتية . فقرطبة ، زينة الدنيا( ) ، كانت مثالاً بارزاً على ذلك . أن تعداد سكانها بلغ في عهد السيطرة الأموية نصف مليون . لقد عمل فيها في مجال استخراج الحرير فقط ، هذه الصناعة التي بلغت هناك وتأثر ضخمة في تطورها ، ما يقارب ثلاثة عشر ألفاً من العمال ، وفيها أي أي قرطبة ، وجد سبعون مكتبة عمومية ، وثلاثمائة حمام عمومي ، وسبعمائة مسجد ، ومدارس حكومية مجانية كثيرة ؛ كما وجد فيها الجامعة الشهيرة بأسمها ، ومكتبة الحكم الثاني ، التي احتوت أربعمائة ألف مجلد( ).
ومن الأمور الهامة الجديرة بالملاحظة الدقيقة أن الإمارة الأموية (استمرت من 756 حتى 912) ولاحقاً الخلافة الأموية (وجدت من 912 حتى 1031) مارستا دوراً مختلفاً عن دور الأمويين المسقطين في المشرق العربي . والحقيقة أن فترة الازدهار هناك انطلقت تكتسب أبعادها وآفاقها الزاخرة بعد القضاء على حركات ( الشغب ) والفوضى في قرطبة ومدن اندلسيه أخرى قام بها أمراء مقاطعات أقطاعيون أو متواطئون من الاقطاع لتجزئة الدولة . وقد تم ذلك أثناء حكم الخيفة عبدالرحمن الثالث (912-961) . أن هذا استطاع الاسهام في تكوين دولة قوية موحدة سياسياً . ومع الحكم الثاني (961-976) بلغ التقدم الاقتصادي والثقافي في أسبانيا العربية – الاسلامية قمته الأولى ، وتكون وجه مشرق جديد في تطور البلد تحت سلطة الأمويين المغربيين . لقد كتب حول ذلك هـ. لاي (برلين) بحق ، بأن الأمويين ( حققوا في المغرب ، ما حاول اسلافهم ( الأمويون ) في المشرق أن يكبحوه . فبينما هم في بغداد أقاموا سلالة للاقطاع والاضطهاد ( العنصري ) ، نراهم في المغرب قد أثروا على نحو تقدمي ، حيث أنهم ساعدوا على تحطيم العلاقات الاقطاعية القائمة وبقايا العبودية ... ( )).
ونحن نرى واحداً من الأسباب الحاسمة لذلك في الواقع التاريخي ، وهو أن الأمويين ، الذين كونوا في المغرب دولة موحدة قوية ، لم يفعلوا ذلك على أساس مخلفات الأمارات الاقطاعية المتقاتلة فيما بينها في البلد ، وليس على اساس التحريك المستعر للمصالح القبلية البطريركية وأحياء هذه المصالح ، وأخيراً ليس على اساس الاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لأبناء الشعوب المختلفة للدولة . بعكس ذلك ، توجب عليهم ، هنا في المغرب العربي ، أن يكافحوا أولئك الأمراء والأعوان الأقطاعيين . ذلك لأن تقدم القوى المنتجة للمجتمع الأسباني آنذاك لم يعد ممكناً على أساس التمزق السياسي والاقتصادي الاقطاعي المريع . وإن حطم الأمويون المغربيون تلك العمارة الاقطاعية المتآكلة ، وعملوا على بناء مجتمع ( حديث ) متقدم ، فإنهم فعلوا ذلك مدفوعين بعوامل عديدة ، في طليعتها مطالب التقدم في حقلي السقاية والتجارة ، هذا التقدم الذي كون لنفسه جذوراً عميقة في المشرق العباسي ، ومتطلبات تكوين وتطوير مجتمع قادر على حل المشكلات العديدة والمعقدة ، التي طرحت آنذاك . ولا شك أن الأمويين المغربيين قد استخلصوا بدراية وتيقظ دروس الهزيمة العميقة للأمويين في دمشق ، ودروس التنافس الواسع والشامل بين قرطبة الأموية وبغداد العباسية.
في عام 1031 سقطت هذه السلالة الأموية في أسبانيا . وقد بدأ اتجاه السقوط هذا يقوي بعد انتزاع السلطة من أيدي الخليفة الصغير هشام ابن الحكم من قبل ( الحاجب ) المنصور بن أبي عامر وإقامة ديكتاتورية سلالة رجعية متواطئة مع الأمراء الاقطاعيين ومناهضة للتقدم الحضاري العام .
أن الدولة – السلطة – المركزية ، التي ازدهر فيها بشكل مدهش الاقتصاد النقدي ، والتبادل البضائعي ، والتجارة المنفتحة على العالم ، وتكنيك سقاية متطور جداً ، وبالتالي زراعة عالية الوتائر الانتاجية وصناعات يدوية متعددة ، أن ذلك كله سار في اتجاه التلاشي تحت الضغط القوي المتنامي لاتجاهات التمزق والانفصال في مناطق الدولة المختلفة في ظل سيطرة السلالة تلك . وقد بلغ مدى التمزق هذا حدا تحولت الدولة فيه إلى أكثر من عشرين أمارة ، سميت بـ ( الطوائف ) . ولم يمض زمن طويل بعد موت المنصور بن ابي عامر حتى اشتعلت في البلد حرب أهلية( ) . بيد أن حكم ( الطوائف ) الاقطاعية هذه لم يستمر طويلاً ، حيث سقط بفعل التحركات الداخلية المناوئة وبفعل الغزو الذي قام به للبلاد (المرابطون) ؛ وهم شعب مراكشي بربري.
لقد أقام هؤلاء في اسبانيا ومراكش ( أفريقيا الشمالية ) دولة مركزية ارستوقراطية قبلية أخذت فيها بعين الاعتبار التركة العربية – الاسلامية المشرقة . ولكن في الوقت الذي احتفظوا فيه بالمكتسبات الاقتصادية والثقافية لأسلافهم العرب الاسلاميين ولم يعرضوها للضياع أو التلاشي ، فإنهم لم يطوروها إلى أمام بشكل ملحوظ . بل أنهم في حالات وحقول معينة مارسوا دوراً سلبياً. من ذلك ، مثلاً ، الملاحقة التعصبية العنيفة للمسيحين واليهود المحليين وللفلاسفة والفلسفة بشكل عام أثناء حكم علي بن يوسف تاشفين (1107 – 1143) – وقد كان هذا الأخير ، أي يوسف بن تاشفين مؤسسي السلالة المرابطية .
وقد سقط الحكم المرابطي عام 1147 علي أيدي سلالة أخرى تميزت باتجاهاتها الاجتماعية – الاقتصادية المنفتحة المتقدمة وتفكيرها المتحرر ، وهي سلالة الموحدين .
لقد أتى هؤلاء من شمالي أفريقيا ، واستطاعوا أن يسيطروا على اسباب حتى 1212 . تأسيس سلطتهم وتطورها كانا ذا أهمية جوهرية بالنسبة إلى أحياء وتطوير حضارة الاقتصاد النقدي والتجارة ذات الحجوم العالمية ، التي (أي الحضارة) أرسى دعائمها وعمقها العباسيون في المشرق، والامويون في المغرب.
أن الموحدين قد خلقوا بقيادة أبي يعقوب يوسف ( 1163 – 1184 ) وبعده أبي يوسف المنصور ( 1184 – 1199 ) دولة ساهم فيها المسلمون والمسيحيون واليهود مجتمعين بتطوير الاقتصاد الزراعي والتجارة والحرف اليدوية والثقافة بشكل عام . وقد مات مؤسس هذه السلالة الموحدية ، محمد بن تومرت ، قبل انتصار سلالته على المرابطين .
وفي الحقيقة ، أن تتويج الازدهار الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي لأسبانيا العربية = الاسلامية قد تم تاريخياً في عصر الموحدين . وقد أغنى هؤلاء التحولات العميقة في البلد بخصائهم القومية المتكونة عبر تاريخ مديد .
أن Goldzieher يمثل الرأي بأنه لم يكن ممكناص في دولة الموحدين أن يتقلد أحد وظيفة قضائية دون أن يكون مسيطراً على اللغة البربرية( ). إلا أن الموحدين هؤلاء ، الذين حكموا طوال ستة عقود من السنين ، أرغموا أخيراً على مواجهة نهايتهم نتيجة النزاعات المستمرة مع الدويلات المسيحية المجاورة والموحدة عسكرياً ، وتحت ضغط اتجاهات التمزق والانفصال القاطاعي الداخلية . ففي عام 1212 انتصرت القوى الموحدة الخاصة بكستيليا وارأغون ونافارا والبرتغال على آخر أمير موحدي ، هو محمد الناصر ، في معركة قرب Las Navas de Tolosa.
وكان بذلك نهاية تلك الحضارة العربية – الاسلامية التي ساهمت بعمق وبشكل شامل في أغناء مكتسبات البشرية الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية . وأخيراً ، حين نحاول رصد
الملامح الأساسية للمجتمع العربي الجاهلي:
الملامح الأساسية والجوهرية للمجتمع العربي (الجاهلي) ، ومن ثم للمجتمع العربي – الاسلامي بشكل موجز ومكثف ، فإننا نواجه النقاط التالية:
1- أن المجتمع العربي في حقبته ( الجاهلية ) كان مجتمعاً قبلياً بطريركياً ، ثم تطور ، في الحقبة العربية – الاسلامية إلى الاقطاعية ليس عبر العبودية ، إنما بشكل مباشر ؛ أي دون أن يمر بالعبودية ، من حيث هي نظام اجتماعي متكامل ومتطور وشامل . والعبودية وجدت كذلك في المجتمع القبلي ذلك ، ولكن كظاهرة خاضعة للاطر الاجتماعية – الاقتصادية العامة لهذا المجتمع .
بذلك يبدو لنا عدم قدرة التعبير (الجاهلية) على احتواء الملامح الجوهرية الاجتماعية والاقتصادية للفترة هذه . فبدلاً من ذلك التعبير تقترح التحديد المفهومي التالي : (المجتمع القبلي البطريركي).
2- أن انحلال المجتمع العربي القبلي البطريركي تم بشكل رئيسي ، كما قلنا ، ليس على طريق نظام اجتماعي عبودي شامل ؛ بل من خلال ثلاثة اتجاهات مجتمعة ، هي الاقطاعي والعبودي وإلى حدٍ ما البورجوازي الأولي المبكر . بالطبع ، لم يبق الأمر لاحقاً ، كما كان في بدايته . فالاتجاه الاقطاعي استطاع أخيراً أن يدمغ المجتمع بطابعة الحاسم . ومن الجدير بالابراز واقع أن العبودية منذ العصر القبلي البطريركي (الجاهلي) حتى اضمحلال المجتمع العربي – الاسلامي في وقت متأخر كانت قد أثبتت موجوديتها دائماً ، ولكن من حيث هي ظاهرة مرافقة . من طرف آخر نلاحظ أن القبيلة البطريركية لم تتلاش من خلال بديل اقطاعي . فالارستوقراطية القبلية المكية لم يشهر السلاح في وجهها من قبل ارستوقراطية ارض ، أو من قبل اقنان وفلاحين . لقد أبرزنا سابقاً ، أن الإسلام قد اكتسب ملامحه الأولى الأساسية من حيث هو تعبير عن الحاجات والمصالح المتنامية للحركة التجارية الواسعة ، التي كان يكبح من نموها الاقتتال العنيف بين المجموعات القبلية المختلفة . والذي حدث ، ويستحق كامل الاهتمام والدراية ، هو أن تحقيق تلك المطالب والمصالح التاريخية للتقدم الاجتماعي قد تم بشكل رئيسي عبر النهوض بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للرقيق والعوام الأحرار وأنصاف الأحرار . وبتعبير آخر ، أن النهوض بذلك المستوى ورفعه بشكل ملحوظ تاريخياً لم يمكن تحقيقه إلا من خلال الإسهام في خلق علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة، تتميز بشكل أساسي بأنها تحقيق لتعادل ومساواة اجتماعيين معينين . بالإضافة إلى ذلك ، من الملاحظ أن تحقيق تلك المطامح التاريخية لقي ارهاصات عميقة من خلال عملية الفتوحات لبلدان أجنبية ومن خلال تنظيم الطرق التجارية بشكل دقيق ومأمون . هنا يكفي أن نشير إلى مدينة البصرة ، التي أسست في عهد عمر بن الخطاب عام 635 ، والتي كانت صلة الوصل في عملية التجارة البحرية بمجموعها في حوض الخليج العربي .
في مجى ذلك أخذت اتجاهات اقطاعية وبرجوازية أولية تطر نفسها بوتائر مختلفة في نطاق المجتمع العربي – الاسلامي الوسيط . ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ الواقع التالي ، وهو أنه طوال الفترة التي تواجدت فيها الدولة آنذاك ، بدءاً من خلال أبي بكر (632-634) وانتهاءً باضمحلالها أيام السلطة العباسية ، لم تستطع (العبودية) ولا الاتجاه البورجوازي الآخذ في النمو اكساب العلاقات الاجتماعية السائدة الطابع الجوهري المحدد لها . لقد ظلا ، أي العبودية والاتجاه البورجوازي ، ظاهرتين مرافقتين للاتجاه الكبير الحاسم والمتعاظم في تحديده لإطار العلاقات الاجتماعية تلك . ضمن هذا التحديد للمسألة نجد (هـ. لاي) محقاً حين يكتب : ( في اقطاعية المجتمع العربي – الاسلامي يمكن تقرير وجود عناصر للمجتمع العبودي ، وأخرى للتمزق الاقطاعي ، وبدايات ( وضع ) مركزي ، هذه البدايات التي قامت على عوامل بدأت معها صبرورة مجتمع بورجوازي( )).
3- أما (الاقطاعية) فقد أخذت شيئاً فشيئاً ، ومنذ تكون الخلافة ، تكتسب أهمية متعاظمة ، وأصبحت في العهد الأموي ، ومن بعده العباسي الشكل الرئيسي في العلاقات الاجتماعية الانتاجية .
وقد تم هذا ليس فقط انطلاقاً من قانونية التطور الداخلية ، مع أن هذه قد مارست في ذلك التأثير الحاسم ، بل أيضاص تحت تأثير الحضارات القديمة الشهيرة في بيزنطة وما بين النهرين ، ذه الحضارات التي تجاوزت في الحقل الاجتماعي – الاقتصادي التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية القائمة على العبودية من خلال أقامتها للاقطاعية كأساس حاسم لبنائها . أن احتكاك المجتمع العربي – الاسلامي الوسيط بهاتين الحضارتين العريقتين في مجموع الحقول كان له أثره العميق في اتجاهات التحرك الاجتماعي والثقافي .
معالم الحياة الفكرية وعوامل نشوء فلسفة وعلم
في العصر العربي – الإسلامي الوسيط
1- معالم الحياة الفكرية في المجتمع القبلي البطريركي – الجاهلي
لقد تكون ( الإسلام ) في مكة في الجزيرة العربية ، حيث لم يكن قد وجد هناك بعد فلسفة وعلم بالمعنى المتميز الدقيقة للكلمة . ونحن سوف نحاول هنا طرح قضية تكون أمكانات خصبة مع نشوء الاسلام ساهمت في تعبيد طريق النماء والتطور العلمي والفلسفي في العصر العربي – الاسلامي الوسيط . كما أننا سوف نقوم بمحاولة تحديد أبعاد وآفاق تلك الامكانات.
ومن أجل استيعاب أكثر دقة لمسألتنا هذه ، نرى من الضروري أن نرصد الوضع الفكري العام للمجتمع القبلي البطريركي – الجاهلي - ، الذي ابتدأ (قبل الإسلام بنحو قرنين تقريباً (وانتهى) بظهور الإسلام)( ) ، وأن نحلل الجوانب الايديولوجية الأساسية في الإسلام وفي التيارات الدينية والنظرية الأخرى ، التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تكوين وبلورة ذلك الوضع . في الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت (المسيحية) منتشرة إلى جانب (اليهودية) . كذلك كانت هنالك (الدهرية) ، وقد احتلت مكاناً ما في حياة العرب العقلية . إلى جانب ذلك كله ومن خلاله تم ، كما هو معروف ، تلاقح وتبادل فكري عميق وذو أبعاد متعددة وغية بين العرب والبيزنطيين والفارسيين ، حيث مارس العرب في هذا المجال دور الوسطاء التجاريين بين أولئك .
وفي الحقيقة ، من الممكن أن يكون هنالك عوامل وبواعث أخرى ساهمت في تكوين وعي الانسان العربي في تلك الحقبة التاريخية ، قبل نشوء الإسلام في القرن السابع . إلا أننا ، هنا ، نرى أن تلك العوامل والبواعث ، التي أشرنا إليها ، هي التي صاغت بشكل رئيسي الدائرة الفكرية والدينية للوعي ذاك . ونحن إذ نعمل على دراسة كل من حلقات هذه الدائرة على حدة ، فإننا لا ننسى أن هذه الحلقات يمكن فهمها كخلفية للوعي الإنساني العربي آنذاك فقد حينما ننطلق من اعتبارها تكون فعلاً وحدة عضوية ، لا تنفي طبعاً وجود تناقض فيها.
لقد وجدت اليهودية في الجزيرة العربية قبل الإسلام بقرون عدة، وكان مركزها الرئيسي مدينة يثرب (المدينة). عدا ذلك كانت منتشرة في مناطق أخرى من الجزيرة العربية ، مثل تيماء وخيبر . أما في يثرب نفسا فقد وجدت ثلاث قبائل ، هي بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو نضير( ). وهذه القبائل مارست حياة مادية متطورة بحدود الوضع آنذاك.
أما من أين تحدر يهود الجزيرة العربية هؤلاء ، فيما إذا كانوا قد أتوا من فلسطين بعد انكسارهم على يد البيزنطيين ، كما يخبر أبو الفرج الاصفهائي في كتابه البارز (الاغاني) ، أو فيما إذا كانوا عرباً من الجزيرة العربية تهودوا بعد ذلك ، كما يخبر ياقوت في (معجمة) ، أن هذا التساؤل والإجابة عليه لهما دلالة ليست عديمة الأهمية في دراسة وتوضيح أبعاد وآفاق وعي الإنسان العربي آنذاك. ذلك لأن اليهود قد تأثروا في الاسكندرية وعلى البحر الأبيض المتوسط بشكل قوي ومباشر بالثقافة الهلينية . ولا شك أنه في الوقت الذي يستعيد المرء فيه في ذهنه الدور الذي مارسه اليهود في حركة الترجمة العاصفة من اليونانية إلى العربية ، يجد نفسه على طريق منح ثقته لرأي أبي الفرج الاصفهاني . هذا بالإضافة إلى أن هنالك فعلاً عرباً تهودوا تحت تأثيرات عديدة احتواها التفاعل والتبادل التجاري الذي تم بين العرب والشعوب الأخرى( ).
لقد أثرت اليهودية على بنية الوعي الانساني العربي ، وذلك من خلال 1- التصورات الخاصة بها والتي طرحتها أمام ذلك الوعي ، و 2- من خلال التأثيرات الهلينية التي أدخلتها معها إلى الجزيرة العربية . فمن حيث تصوراتها الدينية نجد تأثيرها قد تم عبر فكرتين ، فكرة ( الشعب المختار ) ، وفكرة ( الاله الواحد ) .
أما من ناحية الفكرة الأولى ، فقد كان تأثيرها سلبياً ورجعياً . لقد ساهمت ، حسب ما أرى ، في تكوين بعض أرهاصات (الشعوبية) أو (العرقية) في ذلك الوقت وفي أوقات لاحقة ، وإن كان هذا قد تم على نحو غير مباشر . فلقد عاش اليهود في يثرب منعزلين نسبياً عن العرب المسيحيين والآخرين ، أو محاولين العيش بعزلة عن هؤلاء .
وقد كان في ذلك خطوة خطيرة على طريق محاولة اكساب (اليهودية) مضموناً وطابعاً عرقيين إلى جانب كونها عقيدة دينية . لم تسر الأمور كما أريد لها أن تسير ، ذلك لأن (اليهودي) العربي ظل يمارس وجوده من حيث هو كذلك ، أي عربي .
أن فكرة ( الشعب المختار ) اليهودية يمكن فهمها وتفسيرها بالدرجة الأولى انطلاقاً من رؤية اجتماعية طبقية . فلقد أخذ بها ( أي اليهودية ) . بشكل عام أولئك الأفراد من العرب ، الذين كانت لهم فعلاً مواقع اقتصادية متينة وخصبة . فالقيمون على شؤون الصناعات الحرفية والزراعية الأولية كان الكثير منهم يهودا . أن ( الشعب المختار ) كان في تصورهم تلك المجموعة من الناس القادرة فعلاً على الإحاطة بالحياة الاجتماعية – الاقتصادية بشكل عملي فعال . ووضعهم ( الشعب المختار ) تلقاء الشعوب ( الأخرى ) على نحو متعارض متجابه ، يعني أضفاء طابع ديني – عرقي على التعارض والتناقض بين الذين يملكون ويحسنون الاحاطة العملية تلك وبين الذين لا يملكون ولم يدخلوا حلبة الحياة الاقتصادية . لقد جاء في (التنبيه والاشراف) للمسعودي ، عن عمر بن الخطاب أن (الرسول) قال : (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )( )، يقصد بهما الاسلام واليهودية .
والحقيقة أن اليهود ناصبوا الدعوة الاسلامية العداء ليس فقط دينياً ، وإنما أيضاً وبشكل عنيف اجتماعياً واقتصادياً . أن عدم امكانية تواجد (دينين ) في الجزيرة العربية يعني ، ضمن ما يعنيه ، عدم امكانية تواجد (الذين يكنزون الذهب والفضة) مع (الفقراء والمساكين..) . واليهود ، ومنهم قبيلة بني قنيقاع التي عمل أفرادها كصاغة( )، استشفوا فعلاً مخاطر الحركة الاسلامية عليهم . فكانت حروب بين الفريقين( )، جسدت بعمق كفاح عالمين متناقضين ، عالم المرابين والتجار الأثرياء وعالم المسحوقين من أرقام وعوام .
ولا شك أن فكرة (الشعب المختار) اليهودية ، التي لقيت قبولاً لدى وسط عربي معين (أي لدى العرب الذين تهودوا) ، يمكن تقصيها في (العصبية الجاهلية) وفي (الشعوبية) ، كما ذكرنا سابقاً .
بيد أن الفكرة اليهودية الأخرى (الاله الواحد) كان لها – منظوراً للمسألة من جانبها التاريخي – صدى إيجابي ، وخصوصاً في المدن والمناطق المتحضرة نسبياً ضمن العلاقات الاجتماعية في الجزيرة العربية آنذاك . ففي تلك المدن والمناطق تأجج نزاع بين الواحديين (في هذ1ه الحال : اليهود) وبين عبدة الأوثان المختلفة . وقد برز هذا الوضع في مكة بوضوح.
لقد واجه الملأ المكي خطراً جدياً ماثلاً في فكرة (الالوهية الواحدة) ، كما شكلت هذه الفكرة في المسيحية والاسلام ، في حينه خطراً على ذلك الملأ . بيد أنه من الملاحظ أن هذه الفكرة ، التي رفضها الملأ ذاك ، لم تكن داعياً لرفض فكرة (الشعب المختار) من قبله ، أي من قبل ( النخبة المختارة ) في مكة. هكذا نكون قد تحاشينا في بحثنا الوقوع في وهم يقوم على أن (اليهودية) قد دخلت الجزيرة العربية آنذاك في (وحدتها) المزعومة المكونة من (الاله الواحد) و (الشعب المختار) . فخطر الفكرة الأولى على الملأ المكي لم يكن موجهاً ، بالدرجة الأولى ، ضد أوثانه ، من حيث هي أوثان بلغ عددها 365( )، وأنما ضد مصالحة وامتيازاته الاجتماعية والاقتصادية والدينية والحقوقية ، التي كمنت وراء تلك الأوثان. ذلك لأن هذه الأخيرة كانت تشكل مصدراً رئيسياً خصباً لحياة الملأ الثرية . فالحجاج قد وافدوا من كل مناطق الجزيرة العربية إلى مكة من أجل تقديم الضحايا والقرابين للأوثان المؤلهة، وذلك مقابل كمية من النقد أو أعطيات أخرى تقدم إلى ذوي الأمر من الملأ.
أما المسيحية فقد كان تأثيرها على الوعي العربي في الحقبة القبلية البطريركية أكثر عمقاً عما هو لديه اليهوديه . وكاليهودية ، أنتشرت المسيحية بشكل خاص في المناطق المدينية ، حيث كان سائداً نوع من التشكل السياسي والاجتماعي المتميز ، كالحيرة ونجران . وقد دخلت المسيحية الجزيرة العربية ممتزجة ومتأثرة بالثقافة اليونانية الهلينية بوضوح . أما أدخالها إلى جنوبي الجزيرة العربية فقد تم على أيدي الأحباش ، الذين وصلتهم المسيحية بواسطة البيزنطيين( ).
أن اللحظة أو الجانب الديني من الوعي العربي المديني دعم ، بشكل أساسي ، من قبل المسيحية واليهودية ، اللتين انتشرتا في الجزيرة على نحو غير متساو . ونحن نلاحظ هذا الواقع غير المتساوي مكثفاً في مكة .
وفي الحقيقة ، يشكل ظهور وانتشار المسيحية واليهودية في الجزيرة العربية ، من الناحية التجريدية الذهنية ، تقدماً ملحوظاً تلقاء الوثنية . فلقد اكتسب الوعي العربي آنذاك أبعاداً جديدة وقدرة على التجريد أكثر من أية فترة مضت . ولكن هذا التقدم لم يكن كذلك بالنسبة إلى عملية المعرفة العقلانية للواقع الموضوعي ، الطبيعي والاجتماعي .
أما (الوثنية ) فقد ظلت محتفظة ببعض مواقعها القوية ، وخصوصاً في مكة . أن الحسية البدائية والتشخيص والتجسيد في الأوثان انتصبوا في نزاع مع ( التوحيدية ) المسيحية واليهودية ، المتضمنة نوعاً من التجريد الذهني . بيد أن الوثنية اعتقدت ، كالمسيحية واليهودية ، بوجود قوى غير مرئية ومن لحمة مغايرة للحمة واقعنا الاجتماعي والطبيعي الموضوعي. ولكن خلافاً للمسيحية واليهودية ، نجد الوثنية قد تضمنت جانباً طبيعانياً . فالوثن المسمى بـ(ود) مثلاً ، الذي يظهر لنا في شكل رجل عملاق سلاحه في يده ، كان يعني بالنسبة إلى قبيلة (عزرة) القوة ، ويجسد الدور الهام للحرب (الغزو) في الحياة اليومية الاقتصادية العامة والشخصية والاخلاقية. كذلك أيضاً الوثن (العزى) ، الذي تضمن شكل كوكب فينوس ، وعبد من قبل القرشيين في مكة ومن آخرين .
أن الطبيعة ( نتورا لتيت ) ( ) المتضمنة في الأوثان اختزنت عنصراً انسانياً ، تولد من محاربة تحويل (عواطف ومشاعر) الظواهر الطبيعية في خدمة الإنسان.
هكذا يمكن اعتبارها شكلاص من الإنسية (انتربومورفزم)( ). و(النفس) في الإطار الوثني، الذي ساد آنذاك، لا تملك استقلالية تلقاء الاجسام والاشياء الطبيعية، إلا من خلال كونها (نفساً) لهذه الاجسام والاشياء.
أن الاجسام والاشياء الطبيعية هذه منحت نفوساً وقوى خاصة لا يمكن فصلها عنها . ونحن نلاحظ ذلك من خلال التصور حول ( الشياط أو أبليس ) نفسه . فالشيطان يقيم في كل جسم أو موضوع ( شيطاني ) ، ( شرير ) . والمدقق في الأمر يجد مثل هذه التصورات في عصرنا لدى بعض القبائل البدوية في المملكة السعودية مثلاً . أن الاعتقاد بوجود مثل هذه (النفوس) لم ينطلق من تصور لا مادي أو لا حسي ( بمعنى ما وراء الحس ) . هذا يعني أن ذلك الاعتقاد لم يتجاوز التصور الحسي الخاص بطبيعة مؤنسنة .
أن هذا الاتجاه قد ساد ، بالدرجة الأولى ، لدى البدو الرحل القدماء . فهؤلاء كسبوا حياتهم المعيشية تقريباً فقط من خلال ممارستهم الرعي . أن المطر ، والأرض الخصبة ، والجمل ، والخروف شكلوا وكونوا آفاق الحاجات الحياتية للإنسان البدوي ولآفاق وعيه الذاتي. وقد تضمنت هذه العلاقة بين تلك الاطراف المتعددة طابعاً سببياً عفوياً . وبطبيعة الحال فقد تكون وتبلور ذلك على طريق ( العمل ) المجسد بتحصيل البدوي لحاجاته اليومية الضرورية المتواضعة . فالمطر والأرض الخصبة والجمل والخروف يخدمون حياته المتواضعة تلك . ولذلك فوجوده مشروط بشكل ضروري بوجودهم . فالمسألة ظلت ، كما هو بين ، محصور ضمن نطاق الحياة اليومية للبدو ؛ ولا شيء آخر فوق ذلك .
أن البدو القدماء لم يستطيعوا القراءة والكتابة . وقد خضعوا لقبائلهم وعشائرهم ، التي ملكت كل واحدة منها ( عالمها الذهني ) الخاص . وارتبط هذا العالم الذهني بالحاجات الحياتية الأولية للقبيلة وللعشيرة . ولكن مع تسرب المسيحية واليهودية إلى الجزيرة العربية أخذ الاتجاه الطبيعاني ، الذي عرضنا له فوق ، يكتسب أشكالاً دينية متميزة . فالاستقلالية الطبيعية للنفس الخاصة بالأشياء والمواضيع الطبيعية أخذت توجه من قبل هذين الدينين باتجاه غيبي ديني مفارق . وقد تم هذا بمقدار ما استطاع المتسربون الجدد أن يفرضوا أنفسهم ضمن القبائل العربية البدوية .
بيد أن هذه لا يعني القول بأن اللحظة الدينية الغيبية قد وجدت أرضها الخصبة بدءاً من دخول المسيحية واليهودية إلى حياتهم . ذلك لأن مثل هذه اللحظة تنشأ ، بشكل عام ، خلال عملية العمل الانساني كتعبير ذهني عن العجز المادي الاجتماعي والنظري المعرفي للانسان الاجتماعي .
إلى جانب ذلك كله نجد أن تلك الرؤية للعالم لدى البدو لم تتكون بمعزل عن أي تأثير أجنبي . فمما لا شك فيه أن مجموع مناطق الجزيرة العربية قد تأثرت بدرجات مختلفة بالحضارات البشرية السابقة . وقد لعبت التجارة في عملية التأثير والتاثر هذه دوراً رئيسياً مرموقاً . خال ذلك وجدت الجزيرة العربية نفسها في نقطة لقاء واحتكاك هامة بين الطريقين التجاريين الرئيسيين المتقاطعين ، واللذين من خلالهما التقى الشرق بالغرب على نحو يدعو إلى الدهشة.
على أساس من هذا الاستيعاب للمسألة نستطيع فهم النزاعات العنيفة والمديدة ، التي اندلعت بين القوى الكبيرة آنذاك من أجل السيادة على المناطق الهامة اقتصادياً واستراتيجياً في الجزيرة العربية . فنحن نقرأ في كتب التاريخ بأن المصريين القدماء قد أسسوا عام 3000 قبل الميلاد مستعمرة في يثرب ، بغاية البحث عن النحاس واستخراجه . كما هاجم قائد الاسكندر الكبير المسمى (انتيغونوس) مدينة سلع ، عاصمة الانباط من أجل اخضاعها لحكمة ، ولكنه لم يفلح في ذلك . إلا أن هذه المدينة أخضعت لاحقاً ، أي عام 105 بعد الميلاد ، من قبل الامبراطورية الرومانية ، وعام 540 من قبل الفرس ، وأخيراً عام 550 من قبل الرومان( ) . كما ينبغي الاشارة هنا إلى النزاعات المديدة والعنيفة التي دارت بين الفرس والبيزنطيين من أجل المنطقة الجنوبية الخصبة في الجزيرة العربية .
إنطلاقاً من ذلك يصبح بيناً ، ضمن أية تاثيرات غنية ومتعددة تحقق التبادل العميق الاقتصادي – المادي والفكري بين الجزيرة العربية والحضارات السابقة والمعاصرة لها . هذا يعني أن اللحظة الدينية – اللاعقلانية في وعي العرب البدو لم تجد مصدراً وباعثاً لها فقط في الارهاصات التي قدمتها ، في هذا الحقل ، المسيحية واليهودية فقط ، وإنما أيضاً في الأديان والأساطير القديمة الفارسية والهندية واليونانية – الرومانية والمصرية ، التي حملها تجار وسائحو تلك البلدان ، الذين قدموا إلى الجزيرة العربية. كذلك نستطيع القول بأن الطقوس الدينية قد نشأت هناك – في الجزيرة العربية – أيضاً تحت تأثير حكة التبادل الاقتصادية والفكرية هذه . بل نحن نميل هنا إلى الافتراض بأن العرب القدماء قد تعرفوا على تاليه الأوثان والأصنام عن طريق المصريين أيضاً .
وقد أرغمت التصورات الحياتية العفوية للبدو القدماء ، التي اختزنت في أثنائها الأصلية عناصر طبيعانية متعارضة مع الروحانية الغيبية ، على التلاشي تحت الضغط الكبير للمسيحية واليهودية والوثنية المحولة دينياً . فكل موضوع (وضمن ذلك الإنسان البدوي نفسه) ، الذي يحتوي ( ذاته ) أو ( نفسه ) ، وضع في تعارض مع ( ذاته ) أو ( نفسه ) . ذلك لأن ( ذاته ) أو ( نفسه ) فصلت عنه ، وأضفي عليها طابع غيبي مفارق . وقد فصلت النفس ومنحت استقلالية تلقاء الجسد على ذلك النحو في التكثثرية( ) (في هذا الحال : الوثنية ) كما في الواحدية( ) (في هذه الحالة : المسيحية واليهودية ) . إلى جانب تلك الاتجاهات الدينية والارهاصات الطبيعانية ، كان قد وجد اتجاه طبيعاني الحادي متميز مثله ( الدهريون ) . أن كتاب (المل والنحل) للمؤرخ الفلسفي الشهرستاني يعتبر وثيقة هامة في تاريخ هذا الاتجاه الفكري. فهو قد سماهم ، وهو المؤرخ الفلسفي المثالي ، (معطلة العرب) ، ورفض آراءهم بشكل حازم( ). وقد صنفهم في ثلاث مجموعات هي : 1- منكرو الخالق ، والبعث ، والاعادة . و 2- منكرو البعث والاعادة ، و 3- منكرو الرسل.
وخلال بحثه لمعطلة العرب ، يعتمد الشهرستاني بشكل رئيسي أساسي على القرآن كمصدر تاريخي . هذا يري ، من طرف آخر ، أنه حتى من جانب الاسلام اعترف بوجود هذا الاتجاه الطبيعي الالحادي في المجتمع العربي البطريركي القبلي .
لقد ساهم في تكوين ذلك الاتجاه وجود العنصر الطبيعاني المتعارض مع العنصر الغيبي المفارق في وعي العرب (المثقفين) آنذاك ، والمماحكات والمناقشات الحادة التي تمت بين الاتجاهات الدينية والفكرية (مثل المسيحية واليهودية والأديان الهندية والفارسية والبيزنطية والفرق الطبيعانية الدنيوية ) . ولا شك أن معالجة المصدر الأجنبي لهذا الاتجاه الفكري تشكل جانباً هاماً من المسألة .
بيد أنه من الضروري أيضاً تقصي الأطر الاجتماعية – الاقتصادية والفكرية العامة ، التي تحرك في إرجائها ذلك الاتجاه .
لقد أبرزنا في مواضع سابقة من هذا الكتاب ونتيجة لتحليل قمنا به للوضع الاجتماعي للطبقات المسحوقة في الجزيرة العربية ، وخصوصاً في مكة ، أن هذه الطبقات (الرقيق ، والعوام الأحرار ونصف الأحرار) تتحدد اجتماعياً وتاريخياً وفكرياً من حيث هي مبدعة المجتمع الجديد . ومن حيث هي كذلك ، كانت تجد نفسها بشكل أو آخر وبقليل أو كثير من الوضوح والوعي متجهة باتجاه الأخذ بايديولوجية تناهض الايديولوجية الوثنية الغيبية السائدة ، ايديولوجية التجار والمرابين . وقد كان للدهرية أن تمارس هذا الدور التاريخي كايديولوجية للطبقات المسحوقة . إلا أن آفاق التقدم الاجتماعي والفكري آنذاك لم يكن لها أن تستوعب ذهنياً من قبل (الدهرية) ، وذلك سببين : أولهما يكمن في الضعف وعدم التماسك الفكريين في الدهرية من حيث هي رؤية فكرية معينة ، لم يكن لها أن تمنح تلك الطبقات المسحوقة بوصلة نظرية فكرية ، لأن منطق التاريخ كان قد تحدد آنذاك من خلال آفاق التقدم ضمن رداء ديني . أما السبب الثاني فهو التمركز الشامل للمسيحية واليهودية في الجزيرة العربية آنذاك .
وهنالك واقع ينبغي إبرازه ، وهو أن الدهريين العرب قد تأثروا بشكل مباشر بالدهريين الفارسيين ، وذلك عن طريق المواصلات التجارية المستمرة والسلمية معهم . وقد تيسر لهذه المواصلات أن تكتسب وتائر الحيرة التي أسست من قبل الفارسيين وحكمت من قبل العرب اللخميين .
إن De Boer يرى أن الدهرية قد اكتسبت (( اعترافاً مكشوفاً خلال حكم الساساني يزدجرد الثاني ( من 9/438 – 457 ) ))( ).
إن الدهرية ترى في الزمان السبب الأولي للوجود . والزمان هذا ، حسبها ، غير مخلوق ولا نهائي . والفريق الواحد ضمن الدهرية رفض الاعتراف بوجود اله إطلاقاً : ( وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.)( )
إن الشهرستاني في كتابه المشار إليه سابقاً لا يسمي لنا أي ممثل لذلك الاتجاه الدهري . غير أن الآخرين ، أي المجموعتين الأخيرتين ضمن الدهريين ، اعترفوا بوجود اله ، في الوقت الذي رفضوا فيه العبث والإعادة . إن هذا التمايز والاختلاف يبرز من قبل الشهرستاني بشكل غير تاريخي وعلى نحو تعسفي . فهو يورد بيت شعر لشاعر مجهول الاسم: حياة ثم موت ثم نشر حديث خرافة يا أم عمر( )
وخلال ذلك يفترض الشهرستاني ، دون مبرر واضح وعقلي ، أن بيت الشعر هذا يتضمن القول بوجود خالق بغض النظر عن نفي البعث ، بعكس ذلك يمكننا أن نفترض بأن أولئك ، الذين رفضوا البعث المسيحي ، رفضوا أيضاً القول بوجود خالق للعالم .
إن ذلك الاتجاه الطبيعي الإلحادي لم يكن قوياً بشكل كاف ، بحيث يقف في خط معارض لـ(الكثروية) ، أي تعدد الآلهة في الجزيرة العربية ومعارض للتصول حول إله واحد الذي كان ممثلاً من قبل (الحنيفة).
إن الإسلام قد نشأ تاريخياً عبر ملامسات عميقة كثيراً أو قليلاً للمسيحية واليهودية والوثنية ، حيث جعل من اللحظة الدينية موضوع وجوده الديني . ولقد حدث هذا بالرغم من الخلافات والتناقضات التي برزت بينه وبين هذه الاتجاهات الدينية . أما الإرهاصات الطبيعية الإلحادية ضمن الوثنية فإنها لم تتلاش نهائياً مع نشوء وتطور الإسلام . إنها اكتسبت وجوداً جديداً ضمن الاتجاهات الفكرية المادية اللاحقة . والتعدد والحيوية والنمو تنشأ جميعا عن الخصوبة والتعدد والحيوية والنمو !.
أن موقع الكندي في تاريخ الفكر الإسلامي العربي الوسيط أساسي ، من حيث أنه ، أي الكندي ، أثار بأشكال طريفة وعميقة مشكلة الوجود بملحقاته . والشيء المهم في ذلك هو أنه جسد ذلك الميل المبكر لطرحه لمشكلات الوجود بشكل مختلف ، بل متناقض مع الطرح النصي الإيمان هذا بغض النظر عن كون الكندي قد توصل إلى هذا ( الميل ) كنتيجة من نتائج الصعوبات الذاتية المنطقية التي اعترضته خلال محاولاته لإيجاد تناسق وتماسك في وجهة نظره الأساسية حول (الخلق من عدم مطلق).
2- العوامل الأساسية في تكوين علم وفلسفة في المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط
مع نشوء الإسلام وتبلور آفاقه نجد بداية حياة فكرية قد أخذت في التكون . و" الجدة " الحقيقية التي مثلها الإسلام نفسه كمنت تقدميته التاريخية . إن هذه التقدمية التاريخية كانت قد برزت في تعارض واضح مع المسيحية واليهودية. ونحن هنا نرى أن ذلك يكمن في " دنيويته" . هذا يظهر لنا بشكل متميز عبر مقارنة مع إذا كانت العلاقة بين الإنسان والإله في إطار فكرة التثليث لدى الأشكال الأساسية السائدة آنذاك في الكنيسة المسيحية ، وهي اليعقوبية والملكانية والتسطورية، قائمة على ارتباط وجودي " انطولوجي" معين ما بين الإله والإنسان، والإنسان والإله، فإنها تكتسب الصفة التالية: الأب والإبن والروح القدس. على أساس هذه العلاقة نرى أن ليس هنالك من هوة لا تعبر بين الإنسان والإله . فالإنسان (أي المسيح) هو على نحو ما جزء من الإله وشيء مشابه له حسب الزمان والذات.
أما الأمر في الإسلام فإنه يختلف في نقاط معينة . ففيه تكمن هوة لا تتجاوز بين الإله والإنسان . فالإنه هنا خلق الإنسان ليس من ذاته ( أي من ذات الإله ) وليس من مادة ما ، وإنما من عدم سلبي مطلق. فالقرآن يؤكد " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" ( ).
ولقد توجب ، انطلاقاً من واقع الهوة تلك، على الفلاسفة والمتصوفين في إطار الدولة العربية الإسلامية الوسيطة أن يكافحوا من أجل أنسنة العلاقة بين الإله والإنسان بغاية إبراز الإنسان كعنصر فعال ليس فقط في العالم المادي، وإنما أيضا في العالم الآخر، الإلهي . ولهذا السبب بالضبط كانت فلسفة " وحدة الوجود" و" نظرية الفيض" قد احتلتا مكانا بارزاً في الحياة الفكرية للدولة تلك.
إن الارتفاع إلى الإله من قبل الإنسان قد حل ضمن المسيحية حسب كل من الآراء التي طرحت لدى الفرق المسيحية المختلفة . أما في الصوفية الإسلامية – العربية فقد برزت مسألة الارتفاع ذاك في محور ومركز المشكلة، وكذلك أيضاً إلى حد ما في الفلسفة آنذاك.
إن هذا الموقف الفكري النظري للمسيحية والإسلام انتصب بشكل معارض للممارسة لدى الإنسان المسيحي والإنسان المسلم . ففي الممارسة المسيحية تبرز سلبية العلاقة بين الإله السلبي والإنسان المعذب ، أو سلبية الإله والإنسان في آن واحد. إنها غربة تجاه العالم المادي الواقعي . ولكن من الملاحظ أن التأكيد على " الفرد" في المسيحية والإبراز لدور الفرد أكثر من موقف ذاتي تأملي يسهم في عملية اغتراب هذا الفرد تلقاء واقعه الموضوعي الحقيقي . إنها ذاتية سلبية تكمن مهمتها في " تخليص" الإنسان الفرد من " هذا " العالم التعيس الملعون ، أي في إخضاعه وتبييئه مع هذا العالم . لقد كان هذا ولا يزال جانباً جوهرياً من جانب التصور المسيحي حول علاقة الإنسان بالإله.
بيد أننا نلاحظ المسألة مختلفة لدى الإسلام . فالفرد هنا يرى نفسه أمام مهمات كثيرة وعميقة تجاه نفسه هو. و" خلاصة " يتعلق به نفسه إلى حد متميز . إن الخطيئة الأصلية، التي يمكن إزالتها أو التخفيف من تأثيرها ضمن المسيحية من خلال تضحية شخصية ، ولكن سلبية إن هذه الخطيئة تضع أمام الإنسان المسلم وجانب ومهمات دنيوية وملموسة من أجل تجاوزها. وهكذا فليس " العذاب" السلبي هو طريق إلى الخلاص، كما هو الحال في المسيحية، وإنما " الكفاحية " الدنيوية المغلقة بأغلفة دينية هي محتوى الخلاص في الإسلام.
إن " الخلاص" يكتسب ضمن الإسلام مضموناً آخر ، حيث أنه ( أي الإسلام) يؤكد على الإنسان المشخص الاعتيادي . ومن الأمور التي تحتاج إلى التقصي والبحث الدقيقين كون " الإسلام " الذي نشأ في القرن السابع ضمن ظروف حرجة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، قد جسد مرحلة جديدة هامة مراحل عملية تجاوز الأطر الماورائية الموغلة في انغلاقها الماورائي. ففيه لم يتكون جهاز كهنوتي مستقل عن البيئة الاجتماعية السائدة. فالشيخ أو الأمام أو الفقيه لم يكن له وظيفة دينية من حيث هي نشأت كتعبير عن رفض الإله المسيحي المؤتسن والإله اليهودي المحدد الأفق والفاعلية في العالم .
هي (أي تلك الفكرة ) حيث تكونت ، فأنها كانت بذلك تعبيراً عن النشاطية العملية غير المباشرة للمكيين ، الناحية منحى توحيدياً في الحقول الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ولقد أثر في تبلور الوضع " الروحي" الجديد في الجزيرة العربية عاملان أساسيان :
الأول:- هو الضرورة التاريخية الملحة لخلق وحدة اجتماعية – اقتصادي وسياسية في المجتمع، وذلك بالعلاقة مع تعاظم ونمو احتياجات الحركة التجارية المنفتحة على العالم.
أما العامل الثاني: فهو التأثر العميق بمستوى التطور الديني المسيحي واليهودي حتى آنذاك ، مرتبطاً بالمماحكات العنيفة المتشعبة والخصبة بين الوثنيين والدهريين والواحديين .أن " الله" هو أله الجميع. فالتجارة المنفتحة على العالم ، وبالتالي الأفكار الشمولية التي طرحت نفسها على مستوى عالمي كانت قد وجدت في " وحدانية" التصور الديني والعاطفي تبريراً مقبولاً وسهل التفهم من قبل مجموعات من الناس تجمعهم وحدة الهدف والسلوك الاجتماعيين. وباعتبار الإسلام قد عبر في مرحلة نشوئه عن المطامح الحياتية الأولية للعوام والرقيق والمزارعين والصناع الصغار، وذلك من خلال العمل على تحقيق تلك المطامح عن طريق ممارسة التجارة الواسعة وتطوير الحياة الاجتماعية العامة ولم شمل تلك الفئات من السكان في وحدة سياسية محددة، باعتبار ذلك كله نرى أن " الإله" الإسلامي هو إله " المحرومين" الذي يسلط" غضبه" على الظالمين المرابين. والمحرومون أولئك لهم، إلى جانب نتائج كفاحهم في الحياة الدنيوية، الجزاء الكبير في" الجنة" بينما الظالمون هؤلاء سوف يلقون العذاب الأليم في "النار".
وفي الوقت الذي نرى فيه الاتجاه قوياً في الإسلام للتأكيد على إمكانية تحقيق مطامح ومطالب الإنسان المسلم خلال حياته الدنيوية دون شرط" الاتحاد" بالإله، نلاحظ أن هذا" الشرط" وارد في المسيحية، وذلك من خلال اتحاد "الابن" و"الأب" وتكوينهما" الروح القدس".
وبالرغم من أن الإسلام لم يمل إلى طرح " الإله" من خلال تصور قائم على وحدة الوجود pantheism" " فانه لم يرفيه ذاتاً محضة توجد بعيداً عن العالم المادي. أن "علوية " الإله الإسلامي لا تتضمن القول بذات موجودة بعيداً عن ذلك العالم نحو مطلق. بالطبع، نحن نلاحظ أن الإسلام يميل إلى القول بالإله عل نحو بنتيتين: أي انطلاقاً من وحدة الوجود -، ولكن فقط من طرف واحد هو الله. الإنسان. أي أن الله هو الذي يحيط بالإنسان والعالم بينما الإنسان لا يمكنه الاتحاد أو الإحاطة بالله.
ولقد عمل المتصوفة الإسلاميون والفلاسفة النازعون منزع وحدة الوجود لاحقاً على إتمام " الحلقة "، حيث أكدوا على ضرورة " الصعود " من الإنسان إلى الإله و" النزول" من الإله إلى الإنسان . كما أن المعتزلة ركزوا سهام نقدية على تصور " الإله" من خلال رفضهم للـ"جبرية " وللتمييز بين " ذاته " و" صفاته ". أن هذا كله كان ذا أهمية عظمى في تأثيره على عملية تكوين علم نظري وتجريبي في إطار المجتمع العربي الإسلامي الوسيط .لقد نشأت وتطورت الفلسفة هناك في علاقة عضوية مع العلم، ولكن ليس بشكل متوازي .
وعلى وجه العموم اقتصر النشاط العلمي في بدايات التطور الثقافي للمجتمع ذاك على التجارب العملية التطبيقية التي استقت الكثير من ملامحها من الحضارات الهندية والفارسية واليونانية . والحقيقة أن آفاق وأبعاد التطور الفلسفي والعلمي الطبيعي قد تحددت بشكل عام بمقتضيات ومتطلبات التقدم التكنيكي المادي العاصف آنذاك . وبتعبير آخر:أن العلم والفلسفة أمكن لهما النماء والتقدم تحت ظلال ذلك التقدم التكنيكي المادي.
وهذا ما يدعونا إلى تخطيء الرأي القائل بأن « حاجة العرب إلى العلم انبعثت من الدين»( ) .
إذ ليس من الدقة العلمية التاريخية أن نأخذ بالجوانب الخارجية المباشرة من المسألة ، معتقدين أنها هي المؤشر العميق والمحرك لها . أن أخذ الخصائص الداخلية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية لتركيب المجتمع العربي الإسلامي الوسيط بعين الاعتبار يلقي ضوء ساطعاً على مسألتنا، مسألة نشوء وتطور علم وفلسفة في المجتمع المشار إليه آنفاً.
ومن خلال القيام بتحليل دقيق للخصائص تلك تستبين لنا النقاط التالية كعوامل أساسية في تكوين ذلك البناء العلمي الفلسفي:
1- التطور المتلاحق والمكثف لقوى الإنتاج المادية في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط، هذه القوى التي قامت على نظام سقاية متطور تكنيكياً بشكل عال، وعلى تبادل بضائعي واسع الأبعاد ، وأخيراً على حركة تجارية منفتحة على العالم. وقد كنا قد عالجنا هذه المسائل في فصل سابق من هذا الكتاب.
2- إن أحدى خصائص التطور الفكري- العلمي والفلسفي- آنذاك يمكن الكشف عنها في البيئة الإيديولوجية للإسلام نفسه. في مقدمة المسائل المكونة لهذه البنية نجد مسألة « الخلق من عدم مطلق»، و" العلاقة بين الإله والإنسان" و" الحرية والجبرية" و" وعلاقة الصفات بالذات الإلهية ".
هاهنا ينبغي التأكيد على أن الإسلام في بنيته تلك قد تضمن أثارات عميقة لعملية تكون وتطور علم وفلسفة ذات معالم محدودة وواضحة. وقد برزت هذه الاثارات انطلاقاً من الجوانب الاجتماعية والسياسية في الإسلام. هذا يعني أن الأخير لا يمثل دينا فقط ، وإنما أيضاً "رؤية " دنيوية تطرح الأمور في الحياة الاجتماعية على نحو إيجابي.
أن الاتجاه الإسلامي الديمقراطي " الدنيوي" والمعادي للانغلاق الملي وللانعزال الاجتماعي يمكن البحث عنه في " رؤية " الإسلام تلك حول المجتمع الإنساني. وبالطبع، هاهنا يكمن تناقض بين الموقف الاجتماعي العياني المفعم باردة التغير والتحول لصالح الإنسان، وبين الإحساس الديني الذي يلحق ذلك الموقف بقوى خفية غيبية. إن ذلك التناقض يجسد بين الفعل واللافعل . وفي الحقيقة، أن الجوهر الديني القائم على سلخ المتدين من واقعه العياني بإلحاق هذا الواقع بقوى غيبية غير إنسانية، يجد نفسه باستمرار متعارضاً مع الفعل الإنساني الذي يقتضي بالضرورة أخذ ذلك الواقع العياني كما هو، دون أية إضافة خارجية.
إن هذا التعارض والتناقض كان في تاريخ الفكر العربي الإسلامي الوسيط خصباً للغاية. فقد عمل على توضيح معالم الاتجاهين الاجتماعيين الكبيرين ، الإقطاعي والبرجوازي التجاري المبكر. إن الأول من هذين الاتجاهين ألح على تلك " الإضافية الخارجية " بل جعل منها محور الوجود الإنساني ( وسوف نجد أن إلا شاعرة والغزالي قد مثلوا هذا الاتجاه بقوة وعلى نحو طريف ومثير حقا). أما الاتجاه البرجوازي التجاري والديمقراطي المبكر فقد ألح في الخط الأول على الفعل الإنساني الحر وعلى رؤية الوجود بكسب تدخل العنصر الإنساني الواعي( وبالطبع يقف المعتزلة وأبن رشد صفية ممثلي هذا الاتجاه. وذلك من خلال نظرية الخالقين والقول بتعطيل الصفات الإلهية ، لدى المعتزلة ومن خلال نظرية وحدة الوجود المادية والتأكيد على العقل الفعال العالمي المشترك بين جميع الناس على نحو ديمقراطي متساوي لدى أبن رشد).
لاشك أن الإسلام في فترة كفاحه الأولى ضد " الذي جمع ماله وعدده" والذي جعل من الأعداد الكبيرة من الأوثان مصدر ثروة ابتزها من " الفقراء والمساكين" ، إن الإسلام في تلك قد مارس ، بشكل غير مباشر ، بجانبيه، الأول القائم على الإضافية الخارجية، والثانية القائم على الفعل الإنساني المحول، دوراً إيجابياً كبيراً في أضعاف طاقة أصحاب الامتيازات الاقتصادية والروحية على قهر المضطهدين مع مضطهديهم إلى علاقة بينهم وبين"قوة" خفية غيبية تحتضن في يديها العادلتين مصيرهم، كان قد أدى ضمن ذلك الواقع التاريخي ، إلى تقليم أظافر البؤس الاجتماعي والروحي من خلال رفض" شرعية" التملك الاضطهادي لخيرات البلد من قبل هؤلاء المضطهدين . أن إعلان جميع الناس متساوين في الحقوق والواجبات أمام تلك " القوة " مارس في حينه تأثيراً في التخفيف من الضغوط الاجتماعية على المضطهدين وفي طرح قضية العدالة والحرية في المجتمع ضمن غلاف ديني.
وحين يرى بعض المؤرخين الإسلاميين كتاب القرآن ليس فقط كوثيقة دينية، بل كذلك كتراث حقوقي وأخلاقي واقتصادي واجتماعي( ). فإن هذا صحيح إذا أخذنا بعين الاعتبار الجانبين، الروحي والعملي في الإسلام. ولاشك إن الجانب " الروحي" قد أثر آنذاك بشك إيجابي . أما استيعاب هذا التأثير فيكمن في تفهم الوضع الاجتماعي الحضاري في تلك الحقبة التاريخية. أن فكرة أو تصوراً ما من التصورات تكتسب دلالات اجتماعية ونظرية مختلفة باختلاف الحالات التاريخية المتعاقبة. هذا يعني أن المشكلة تتحدد من خلال " المشروعية التاريخية " و" الحقيقية المعرفية ".
وقد تعرضنا لهذه المسألة في موضع آخر من فصول هذا الكتاب . هاهنا يجدر بنا التأكيد فقط على أن الفكر المثالي والفكر المادي، والعلم والدين، ظاهرات مشروعة تاريخياً، وإن لم تكن جميعها صحيحة من وجهة نظر علمية معرفية دقيقة. ولاشك أن العلم والفلسفة قد ربحا الكثير من ذلك الواقع الخصب. وحيث وجد المناخ الاجتماعي والسياسي المجسد للأفاق المستقبل الديمقراطي المبكرة، كان الفكر الفلسفي والعلمي المادي البرطقي يضرب جذور عميق في الحياة الإنسانية.
3- وهناك عامل آخر ساهم بشك جوهري في تكوين وصياغة الإرهاصات الأولى الفلسفة والعلم في المجتمع العربي الوسيط، وهو التأويل لدى الفرق الكلامية. أن تاريخ هذه الحركة يمتزج بقوة وعلى نحو عضوي بنشوء وتطور الاتجاه الفكري الآخذ بـ" العقل" كمنطق وكمحور في طرح المسائل الفكرية والاجتماعية المختلفة.
وفي معرض الحديث حول اتجاه التأويل العقلاني يذكر المرء الممثلين الأوائل له، كما يذكر قمته ممثلة بالمعتزلة.
ولا شك أن " داود ابن المحبر" كان في طليعة الأوائل في هذا الاتجاه . كذلك يمكننا أن نرى في " مالك بن أنس" ممثلاً بمعنى معين لذلك الاتجاه . لقد برز داود بن المحبر من خلال كتاباته حول " العقل" . وهو في كتاباته هذه قد أرتكز على " حديث قدسي" حول العقل رواه ابن تيمية في " بغيته" ومفاده أن « أول ما خلق الله العقل ، فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ، فقال وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم عليا منك فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب والعقاب»( ).
والجدير بالذكر أن داود بن المحبر هذا قد عاش ، كما يخبر ابن تيمية، في بدايات القرن الثالث الهجري( ) ، أي في وقت كان القول بمثل ذلك يؤدي بصاحبه إلى عواقب وخيمة . ونحن هنا لا يهمنا فيما إذا كان ذلك الحديث صحيحاً عن لسان " النبي" أو موضوعاً، إنما الدفاع عنه واتخاذه مرتكزاً كبيراً من قبل ابن المحبر وجماعات أخرى هو الذي يبرز لنا واقع الصراع الفكري الذي دار بين " التسليمية " و " العقلانية " والذي عمل بدوره على بلورة آفاق التقدم الفلسفي والعلمي الحقيقي.
ولاشك أن داود بن المحبر قد حاول في ذالك – ونحن نرى هنا أن ذلك الحديث القدسي موضوع لأنه يتبين وجهة النظر العامة الإسلامية – القيام بتقديم تفسير عقلي في الخط الأول للقرآن . من طرف آخر نلاحظ أن مالك بن أنس قد ركز على وحدة النظر والعمل، أو الكلام والعمل. فهو يؤكد أنه لا يجب " الكلام إلا فيما تحته عمل "( ).أنه استطاع ، في ذلك ، أن يمنح مفهوم الممارسة العملية التجريبية نبضة قوية ، وإن كان قد عمل على كبح التفسير العقلاني الحر الإسلامي الأساسي ، القرآن. أن العلم والفلسفة العقلانية الهرطقية قد اختزنا دائماً الكثير من النتائج الإيجابية من خلال طرح الأمور الفكرية والدينية بشكل مجانب للـ"تسليمية " و"القدرية " و" الإيمانية ".
أما المعتزلة فقد مارسوا تأثيراً عميقاً حقاً على عملية تكون وتطور فلسفة وعلم متميزين في حدود الفكر المادي الفلسفي والإنساني الهرطقي المبكر في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط . لقد كان إبراز موقع الإنسان والتأكيد عليه تلقاء الإله المشكلة الأساسية التي عالجها المعتزلة والتي كونت قاسماً مشتركاً بين مجموع القضايا التي طرحت من قبلهم- ونحن نجد تلك المشكلة الأساسية قد ظهرت لدى المعتزلة من خلال مناقشتهم المسألتين، هما " صفات الذات الإلهية " و" حرية " الإنسان.
لقد كتب الشهر ستاني متعرضاً للمسألة الأولى : « الذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد : القول بأن الله تعالى قديم ، والقدم أخص وصف ذاته . ونفوا الصفات القديمة أصلاً ، فقالوا : هو عالم بذاته ، قادراً بذاته ، حي بذاته، لا يعلم وقدرة وحياة . هي صفات قديمة ، ومعان قائمة به، لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية . واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل....وسموا هذا النمط توحيداً»( ). وقد عبر عن هذا الاتجاه بكثير من الوضوح المعتزلي الكبير أبو الهديل العلاف (130- 226هـ) . فالخياط ، وهو أحد المدافعين عن الفكر المعتزلي ، يخبرنا أن أبا الهديل قال : " أن علم الله هو الله "( ).
ولقد رأى الكثيرون من مؤرخي الفكر في طرح المعتزلة هذا لـ" الصفات" نفياً مستتراً،أو على الأقل أضعافاً " سلبياً " لمفهوم " الإله" الإسلامي . وعلى العكس من ذلك ، أكد رواد الاتجاه الأشعري السني على الفصل بين الصفات والذات الإلهية ، واعتبروا أن التوحيد بين ذينك الطرفين يؤدي إلى تعطيل الإله. لقد« قال أبو الحسن (الأشعري) : الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة،حي بحياة، مريد بإرادة ، متكلم بكلام ، سميع يسمع، بصير يبصر. قال: وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى. لا يقال : هي هو، ولا هي غيره، ولا : لا هو ، ولا: لا غيره»( ).
لقد أدرك الاشاعرة المخاطر التي تنجم عن القول المعتزلي بنفي الصفات الإلهية. وهذا الأمر يبرز على وجه الخصوص بالنسبة إلى صفة " القدم" . فلقد احتلت هذه الصفة مكاناً أساسياً جوهرياً ضمن الصفات الإلهية أو " الأسماء الحسنى" . أن المعتزلة بتعريتهم الذات الإلهية من أي تعيين صفاتي، قد توصلوا إلى مفهوم الجوهر اللازماني و اللامكاني، بل الجوهر الخارج عن نطاق التعيين الوجودي. أن الإمعان والإيغال في السلب الصفاتي للذات أدى إلى تحويلها إلى نقيضها، اللاذات. وقد ألح على هذا الإتجاه اللاهوتي السلبي معمر بن عباد السلمي. فالشهر ستاني في مؤلفة الهام "الملل والنحل" يخبرنا " أنه يحكي (عن معمر بن عباد ) أنه كان ينكر القول بأن الله تعالى قديم وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال: أن الله تعالى محال أن يعلم نفسه. لأنه يؤدي إلى إلا يكون العالم والمعلوم واحداً. ومحال أن يعلم غيره، كما يقال محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود".
ويتابع الشهر ستاني، مؤرخ الفلسفة المثالي ، معلقاً على ذلك القول المعمري فيقول « ولعل هذا النقل فيه خلل. فإن عاقلاً ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير معقول»( ). وفي الوقت الذي طرح فيه المعتزلة قضية " التوحيد" على ذلك النحو السلبي التعطيلي ، فأنهم – ماعدا الصالحي – أكدوا على أن " العدم" يمثل شياء( ).
وقد "غالى (الخياط) في أثبات المعدوم شيئاً وقال: الشيء يعلم ويخبر عنه. والجوهر جوهر في العدم، والعرض عرض في العدم( ). مما لاشك فيه أن ملاحقة هذه المسألة لدى المعتزلة تشكل إحدى مهمات البحث عن الفكر المعتزلي الهرطقي المادي. أن مجموع الأجسام والجواهر والأعراض تتضمن ، حسب ذلك ، شكلين وجوديين ، هما الكموني والعياني. أما الانتقال من الواحد إلى الآخر ، فيتم من خلال تدخل الهي . والوجود الكموني ملتحم بوجود الإله على نحو لا ينفصل.
وبناء على ذلك فأن الإله لا يخلق شيئاً من عدم محض. أن الخياط يحاول في كتابه "الانتصار" عرض هذه المسألة والانتصار لها بالرغم من عدم الإفصاح عن ذلك، وذلك باسم الدفاع عن الجوهر الواحدي، الله( ). أن المفهومين الأرسطيين ، الإمكان والتحقق، قد أثر في صياغة المفهومين المعتزليين الأساسين ، الوجود الكموني والوجود العياني.
لقد كان " النظام" (مات 231هـ) قمة الفكر المعتزلي، وهو الذي أدخل مفهوم " الكمون" لأول مرة في الفكر هذا( ). ومما لاشك فيه أن المعتزلة بمقولتهم حول العدم ، من حيث هو شيء ، قد أصابوا مقتلاً من التصور المثالي الغيبي للإله. عن هذه المقولة تبرز ثلاث نقاط أساسية، هي :
1- رفض المصادرة الإسلامية حول الخلق من عدم محض أطلاقاً.
2- التأكيد على قدم العدم الشيء إلى جانب الإله.
3- الإضعاف من الموجود الأول ، وذلك بأسلوب مستتر وذكي.
أن هذه العملية قد تمت عبر منحيين، الأول إرجاع الفعل الإلهي إلى القيام بمساعدة الانتقال من الوجود الكموني إلى الوجود المتحقق للأشياء. أما المنحى الثاني فقد عبر عن نفسه من خلال السلوب الصفات للإله، بحيث يتحول هذا الأخير إلى مجرد أسم. فهو ، في صفاته الإسلامية كأصل محرك للعالم، يفقد على يد المعتزلة أي تحديد.
ويذهب النظام إلى التأكيد عل مفهوم السببية ومفهوم الضرورة من خلال تأطير الفعل الإلهي ضمن حدود السببية ، حيث يقول« لا يوصف الله بالقدرة على أن يخلق قدرة غير القادر، وحياة غير الحي»( ).القدرة المطلقة غير المحدودة واللاسببية التي يتمتع بها الإله تتخلى في فكر النظام لـ"قدرة" مؤنسنة ، لها حدود ضرورية . أما فكرة الحركة لدى النظام من حيث هي ( أي الحركة) "مبدأ تغيير ما"( ). فقد مارست تأثيراً حاسماً في تحديد تلك النقاط. وهذه الحركة، من حيث هي مبدأ تغيير ما، هي حركة الأجسام، أنها حركتها الذاتية ، المسماة بـ " حركة اعتماد "( ).
وفي الحقيقة ، أن « الأجسام كلها متحركة، حركتان: حركة اعتماد وحركة نقلة. فهي كلها متحركة في الحقيقة وساكنة في اللغة، والحركات هي الكون ، لا غير ذلك»( ). أن النظام الذي لا يرفض ، كيفية المعتزلة، على نحو مباشر مفهوم "الإله" كأصل للعالم ومحرك له، يؤكد تلك الحركة الداخلية للأشياء، حيث يرى " إن الأجسام في حال خلق الله" (لها) متحركة حركة اعتماد( ) . و حال الكمون للأجسام لا تنقصها الحركة عموماً، بل فقط الحركة الظاهرة .وهذه الأخيرة ما هي إلا تعبير عن الحركة المكانية( ). أن النظام لم يبحث في أي وضع كان يوجد في الجسم قبل الخلق، أي في أي وضع كموني وجد فيه. وبمعنى أدق ، أنه لم يصرح فيما أذا كان الجسم موجوداً بشكل عام قبل الخلق. ولكننا إذا استعدنا في ذاكرتنا المقولة المعتزلية عن العدم كشيء قديم قدم الإله نفسه، فأننا سوف نتوصل إلى الاستنتاج الهرطقي المنادي بأن الأجسام الموجودة كأشياء معدمة متحركة بذاتها وليس نتيجة فعل خارجي ، وأن التأثير الإلهي في عملية الخلق يرتد إلى عملية شكلية مرافقة. أن هذا الأمر قد أكد عليه على نحو خاص من قبل بعض المعتزلة ، مثل الخياط ، الذي بأن " الجوهر جوهر في العدم" والعرض في العدم"( ) .
أي إن الشيء موجود في حالة الكمون العدمية قبل إن يكون موجوداً بالتحقق. وهكذا فالأمر يتحدد بالنسبة إلى المعتزلة من خلال طرحه، انطلاقاً من وجود العالم المادي الذاتي، إلى جانب مشاركة إلهية في تحديد ذلك الوجود. وتحول الأشياء من حالتها الإمكانية إلى حالتها المتحققة العيانية هو فعل خاص بهذه الأشياء يعبر عنه بالانتقال من حركة الاعتماد إلى حركة النقلة. هاهنا يتبدى لنا التأثير الأرسطي القائم على مقولتي الإمكان والتحقق واضحاً. كذلك " العدم" كشيء موجود، يفصح عن تأثير بـ" المادي غير المتعبة " القديمة الأفلاطونية وبـ"المادي الأولى الأرسطية " . والجدير بالبحث والشيق في المسألة يكمن في إخضاع هذه القضايا الفلسفية المبدئية الخصوصيات الواقع الحضاري العربي الإسلامي الجديد وفي أغنائها، وبالتالي في تجاوزها لاحقاً من قبل الفلاسفة العرب الإسلاميين تجاوزاً خلاقاً . وفي الوقت الذي نؤكد فيه على أن هذه المسائل الكلامية المعتزلية تشكل مرحلة ما قبل الفلسفة في ذلك الواقع ، فأننا نرى أنه لم يكن للمرحلة الفلسفية المتميزة اللاحقة من غنى عن هذه المرحلة الأولى لكي تحدد ملامحها الجوهرية. بل أننا نميل هنا إلى الرأي بأن الفكر الكلامي ، المثالي منه والمادي ، والعقلاني منه والتسليمي، يشكل حلقة، وأن كانت أولية مبكرة وأحياناً كثيرة غير متميزة وبدائية ، للفكر الفلسفي اللاحق . أي أن التمييز المطلق بين علم الكلام والفلسفة غير دقيق.
أما فيما يخص قضية الحرية الإنسانية ، فقد كون المعتزلة حولها . وجهة نظر ذات أهمية عظمى في تاريخ الفكر الاجتماعي . ووجهة نظرهم هذه اتخذت اتجاها صريحاً في مناوئته للاتجاه القدري التسليمي. وقد مارس المعتزلة في نظريتهم تلك ، وخصوصاً في مرحلة الازدهار الاجتماعي والاقتصادي والعلمي العاصف أثناء حكم الخليفة المأمون، تأثيراً كبيراً في العلمية الإنسانية التنويرية . وفي الحقيقة ، إن تلك النظرية في الحرية الإنسانية تعبير عن التحولات الاجتماعية العميقة التي امتدت في أديم المجتمع آنذاك. أن المعتزلة جميعاً قد« اتفقوا على أن العبد القادر خالق لا فعاله خيرها وشرها»( ).
ويناقش أبو الهذيل العلاف الجبريين قائلاً : « فإذا كان الكافر عندكم غير قادراً على الخروج من الكفر الذي هو فيه فقد صح أنه ليس بمختار ولا فاعل له بل هو مضطر إليه مجبر عليه، لأن القادر على الفعل هو القادر على تركه. فإذا صحت القدرة على أمر من الأمور صحت على تركه، وإذا انتفعت عن تركه انتفعت عنه»( ).أن المعتزلة في طرحهم مسألة الفعل الإنساني الحر على هذا النحو الإنساني قد أثاروا جانباً أساسياً ثورياً من جوانب قضية الحرية: الإنسان بخيره وشره، بحبه وحقده، بعدالته واضطهاده هو المسؤول عن نفسه.
أنه هو جذر المشكلة وهو المؤهل لحلها. أن هذا الموقف الإنساني قد تكون في أحشاء التقدم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والسياسي آنذاك. ولقد كافح الاشاعرة ضد المعتزلة في مسألة " الحرية الإنسانية " هذه، كما في مسألة "الصفات" التي تكلمنا حولها سابقا. وهذا، ولا شك، موقف طبيعي منهم. فلقد قال هؤلاء باللاحرية الإنسانية، من طرف، وبالقدرة الإلهية المطلقة من طرف آخر، أما بالنسبة إلى القضية الأخرى، فقد أكدوا على الصفات للذات الإلهية تأكيداً تبرز فيه " التسليمية" و" الإيمانية " على نح كامل لدى الكثير منهم.
في الحقيقة أنه من الصعب إلقاء ضوء كشاف على الوضع الفكري في المجتمع العربي الإسلامي الوليد بمعزل عن البحث الدقيق في المسائل التي طرحتها المعتزلة، والتي هي، كما جاء في"كتاب الانتصا" للخياط، التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمهم في الأمر هنا يتركز في المسألتين الأوليتين. ولقد توصل المعتزلة في مناقشتهم لهما، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى نفي" الصفات" عن الذات الإلهية وتحويل هذه الذات إلى جوهر في ذاته. ولذاته كما توصلوا- وهذا بالعلاقة مع المسألة الأولى- إلى نفي الفعل والفعالية عنه، حيث يصبح الإنسان نفسه القابض على مصيره إن العصر المأموني ، الذي تميز باحتوائه بوادر جدية مبكرة للتطور الصناعي البورجوازي، كان العصر المعتزلي. والتأكيد العميق على العنصر الإنساني كان يتضمن بشكل أولي إمكانية الانفتاح على واقع الحرية والمساواة بالمعنى البورجوازي المبكر المناهض للهيكل الهرمي الطبقي الإقطاعي.
أن الترتيب الديني الممتد من الذات الإلهية حتى الإنسان " العادي "مروراً" فعالاً في مجابهة أرباب السلطة المالية والاجتماعية والدينية في المراحل الأولى من الإسلام، تحول على أيدي المتنفذين الإقطاعيين لاحقاً إلى أداة تبرير لكونها "الأوصياء" والقيمتين على المجتمع. في إطار هذا الوضع الجديد المتميز، وبالعلاقة مع تكوين البوادر المبكرة للمجتمع الصناعي البورجوازي الذي يؤكد على الفعالية الفردية الحرة، طرح المعتزلة فكرة الحرية والمسؤولية في الفعل الإنساني. أن علي سامي النشار، المدافع عن الأشعرية بحرارة ، يرى بحق بأن المعتزلة قد مضوا « في جراة وقوة نادرتين يعلنون أن قدرة الله وإرادته لا تؤثر على قدرة العبد وإرادته، لأن من المحال اجتماع مؤثرين على أثر واحد، لو أراداه معاً. أن الشيء المراد يتحقق إذا ما وجدت دواعيه»( ).
وبالطبع، أن الوجهة اللاجدلية العامة لآراء المعتزلة في "الحرية والمسؤولية" لا تدعو إطلاقا إلى الإقلال من قيمتها. بل أن هذه الآراء – منظوراً إليها في إطارها التاريخي- مارست دوراً عملاقاً في طرح قضية الإنسان من وجهة نظر هرطقية مادية. وبما أن المعتزلة قد قالوا يكون الإنسان الخالق الفعال لأفعاله الخيرة والشريرة، فقد جوبهوا بعنف من قبل النصيين الاشاعرة وغيرهم. فالاشاعرة ردوا على " الحرية" المعتزلية بتعليمهم حول "الكسب" الذي لم يخرجهم من نطاق القول بـ"القدرة والعناية" الإلهيتين المطلقتين.
أن الميل المعتزلي، ولا أقول الاتجاه الواضح والواعي على نحو متميز، لتجاوز العنصر الغيبي الغريب عن الإنسان ولا براز العالم المادي الموضوعي في حركته الذاتية وقدمه، قد خلق أساساً عميق الجذور من أجل تكون وتبلور علم وفلسفة متطورين في العالم العربي- الإسلامي الوسيط. إن ذلك الميل قد فتح باب الفكر العقلاني الحر على مصراعيه. وطرح العقل Ratio كمعيار وحيد وجوهري للبت في الأمور الإنسانية قد وقف في تعارض حقيقي وجدي مع الآراء التسليمية والغيبية آنذاك ، كما عمل على توجيه الاهتمام بالبحث العلمي المنطقي المستقل. أن تأثير المعتزلة في تكوين وتبلور علم وفلسفة في العصر ذاك لم ينطلق فقط من الآراء الهرطقية والناحية منحى مادياً التي طرحوها، وإنما أيضاً من المنهجية العقلانية التي صاغوها بالعلاقة مع تلك الآراء. فطريقة البحث الفكري العلمي عموماً، وطريقة الحكم على الأمور والمواقف اليومية تنطلقان من جذر واحد جوهري، هو العقل : أن المعتزلة قد« اتفقوا على أن أصول المعرفة، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السمع. والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل " خطوط التشديد مني، ط.ت"»( ).
وبرأي عمر فروخ إنهم، أي المعتزلة ، قد بالغوا في التأكيد على العقل « حتى قالوا" إذا تعارض العقل والنقل فاتبع العقل»( ). والحقيقة، إنهم وضعوا خطاً فاصلاً بين العقل(المعرفة العقلية) وبين السمع (الإيمان) . لقد أخضعوا القرآن لتفسير عقلي متميز جلب معه نتائج مخالفة له في نقاط أساسية. لقد قال الحسن البصري، وهو أستاذ للشخصية المعتزلة الكبيرة واصل بن عطاء: " ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها"( ).
ولقد أوغل المعتزلة في إبراز العقل الإنساني والقدرة الإنسانية ، بحيث جعلوا منهما مثيلين للقدرة الإلهية. وهذا ملمح أساسي من ملامح الفكر التنويري الإنساني والبنتيئي ( القائم على وحدة الوجود المادية) اللاحق. أن أبا الحسن الأشعري يخبرنا أن الفرق الإسلامية اختلفت
« في قدرة الإنسان على ما علم الله أنه لا يكون. فأجازات " المعتزلة" ذلك. أنكره " أهل الإثبات»( ). هذا هو أحد جوانب الخط الواضح والأساسي الذي يفصل ذينك الاتجاهين، اللذين يشير إليهما الاشعري نفسه.
إن هذا العنفوان والتحدي التنويري الإنساني بطبع الفكر المعتزلي بميمية بقوة، ويؤثر على الاتجاه الإنساني التنويري اللاحق. ونحن نرجع هنا تأثير الشاعر الألماني الكبيرGoethe الذي تعرف كثيراً أو قليلاً على القرآن وبعض جوانب الأدب العربي، بالاتجاه المعتزلي الإنساني الناحي منحى بنتيئياً، حين يخاطب الإله في ملحمته الشهيرةFaust " أنني أنا، قاوست، أنني ندك"( ). بالطبع، أننا حين نشير إلى أن النظام الفكري المعتزلي محاط بغلاف تأمل Contemplative( ). فأننا لا نرى في ذلك نقطة جوهرية يخضع لها هذا النظام. ذلك لأن المعتزلة لم يكونوا، في أكثريتهم، مفكرين فقط ، وإنما أيضاً سياسيين وعلماء طبيعيين. وشخصية الجاحظ المعتزلي الكبير( مات عام 860) تقدم لنا، من خلال كتابه " الحيوان"، مثالاً بارزاً على ما نزعمه هنا.
لقد تحولت الأيديولوجية المعتزلية إلى أيديولوجية الدولة، والمجتمع إلى حد كبير، أثناء حكم الخليفة العباسي المعتزلي المأمون(حكم من 813حتى 833)، أي في فترة زمنية اكتسبت فيه عملية الترجمة والنقل عن اللغات الأجنبية العريقة أبعاداً وآفاق واسعة أفقياً وعمودياً. والأيديولوجية تلك، التي تطورت وتبلورت تحت تأثير الحركة الحضارية العامة آنذاك، ساهمت بدورها في إكساب هذه الحركة طابعاً هرطقياً إنسانيا وذا منحى مادي مبكر، كما ساهمت بالتالي في إفساح الطريق لتكون علم طبيعي وفكر نظري فلسفي مستقلين عن الدين. وهي لذلك المهد العميق المباشر لهذا الفكر وذاك العلم.
أما العامل الآخر الذي مارس دوراً في عملية تكون وتبلور فلسفة وعلم طبيعي في العصر العربي الإسلامي الوسيط فهو التلاقح والتمازج مع الحضارات الإنسانية المتقدمة، واليونانية منها على نحو خاص. إن الترجمة والنقد للتراث الفكري قد سهل، في خلال ذلك تلك العملية. وعلينا أن لا نقرر هنا بشكل عام أن العلم والفلسفة الينانيين قد مثل عوناً كبيراً بإثارتهما سلسلة تنقطع من الاستفزازات المماحكات والمنقشات بين الأطراف المختلفة من ممثلي الثقافة آن ذاك والجدير بالملاحظة هو أن أعمال أرسطو قد لقيت انتشارا في الأوساط الفكرية المتباينة، والهرطقية المناهضة للنصية والتسليمية منها على وجه الخصوص. لقد جوبه أرسطو بشكل عام بأفلاطون من قبل أولئك الآخرين، كما جوبه أفلاطون بأرسطو من قبل العقلانيين الهرطقيين الناحين منحى مادياً.
وبما أن أرسطو قد دخل الواقع الفكري آنذاك ممزوجاً بجانب أفلاطونية وأفلاطونية حديثة، فقد توجب على ممثلي الاتجاه التقدمي ضمن ذلك الواقع أن يفرزوا، خلال ممارستهم الفكرية، تلك الجوانب عن أرسطو الحقيقي.
أن بن سيناء وأبن رشد قد عملوا بجد في سبيل تعرية أرسطو من الظلال الأفلاطونية والأفلاطوني الحديثة المثالية، وتقديمه بصورة أكثر مادية وهرطقية مما كان عليه هو أصلاً.
وقد كانت مواقف الطبقات الاجتماعي من العالم الطبقي والاجتماعي من وراء عملية استعادة أرسطو على نحو يتآخى مع مقتضيات وجودها التاريخي .
أن الفلسفة اليونانية القديمة لم تحتفظ في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط بعناصرها الأساسية فقط . أنها قد طورت أيضاً بشكل يدعوا إلى الدهشة من قبل فلاسفة ذلك المجتمع.
فاستبقاء التراث الفلسفي والعلمي اليوناني لدى المفكرين العرب الإسلاميين لم يكن تحنيطاً لهؤلاء المفكرين ، بل كان تجاوزاً لهذا التراث وإكسابه مضامين أكثر عمقاً واقتراباً من وضع حلول للمشكلات الفكرية والاجتماعية التي طرحت نفسها آنذاك. والذي حدث هو أن مجموع الأطراف الكلامية في العهود الأولى للمجتمع العربي الإسلامي الجديد احتاجت كثيراً أو قليلاً الثقافات التي أنجزتها الشعوب الأخرى . وقد قام السريان ينتقل التراث الفكري اليوناني إلى اللغة السريانية، ثم نقل هذا إلى العربية. أن "منطق" أرسطو قد كان محط أنظار المعتزلة والاشاعرة على حد سواء . إلا أن احتياجات الواحد من هذين الفريقين للـ"منطق" ذاك كانت تختلف بالنسبة إلى احتياجات الآخر انطلاقاً من عاملين أساسيين:
1- الموقف الطبقي الاجتماعي لكل من هذين الفريقين ومقتضيات هذا الموقف السياسية والاجتماعية والأخلاقية .
2- الموقف من القضايا التي طرحها الإسلام في الحقول الفلسفية الدينية والحقوقية الإنسانية .
أن طاليس وديموقريطس وأقليدس وبطليموس وأرسطو وأفلاطون وسقراط.... كانوا قد حولوا بأنظمتهم الفلسفية إلى موضوع شامل للحوار والمناقشة والبحث لدى مثقفي المجتمع العربي الإسلامي الوسيط( ). والمؤلفات الفلسفية لأولئك المثقفين تقدم لنا أعمق المناقشات وأكثرها إخصابا وإغناء للفكر الإنساني في العصور الوسيطة.
وبالطبع لم تتم عملية الترجمة والنقل عن الثقافة اليونانية القديمة فقط . وإنما اكتسبت طابعاً موسوعياً "عالمياً" احتوى الثقافات الهندية والفارسية والصينية والسريانية. وهذه الثقافات انعكست بإشكال وحدود مختلفة في بنية الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة. ولكن هذا لم يعمل على فقدان شخصية الثقافة تلك، بقدر ما عمل على تعميق ملامحها وتحديدها على نحو أكثر أصالة.
أننا في الوقت الذي نرى فيه أن الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة والفلسفة والعلوم الطبيعية منها خصوصاً، قد تكونت إلى حد كبير تحت تأثير الثقافات الأجنبية فأنها ظلت محتفظة بكونها ثقافة المجتمع العربي الإسلامي الوسيط إنها لم تكن هجينة، كما يؤكد البعض من المثقفين العرب المعاصرين. ذلك لأن التأثر بعوامل أجنبية لا يعني أطلاقاً الوقوع في واقع "هجين"، إذا أستطاع ممثلو هذه الثقافة استيعاب هذه المسألة بعمق.
أن واصل بن عطاء والنظام والجاحظ والكندي والفارابي وبن سيناء والحلاج وأبا العلاء المعري وأبن طفيل وأبن رشد وأبن خلدون هم جزء جوهري من تراثنا الثقافي.
وهؤلاء لم يكونوا أبداً نسخة عن الثقافة اليونانية أو الهندية أو الفارسية بل هم بالضبط مفكرو المجتمع العربي الإسلامي الوسيط.
بدايات الفكر العربي الفلسفي
العربي – الإسلامي
أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، وتبلور بدايات الفلسفة العربية الإسلامية
منذ المرحلة الأموية للمجتمع العربي – الإسلامي الوسيط بدأت عملية النقل من اللغة اليونانية إلى العربية فنحن نستطيع ملاحقة هذه العملية في شخص خالد بن يزيد(مات 704) وفي العهد الذي حكم فيه الخليفة عمر بن عبد العزيز(717- 719). بيد أنها ( أي عملية النقل تلك ) اكتسب وثائر سريعة وشاملة مع ترسيخ المرحلة العباسية من تاريخ المجتمع العربي – الإسلامي الوسيط . ولقد تحولت تلك العملية في المرحلة العباسية من إطار العمل الفردي الضيق إلى إطار العمل المتخصص المتبني من قبل الدولة نفسها. أن ذلك الواقع يبرز الأهمية الكبيرة التي منحت للعمل الفكري والعلمي في إطار الدولة والمجتمع آنذاك.
وحركة النقل تلك لا تهمنا هنا إلا باعتبارها مفتاح التمازج الثقافي الحضاري العميق الذي تم بين الثقافة اليونانية القديمة و الأخرى العربية – الإسلامية بيد انه من الضحالة الفكرية أن نقول بأن ذلك "التمازج" هو الذي كون الفكر العربي – الإسلامي ذلك لأن هذا الفكر لم يجد مصادر تكونه وتطوره بالدرجة الأولى في الثقافات الأجنبية ، وأن كانت هذه الأخيرة قد قدمت نبضات حيه له وأمدته بـ" عبارة" واقية يمر عليها متجهاً إلى أهدافه.
أما مصادره العميقة فكانت في بنيان المجتمع العربي- الإسلامي نفسه، أي في ذلك التوزع الاجتماعي الطبقي(الرقيقي والإقطاعي والبورجوازي المبكر)وفي البنيات الفكرية التي كانت استجابة واعية كثيراً أو قليلاً له (للتوزع ذاك) . أن هذه المسألة على تعقيدها ، سوف نجدها تطرح نفسها بحدة حين يطرح السؤال: لماذا مارس أرسطو وأفلاطون تأثيراً متبايناً على مفكري العصر العربي- الإسلامي ذاك، بل أكثر من ذلك، لماذا فهم أرسطو على أنحاء مختلفة من قبل المفكرين أولئك؟
لقد عرف العرب- المسلمون أعمال أفلاطون وأرسطو من خلال هذه الأعمال نفسها التي ترجمت إلى العربية، وكذلك من خلال أعمال الفيلسوف الاسكندراني أفلوطين
( 204- 269)، الممثل الرئيسي للأفلاطونية الحديثة( ). لكن خلال ذلك نشأ التباس تاريخي ذو دلالة كبيرة ساهم في خلق مشكلات وتعقدات ضخمة في وجه التقدم الفلسفي آنذاك.
وقد كان من وراء هذا الالتباس ترجمة الكتب الثلاثة الأخيرة من مؤلف أفلوطين المسمى
بـ" التاسوعات Enneaden "،التي ترجمت إلى اللغة العربية تحت عنوان« ثيولوجيا أرسططاليس». ولقد أنجز ترجمته عبد المسيح بن عبد الله نعيمة الحمصي( حوالي 835). وهنالك البعض من الباحثين( ). الذي يرى بأن "التاسوعات" قد صححت ترجمتها من قبل الفيلسوف الكندي، الذي عاش حوالي 185- 252 هجرية. ولكن شيئاً جديراً بالملاحظة يظهر لدى الكندي، كما يلاحظ ذلك أبو ريده الذي أشرف على إصدار "رسائل الكندي الفلسفية"، وهو أن الكندي في رسالته حول "عدد كتب أرسططاليس" لا يشير أبداً إلى تلك الثيولوجيا "الأرسطية". وهذا الواقع يمنحنا الحق، كما يرى أبو ريده، لنقد الرأي القائل بأن العرب المفكرين قد استسلموا في فترتهم الفكرية المبكرة لمؤلفات فلسفية إدعي إنها من تأليف أرسطو في مرحلة نموه الأولى أو نضجه( ).
لقد عرفت في المراحل الأولى لنشوء الفلسفة العربية- الإسلامية تقريباً كل مؤلفات أرسطو الأساسية. والرسالة المثار إليها فوق للكندي حول " عدد كتب أرسطو طاليس" تقدم لنا مثالاً بارزاً على ذلك ووثيقة تاريخية دقيقة. في هذه الرسالة يشهد الباحث إلى أي حد عميق توصلت المعرفة آنذاك بمؤلفات أرسطو. والكندي لا يقدم لنا تلك الوثيقة كمؤرخ للفلسفة بالدرجة الأولى، وإنما كفيلسوف عمل على أقامة مذهب فلسفي مثالي. إن الكتب الأرسطية" ما بعد الطبيعة" و "في النفر" أو "في السماء" و"الكون والفساد" وكتابات أخرى أخلاقية ومنطقة وحيوانية- خاصة بعلم الحيوان – لم ينشر إليها فقط في تلك الرسالة، وإنما قدمت تقديماً فلسفياً يعرف القارئ بمحتواها الأساسي( ).
خلال ذلك نجد الكندي يبذل جهداً ملحوظاً لفرز الأعمال الأرسطية عن مثيلاتها الأفلاطونية، على وجه الخصوص. أما عن الأعمال الأفلاطونية، فإن ابن النديم يخبرنا في "فهرسته"( ).بأن حنين أبن أسحاق(810- 877) قد شرح كتاب "السياسة" لأفلاطون، وبأنه قد رأى كتاب "المناسبات" منسوخاً بخط يد يحيى أبن عدي. عدا ذلك عرف من أعمال أفلاطون "أيولوجيا" و"طيماوس" و" غورغياس" و"مينون" و"بروتاغورأس" ( ). لقد تكون نتيجة نقل التراث الفلسفي اليوناني إلى اللغة العربية، اللغة الرسمية للمجتمع العربي الإسلامي الواسع بشعوبه ولغاته، وضع فكري فذ من حيث التمازج العميق بين هذا التراث وثقافة المجتمع الجديد.
ولكن هذا الوضع حمل في أثنائه في نفس الوقت ظاهرة سلبية، هي التداخل في المواقف الفكرية، وبالتالي عدم التميز والوضوح فيها. والطبع لم تكن ثقافة المجتمع الجديد ذاك نتاج عملية النقل والتمازج تلك فقط، بل أن الإسلام كون الترسانة الواسعة لمجموعة ضخمة من المشكلات الفكرية والدينية والاجتماعية التي عملت، بفعل عامل التأويل واستخدامه حتى الحد الأقصى من قبل الأطراف الفكرية المتنازعة، على تقديم وقود لنزاع تلك الأطراف.
ومما له أهمية في عملية الكشف عن مضامين هذه النزاعات في المراحل الأولى واللاحقة من المجتمع العربي الإسلامي الوسيط، أن يأخذ الباحث بعين الاعتبار العميق العملية المعقدة والمتشبعة التي كمنت في محاولة تقنية أرسطو من العناصر التي دخلت أعماله، إن كان من مصدر أفلاطوني أو أفلاطوني حديث(أفلوطيني) وبالتالي في إبراز الجوانب المادية الهرطقية في أفكاره والتأكيد عليها. والاهتمام هذا بفكر أرسطو ومحاولة فرزه عن الأفكار المثالية اللاهوتية لم ينبع من النمو الذاتي الخاص لدى مفكري المجتمع ذاك فقط، وإنما أيضاً، وبالعلاقة الوثيقة مع ذلك، من الوضع الاجتماعي التاريخي العياني. لقد كان ازدهار وتطور اقتصاد زراعي وبضائعي واسع، ومن خلال تعاظم الحركة التجارية، المحرك والدوافع غير المباشر لتكون وتطور علم طبيعي وفلسفة آخذة بمنحى مادي هرطقي.
بالطبع، من الضروري في هذا الإطار من المسألة الإشارة إلى أن الازدهار والتطور الزراعي والبضائعي والتجاري ذلك كان قد تم في ضلال الملامح التطورية البورجوازية المبكرة . أن كلا الطرفين، العلم الطبيعي الواقع الاجتماعي الاقتصادي، قد أثر على بعضهما على نحو متبادل. والجدير بالذكر أن الحاجات التكنيكية لذلك الواقع الاقتصادي الاجتماعي قد أسهمت في حدود بعيدة في تحريك التقدم العلمي الطبيعي . ونحن لا نحتاج الآن إلى تقديم ثبت كامل بالمكتسبات العلمية التي تحققت آنذاك في حقول الكيمياء والفلك والميكانيك(الحيل)...الخ فالكثير من هذه المكتسبات أصبح من المعلومات المعروفة لدى الكثيرين من العلماء( ).
أن هذا التطور العلمي الفلسفي قد لقي على نحو غير مباشر دعماً أولياً من الأوساط الدينية الإسلامية المتحررة. في ذلك الوضع لم يستطيع أفلاطون إلا أن يمارس تأثيراً سلبياً، وخصوصاً من خلال نظريته في المعرفة من حيث هي "تذكر". على العكس من ذلك نجد أن أرسطو- وبحدود معينة أفلوطين- قد مارس التأثير الإيجابي الأكبر، ضمن المؤثرات الأجنبية، على عملية التقدم العلمي الطبيعي. وقد أبرزMunk ( ). في هذا المجال واقع أن العرب قد فضلوا أرسطو على أفلاطون، وذلك بسبب منهجية التجريبي الذي لبى مطالبهم الأولية في البحث العلمي، والذي عارضوه بالتصورات المثالية الخيالية الأفلاطونية. لقد أخذ عملية استخدام الفكر الأرسطي الهرطقي المادي تكتسب أبعادها وآفاقها منذ بدايات الفكر المعتزلي وبعد ذلك. وهذا ظهر خصوصية في الاتجاه الذي سلكه أبو الهذيل العلاف والنظام، المفكران المعتزليان الكبيران اللذان عاصرا الكندي. فلم يحول« منطق أرسطو» فقط، وإنما أيضاً كتابه الأساسي "ما بعد الطبيعة" إلى سلاح فكري في أيدي المفكرين العديدين في المعركة ضد الاتجاهات الفكرية التسليمية النصية. وقد استنفذت في خلال ذلك الأفكار الأفلاطونية من قبل المتكلمين السنيين، كما من قبل بعض الفلاسفة الذين تأثروا بشكل واسع بالآراء الإسلامية حول "الوجود" .
أن التعاليم المتمسكة بالنصوص القرآنية والسنية- مع بعض الاجتهادات الفرعية في هذا المجال – التي أتى بها أصحاب المذاهب الاربعة أبو حنيفة(700- 767)، ومالك بن أنس (713- 795)، ومحمد بن أدريس الشافعي (767- 820)، وأبن حنبل (780- 855)، وكذلك التعاليم الكلامية المتميزة، وفي طليعتها القدرية والأشعرية، إن هذه جميعاً قد كونت وتبلورت وتطورت في إطار التصورات الإسلامية حول الوجود والإنسان. وممثلو هذه التعاليم الدينية الفقهية والميتافيزيقية استخدموا المنطق الأرسطي، أو بشكل أدق، أنهم أرغموا من قبل الأطراف المعادية. "المعتزلية" على نفس تعاطي الأمور المنطقية لتقوية مواقعهم وللرد على تلك الأطراف.
وقد ركز ممثلو تلك التعاليم الميتافيزيقية النصية مقاومتهم على جانبين أساسيين من جوانب الفكر الارسطي الهرطقي والذي يتسم بملامح هادية. هذان الجانبان هما نظرية أرسطو حول "المادة"، وتصوره حول "المحرك الأول" فف الأول وجد أولئك النصيون خطراً على "التوحيد" الإلهي ذلك لأن "المادة" الأرسطية قديمة قدم الإله، المحرك الذي لا يتحرك. وقدمها يؤدي إلى القول بـ"خالقين"، كما أدى أيضاً قول المعتزلة بحرية الإنسان إلى نظرية "الخالقين". وكلاهم، النظرية الأرسطية والأخرى المعتزلة، رفضتا وكوفحتا من قبل الاتجاهات السنية النصية.
كذلك رفضت هذه الأخيرة التصور الأرسطي حول "المحرك الذي لا يتحرك" لأنها رأت فيه خطراً على الرأي السني في الإله، القادر في كل زمان ومكان على التدخل في أمور العالم المادي والعناية به. أي أن "العناية" و"القدرة المطلقة" على التدخل في كليات وجزئيات العالم المادي تنتفيان من خلال الأخذ بـ"المحرك الذي لا يتحرك". لقد كانت تلك المسألتان الأرسطيتان محور كفاح احتدم بعنف بين الأطراف الفكرية المتباينة . إن ما نعنية بذلك هو أن هذه الأطراف وجدت في تلك المسألتين مادة شيقة ومثيرة للغاية لتدعيم مواقعها الفكرية والسياسية إما معهما، أو ضدهما.
وهنالك عامل عقد الواقع ذاك ومنحه الكثير من التشعبات والتفرعات، وهو ترجمة "ثيولوجيا" أفلوطين أي "تاسوعاته" باسم أرسطو. لقد كان هذا كسباً للفلسفة المثالية وللدين بالدرجة الأولى. إذ عن طريق ذلك استطيع إزالة أو بالحد الأدنى، تخفيف الخلافات الأساسية بين أرسطو وأفلاطون وأفلوطين. ولكن بالرغم من ذلك هنالك محاولات نجدها لدى بعض المفكرين العرب قامت على التدقيق في حقيقة كتاب "أثولوجيا".
فنحن نواجه إحدى تلك المحاولات لدى الكندي في رسالته التي آتينا على ذكرها سابقاً والخاصة بتعداد كتب أرسطو وعرضها على نحو عام. هاهنا يغفل الكندي الإشارة إلى "أثولوجيا" نهائياً. كذلك الفارابي في كتابه "كتاب الجمع بين الحكيمين" يقر بوجود خلاف بين أرسطو وأفلاطون، ولكنه يحاول حل هذا الخلاف "المصطنع"، بحسب رأيه، على نحو مصطنع. أما ابن سينا فقد تكلم بوضوح عما "في أثولوجيا من المطمن"( ).
ولكن الأبحاث العامة في مجموع ما قدمه لنا المفكرون الإسلاميون العرب ترينا بأن هؤلاء المفكرين جميعاً لم يستطيعوا إيجاد وضوحا متكامل حول تلك المسألة. وهذا ما ساهم، على نحو غير مباشر، في تعقيد الموقف الفكري الفلسفي آنذاك، بحيث ظلت المواقف الفلسفية المادية الهرطقية "اثولوجيا" كان أحد الأسباب في عدم اكتساب مواقف فكرية حازمة ومتميزة بالحدود الدقيقة. والباحث لا يسعه إلا أن يأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار ، إذا أراد استجلاء مواقع الضعف أو التردد أو الانتقالية أو عدم الوضوح لدى بعض المفكرين العرب الإسلاميين الذين نحوا منحى مادياً هرطقياً. ولاشك أن هنالك أسباباً أخرى عملت على تكوين ذلك الوضع، منها محاولات الفكر الإقطاعي التبريري المثالي استيعاب وامتصاص الإرهاصات الفكرية المادية الهرطقية، وبالتالي محاولات ذلك الفن الإقطاعي قمع هذه الإرهاصات في المهد . كذلك من أسباب تعقيد ذك الوضع عدم النمو الشامل والعميق للاتجاه البورجوازي الصناعي المبكر، الذي حمل في أحشائه مواقع التقدم الفلسفي المادي الهرطقي والعلمي الطبيعي، كما أن الصعوبات الذاتية المعرفية كانت، من حيث هي تعبير حقيقي عن عملية نمو حقيقية في الفكر العربي الإسلامي ذاك، أحد الأسباب في عدم الوضوح والتميز الدقيقين في هذا الفكر. ذلك لأن هذا الأخير حلقة من حلقات تاريخ الفكر الإنساني العام.
ونحن إن أردنا استجلاء المؤثرات الأساسية العميقة التي ساهمت في تكوين وبلورة وجهات نظر الفلاسفة الإسلاميين العرب حول "العالم المادي" أو"المادة"، فأننا نجد أمامنا التأثير الأرسطي والأفلاطوني والأفلوطيني. ولا شك أن الإسلام، في جانبه الديني الغيبي- الميتافيزيقي – قد مارس تأثيراً واضحاً في وجهات نظر بعض أولئك الفلاسفة. ولكن من الضروري التأكد على نقطتين نرى إنهما أساسيتان في إطار مسألتنا هذه:
1- إن الفكر الفلسفي المثالي في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط قد تكون تحت تأثيرات أفلاطونية وإسلامية، كذلك الجوانب المثالية في المنظومة الفلسفية لأرسطو وأفلوطين وفلاسفة آخرين أسهمت في تكوين ذلك بشكل خاص.
2- أن الإسلام شكل الإطار الفكري العام، الذي أنطلق منه أيضاً الفلاسفة الذين نحوا منحى مادياً مبكراً. هذا يعني أن هؤلاء الفلاسفة في الوقت الذي انطلقوا فيه، كالفلاسفة المثاليين، من ذلك الإطار الديني العام ، نجدهم، في النتائج التي توصلوا إليها، يتجاوزون هذا الإطار بقوة وإصرار.
إنهم في الوقت الذي أدركوا فيه حدود منطلقهم، ركبوا موجة ذلك الإطار بذكاء وحذر لم ينجيانهم في حالات معينة من الاضطهاد والملاحقة والنفي. أن هذا الأمر يمكن ملاحظته بدءاً من المفكرين المعتزليين ومروراً بالفارابي وابن سينا وابن ماجه وابن طفيل وآخرين، وانتهاءً بابن رشد.
أن هذا يبرز حقيقة أخرى، وهي أن الفلسفة العربية الإسلامية الوسيطة بممثليها الماديين الهراطقة لم تقم،كما يدعي الكثيرون من الباحثين العرب والمستشرقين الأجانب، على أساس التوفيق بين الفلسفة والذين، بقدر م أكد من خلال الصبغة تلك (التوفيق بين الشريعة والحكمة، أو العقل والنقل) على شرعية وجود الحكمة والعقل في عالم كان فيه الفكر النقلي النصي والمجابه للفكر العقلاني المتحرر يشكل اللحمة العامة لبنية الجماهير الثقافية. أن الفكر العقلاني هذا لم يطرح تلك الصيغة إلا لكي ينفذ إلى التأكيد على وجوده الشرعي. بل أن الأمر قد تعدى هذا النطاق لدى بعض ممثلي ذلك الفكر، مثل ابن طفيل وابن ماجه وابن رشد ، حيث رأي هؤلاء أن القول الفصل للحكمة وللعقل، إذا تناقض هذان مع العقل والشريعة، وقد كان هذا ولاشك محاولة كبيرة لجر الشريعة إلى الحكمة، وليس العكس، كما حدث لاحقاً على يد الفيلسوف اللاهوتي المسيحي توما الاكويني.
أن الكندي قد ظل يتحرك على أرضية دينية في رؤيته للمشكلات الوجودية الأساسية، ومن ضمن ذلك مشكلة "الوجود المادي". فهو احتفظ بالمصادرة الإسلامية حول "الخلق" من عدم مطلق ولكنه أكسبها تبريراً فلسفياً جديراً بالبحث المعمق، لأنه هنا وجد نفسه محاطاً بدوامة من المسائل التي ينتفي تجاوزها على نحو منطقي ضمن الدائرة التي تنطلق منها تلك المصادر . وهذا يفسر لنا وجود ميل أولي لدى الكندي للأخذ بالتعلليم الفيضي كحل لتلك المشكلة، مشكلة الخلق من عدم، أما الفارابي فيمثل محاولة شيقة وهامة على طريق إزاحة تلك المصادرة. لقد أخذ بالتعليم الفيضي الأفلوطيني، بعد أن أدخل عليه تعديلاً عميقاً أكسبه طابعاً متميزاً بإطار الفكر العربي الإسلامي الوسيط. وفي نفس الوقت طرح الفارابي قضية "العالم الواحد" رافضاً بذلك، على نحو غير مباشر وبقليل أو كثير من الوضوح، القول :-
1- إثنينية العالم
2- بوجود عالم مفارق، عالم إلهي علوي، وعالم عياني حي.
أن بداية الفكر الفلسفي المتميز لدى الكندي في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط كانت محاولة التأطير الدين بإطار فلسفي. ولكنها منذ بداية تكونها، واجهت مشكلات ذاتية لم يكن لها أن تتجاوزها بأدوات نابعة من الإطار الديني الفلسفي. أن التعليم الفيضي قد قدم في أثناء ذلك واحدة من الإمكانيات لاستشراف آفاق حل معقول للمسائل المروحة. والفارابي استطاع، ولاشك، صياغة تلك الإمكانية بقوة فكرية عميقة متماسكة. وقد تم ذلك، كما قلنا، باسم الدفاع وصيانة المبادئ الدينية في "نقائها".
إلا أن التطور اللاحق للفكر الفلسفي. ومن ضمنه قضية "الوجود المادي " أو "العالم"، كان قد تجاوز بشكل شامل البدايات الفلسفية التي أنجزها الكندي والفارابي. أن أبن سينا يمثل، في ذلك، الشخصية الأولى التي استطاعت فعلاً إرساء قاعدة فلسفية متميزة بتماسكها ووضوحها الماديين، أننا نشهد لديه المحاولة الفلسفية العميقة الأولى في إطار المجتمع العربي الإسلامي الوسيط لرفض مباشر وشامل للمصادرة الدينية القائمة على الخلق من عدم مطلق.
وقد استخدم ابن سينا في جهده ذاك أرسطو بشكل أساسي، كما أستنفذ التعليم الفيضي الأفلوطيني، بحيث أنه أقام على أساس ذلك، ونتيجة أبداع فلسفي ذاتي عميق، بنياناً فلسفياً فارعاً يتحدد بوحدة وجود مادية. أما الحلقات الأخرى في التحول الفلسفي آنذاك، فقد تحققت على أيدي المفكرين ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، وسوف نجد أن ابن طفيل لم يمثل مجرد امتداد لابن سينا، بل أسهم في تطوير الفكر الفلسفي المادي الهرطقي، وخصوصاً في حقل نظرية المعرفة. أما ابن رشد فأنه ولا شك قد شارف بالفكر ذاك قمته، وكان بذلك أعظم مفكر في العصر الوسيط تكشفت في منظومته الفلسفية تجربة فلسفية خصبة للغاية عكست، على نحو خاص، أبعاد ومطامح الإرهاصات الاجتماعية البورجوازية المبكرة التي تواجدت في المجتمع العربي الإسلامي آنذاك، فكانت، بذلك، الإطار النظري الأيديولوجي لتلك الإرهاصات.
أن البدايات المثالية للفكر الفلسفي في العصر الإسلامي العربي، التي احتوت بذور انشطارها وتجاوزها، ما لبث أن أفسحت الطريق للفكر المادي الهرطقي ممثلاً بتلك الشخصيات التي أتينا عل ذكرها . والجدير بالذكر أن مجابهة الفكر الفلسفي المثالي آنذاك لم يتنطع لها الفلاسفة الناحون منحى مادياً متميزاً فقط ، وإنما أيضاً ممثلو الصوفية الإسلاميون، الذين جابهوا مصادرة الخلق من عدم على نحو صوفي خاص، أي من خلال الأخذ بـ"وحدة وجود" روحية، وذلك دون المرور بأرسطو و "عالمه المادي القديم" ، بل عبر تأثير فيضي أفلوطيني وصوفي هندي وديني أسلامي.
ولكن من تعاظم قدرة الفكر المادي الفلسفي لاحقاً وأتساع آفاقه وفرضه نفسه على الواقع الفكري كشكل أساسي من أشكال هذا الواقع، فإنه اندحر بعنف تحت ضغط الفكر الإقطاعي التسليمي وخليفته الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والأخلاقية.
وبالطبع ، أن ابن خلدون بفكره التاريخي الناحي منحى مادياً كان محاولة من من الفكر الفلسفي المادي لإكساب مجابهته للفلسفية المثالية والتعسف التسليمي والضحالة الفكرية طابع الشرعية . لقد كانت هنالك بدايات في الفكر الفلسفي التاريخي آنذاك، ولكن ابن خلدون تجاوز هذه البدايات بعمق فكري لم يشهد مثله تاريخ الفكر الإنساني حتى ذلك العصر. ولكن ل بن خلدون أتى بفتحه التاريخي الكبير في عصر لم يكن أصلاً قادراً الإحاطة بهذا الفتح وتطوره إلى أمام من قبل ممثلين آخرين له.
وهذا الواقع- بالطبع باستثناء الشخصية البارزة المقريزي- يرينا بوضوح كيف أن عملية صياغة الفعل التاريخي الاجتماعي بقانون اجتماعي استكملت أبعادها بعد دخول المجتمع العربي الإسلامي الوسيط مرحلة الانحطاط والاضمحلال . فكان ابن خلدون بذلك قد كشف تجارب واسعة في الحقول العديدة التي تمت في مرحلة ازدهار ذلك المجتمع تكثيفاً معقماً. أن الفكر التاريخي- والفكر الخلدوني يمثل حلقة جوهرية من تطوره- وأي فكر آخر لا يمكن اشتقاقه ميكانيكاً من الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بل هنالك عملية معقدة تتم خلال تعبير ذلك الفكر عن نفسه. وهذا يعني أن ابن خلدون هو الحصيلة الحقيقة لفترة ازدهار المجتمع العربي الإسلامي الوسيط في ازدهاره وفي انحطاطه في آن واحد.
وفي الفصول التالية نحاول تحديد المعالم الأساسية للحلقات المفردة والمختلفة للفكر العربي الإسلامي الوسيط، كما لهذا الفكر من حيث كليته، ولكن بعد المرور على مشكلة" الذرة" أو "العالم الذري" في الفكر هذا.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق