الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015
محاضرات طبيعة المعرفة العلمية:
مفهوم المعرفة :
المعرفة هي نتاج النشاط العقلي والحسّيّ الذي يقوم به الفرد في ممارسته لحياته اليوميّة , ومن المعلوم أنّ الفرد يستخدم قواه العقليّة , ونوافذ الحسّ لديه للوصول إلى مدركات حقيقيّة لما يحيط به ؛ كي يتمكّن من التكيّف السليم مع بيئته , فهي في أبسط معانيها : " المحصّلة الناتجة عن العمليّات العقليّة من فهم وإدراك وتدبير وتفكّر وحفظ وتحليل وتركيب وتخيّل , بالإضافة إلى عوامل الحسّ المغذيّة لها , وذلك من خلال تفاعلها مع البيئة الخارجيّة المحيطة بالإنسان , من أشياء وموجودات وظواهر وحقائق ونظم ثقافيّة واجتماعيّة , وغيرها " .
ومن المفيد هنا أن نشير إلى أنّ هناك اختلافاً بين المهتمّين في استخدام مصطلحي نظريّة المعرفة , والمعرفة Epistemology , حيث ساوى بعضهم بين المصطلحين , في حين رأى آخرون أنّ نظريّة المعرفة تبحث في طبيعة المعرفة , ومصادرها , وحدودها , والعلاقة بين الفرد المدرِك , والموضوع المدرَك ,ومجالها الفلسفة , أمّا المعرفة Epistemology فتهتمّ بنوع خاصّ من المعارف هو المعرفة العلميّة , ومجالها العلم .
طبيعة المعرفة والمنهج :
تباينت آراء الفلاسفة والمفكّرين حول طبيعة المعرفة , فمن حيث جوهرها وحقيقتها وعلاقتها بالأشياء المدركة بالحواسّ , انقسموا إلى فريقين :
- مثاليين يرون أنّ ظواهر الأشياء لا تنبئ بالمعرفة الحقّ , وإنّما تكمن المعرفة في جوهر الأشياء , وفكرة وجودها , فما نراه ليس الحقيقة , وإنّما رمز لتلك الحقيقة , فالمظهر الخارجيّ للأشياء لا يعني الأشياء ذاتها .
- واقعيين يرون أنّ الأشياء التي نراها هي الحقيقة والجوهر , وأنّ العالم الخارجيّ هو ما ندركه فعلاً بعقولنا وحواسّنا , وهو يمثّل المعرفة الحقّ .
ومن حيث وصولها إلى الإنسان , انقسموا إلى فريقين أيضاً :
- الأوّل : ويرى أصحابه أنّ المعرفة مولودة مع الإنسان , وأنّ ظهورها لديه رهن بتحفيزها , وإثارتها , وأوردوا أدلّة على ذلك , من بينها قدرة الإنسان على إدراك بعض الحقائق دون أن يكون قد اكتسبها من أيّ مصدر , أو تدرّب عليها , ومن بين تلك الأدلّة ما يعرف بالبدهيّات , فالإنسان يدرك بفطرته أنّ الكلّ أكبر من الجزء , وأنّ هذا الكلّ مكوّن من أجزاء أصغر منه , كما أنّه يدرك بفطرته أنّ لكلّ مخلوق خالقاً , ويورد المسلمون من أتباع هذا الرأيّ حجّة أخرى على فطريّة المعرفة , وتتمثّل هذه الحجّة بقوله تعالى : " وعلّم آدم الأسماء كلّها " ( البقرة , 31 ) , وقد توارثت ذريّته هذا العلم من بعده .
- الثاني : ويرى أصحابه أن المعرفة مكتسبة , وأنّ الإنسان يولد دون أن يمتلك أدنى معرفة , وأنّ احتكاكه بمحيطه الخارجيّ من خلال حواسّه التي زوّده به الله تعالى زوّده بالعلوم والمعارف , وقد أورد أصحاب هذا الاتّجاه دليلهم على أنّ المعرفة مكتسبة , من القرآن الكريم أيضاً , وهذا الدليل قوله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمّهاتكم لا تعلمون شيئاً , وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون " ( النحل , 78 ) .
والمتأمّل لهذين الاتّجاهين يدرك أنّ الكفّة تميل إلى الاتّجاه الثاني , حيث يتوقّف اكتساب الإنسان العلوم والمعارف على مقدار نشاطه , وخبرته المباشرة , وإعماله لحواسّه وعقله , كما أنّ هذا الاتّجاه ينسجم مع توجّهات التربية الحديثة الداعية إلى نشاط المتعلّم , وبذله الجهد , وحصوله على الخبرة المربية الناتجة عن الاحتكاك بالواقع , ومواجهة المشكلات , والعمل على حلّها من خلال وضع الفروض , واختبارها .
أمّا طبيعة المعرفة من حيث موضوعيتها وذاتيتها , فقد ظهرت لدى المهتمّين بهذا الشأن ثلاثة اتّجاهات , وهي :
الاتّجاه الأوّل , ويرى أصحابه ( وهم من علماء العلوم والرياضيّات ) أنّ المعرفة خارجيّة موضوعيّة لا علاقة للإنسان بها , تأتيه من الخارج , فيقوم باختزانها في عقله , واستخدامها عند الحاجة .
الاتّجاه الثاني , ويرى أصحابه ( وهم من رجال الفنّ والأدب ) أنّ المعرفة ذاتيّة , وهي من صنع الإنسان نفسه , فهو ليس مستقبلاً لها , أو مشاركاً في توليدها , وإنّما هو منتج لها .
الاتّجاه الثالث , ويرى أصحابه ( وهم من رجال العلوم السلوكيّة ) أنّ للإنسان يداً في إنتاج المعرفة , فإذا كانت البيئة الخارجيّة مصدر المعرفة , فإن الإنسان يضيف إليها من ذاته , وهو المسؤول عن تشكيل بنيته المعرفيّة , وبذلك فهي مزيج بين الموضوعيّة والذاتيّة .
وانسجاماً مع ما سبق فإنّ المنهج المدرسيّ مطالب بما يأتي :
1_تنمية القدرات العقليّة التي وهبها الله تعالى الإنسان للحصول على المعارف من خلال العمل على تحليل الظواهر , وتصنيفها , والوصول إلى استنتاجات بشأنها , مستغلاًّ المرحلة العمْريّة للناشئة التي تتميّز بتطوّر القدرات العقليّة بشكل مطّرد حيث تصل إلى ذروتها في أواخر مرحلة المراهقة , وذلك من خلال تدريبهم على تنمية التفكير بمختلف أنواعه لديهم .
2_تشجيع الناشئة على الحصول على المعرفة من خلال الخبرة المباشرة التي تتطلّب إشراك مختلف الحواسّ , والتفاعل مع البيئة , والاحتكاك الواعي بها , وذلك بجعل النشاط المدرسيّ عنصراً مهمّاً من عناصر المنهج , واستخدام الوسائل المعينة المناسبة في ذلك.
3_تعويد المتعلّم الإيجابيّة , والتفاعل البنّاء , وذلك بفسح المجال أمامه للمشاركة , وإبداء الرأي , وإصدار الأحكام , وتحمّل المسؤوليّة , والتعلّم الذاتي .
أنواع المعرفة :
يمكن تقسيم المعرفة إلى ثلاثة أنواع :
1_المعرفة الحسية (التجريبية) .
2_المعرفة الفلسفية .
3_المعرفة العلمية .
ونعرض فيما يلي لهذه الأنواع الثلاثة بشيء من التفصيل .
اولاً_المعرفة الحسية(التجريبية):
يطلق هذا الاسم على المعرفة التي تقتصر على مجرد ملاحظة الظواهر ملاحظة بسيطة تقف عند مستوى الادراك الحسي المادي دون أن تتجه إلى إيجاد الصلات أو تسعى إلى أدراك العلاقات القائمة بين الظواهر (1).
ويمكن التمثيل لهذا النوع بملاحظة الرجل العادي البسيط الذي ينظر إلى الكون فيرى أن الليل والنهار يتعاقبان ، وأنهما ليسا متساويين ، بل يختلفان في الطول والقصر ، وفي الحرارة والبرودة . فهذه الملاحظات تتم عادة بطريقة حسية تلقائية غير مقصودة ، وهي في حد ذاتها لا تعين الانسان على معرفة أسباب تعاقب الليل والنهار ، ولا توقفه على معرفة العلاقات القائمة بين حدوث الفصول الأربعة وبين تفاوت درجات الحرارة أو اختلاف طول الليل والنهار ، هذا بالإضافة إلى أنها لا تتم بغرض الكشف عن حقيقة علمية ، او تحقيق غاية نظرية .
وقد لجأت البشرية منذ فجر نشأتها إلى هذا اللون من المعرفة في اكتساب الخبرات ، وتحديد المعاني للمواقف المختلفة . فالرجل البدائي مثلاً كان يتعرف على الأشياء بنظره أو بسمعه أو بيده ، فيدرك ما لتلك الأشياء من صفات ، ثم أخذت حصيلته من تجربته الحسية تزداد على مر الأيام ، فتكونت لديه خبرات أفادته في تدبير أموره ، والتغلب على مشكلات حياته . فإذا ما مرض أحد في بيئته وصف له بعض الأعشاب التي جربها وخبر فائدتها من قبل . وإذا ما راى الغيوم تلبدت ، توقع المطر . غير أنه لم يكن يدرك سر العلاقة القائمة بين الأعشاب والمرض ، وبين السحاب والمطر ، وما إلى ذلك من العلاقات التي تبدو له بين الأشياء .
ولم يستطيع الانسان عن طريق خبرته الحسية ، ومعرفته الذاتية المحدودة ، أن يحيط بكل ما حوله من أمور . فعجز عن فهم بعض الظواهر الطبيعة المألوفة التي تتكرر بين الحين والحين . فالصواعق وكسوف الشمس ، وخسوف القمر ، والأوبئة والزلازل ، والبراكين هذه وأمثالها أمور يحللها العلم الحديث ، ويقف على اسرار الكثير منها ، ولكنها لم تكن كذلك قبل أن يهتدي العلم إلى أسرارها، فلم يكن بد من أن ينسبها الانسان إلى قوى خارقة فوق الطبيعة ، لها إرادة كإرادة الانسان ، وكان يتوسل إليها إذا غضبت ليخفف من بأسها وغضبها ، كما كان يقدم لها القرابين ، ويقيم الشعائر ، تقرباً إليها ، ودفعاً لأذاها ، وإظهار لخضوعه وتقديسه لها .
ومن الماحظ أن التفسيرات البدائية للظواهر الطبيعية ، تشبه إلى حد كبير تلك التفسيرات التي تتبادر إلى أذهان أطفالنا اليوم . فالأنسان البدائي يفسر الطبيعة باسقاط عواطفه عليها ، مثله كمثل الطفل حين يخلع على الظواهر صفات بشرية ، ومتأثراً في ذلك بالنزعة التشبيهية السائدة لديه . فهو يقول أن إله الريح يغضب كما يغضب بنو البشر . وهو يفرح ويتألم كما يفرح الناس ويتألمون .
وبمرور الوقت ، وبحكم العادة ، استفادة الانسان من الخبرات التي اكتسبها بتجاربه المحدودة أو بتجارب غيره من الناس . فظهرت الآراء الحسية المشتركة بين الناس . ويطلق الإنجليز و الامريكان على هذه الآراء المشتركة common sense . ويطلق عليها الفرنسيون sens commun وكلاهما معناهما الحرفي "الحس المشترك" وهو تعبير نطق به أرسطو ، لمعنى يختص بالحواس والإدراك ، ثم تطور على مر الزمن ليكون مفهومه عند أهل القرون الحديثة الرأي المشترك لا الحس المشترك . ونفضل استعمال هذا المفهوم باسم "الراي الباده المشترك" . فهو باده لأنه يأتي بداهة أو بداءة ، دون أن يحتاج إلى أداة من علم أو منطلق . وهو مشترك لان جمهور الناس يشتركون فيه وهم يحكمون على الأشياء .
وليس من شك في أن كثيراً من هذه الآراء المشتركة تأتي نتيجة لبعض التجارب الذاتية البسيطة . وتقف عند بعض المواقف العملية المحدودة .
وبالرغم من ذلك فإنها تنتقل بين الناس بحكم العادة ، ويسلمون بها دون فحص أو تمحيص .
والرأي الباده المشترك ليس بالشيء الثابت ، فهو يتغير بتغير المكان والزمان بل قد يتحول إلى نقيضه . فإذا نظرنا إلى الأمثال الشعبية _ التي تدخل في نطاق الراي الباده المشترك _ لوجدنا بينها تناقضاً.
فكل مثل له تقريباً ما بعارضه . وإذا سلمنا بأن بعضاً من هذه الامثال لا يوجد بينها ما يناقضه فأننا لا نستطيع أن نسلم بأنها تصلح لجميع المجتمعات ، أو حتى بين مختلف الجماعات التي يتكون منها المجتمع الواحد ، ذلك لأنها تنشأ نتيجة لخبرة اجتماعية محدودة ، في موقف اجتماعي بذاته ، وتحت ظروف معينة .
وعلى هذا فإن المعرفة التجريبية وما ينشأ عنها من آراء بادهة مشتركة ، تبدو قاصرة تماماً في محيط التفكير النظري ، ومحاولة تفسير الظواهر وتعليلها ،لما بينها من تناقض ، ولخلوها من صفات الموضوعية والمنهجية والعمومية .
ثانياً: المعرفة الفلسفية:
تعتبر المعرفة الفلسفية المرحلة الثانية من مراحل التفكير . فوراء الأمور الواقعية المكتسبة بالملاحظة ، مسائل أعم ، ومطالب أبعد تعالج بالعقل الواحد . وتتناول الفلسفة هذه المسائل بالدراسة والبحث ، ولا يقتصر على العالم الطبيعي وحده بل ترتقي إلى العالم " الميتافيزيقي" أي " بحث ما بعد الطبيعة" ، فتبحث عن الوجود بالإجمال وعن علته ، وعن صفات الموجد ، وكثير من المسائل التي تتصل بمعرفة الله وإثبات وجوده .
ومسائل الفلسفة يتعذر الرجوع فيها إلى الواقع ، وحسمها بالتجربة كما أنها دقيقة عويصة يتعذر استيعاب وجهاتها المتعددة ، وكشف وجه الحق فيها تاماً واضحاً ، فيجتهد الفلاسفة في حلها كل على قدر طاقته ، وتبعاً لمزاجه ونشأته ومواهبه وما إلى ذلك من المؤثرات التي تكيف العقل وتوجه النظر ، والبحث الفلسفي لا يهتم بالجزئيات ، وإنما بالمبادئ الكلية ، كما يحاول تفسير الأشياء بالرجوع إلى عللها ومبادئها الأولى .
وتتشكل الموضوعات التي تطلبها الفلسفة بحسب المنهج الذي تتبعه ، وتختلف المناهج بحسب الفلاسفة أنفسهم ، ومن أيام اليونانيين كان المنهج الفلسفي هو التأمل . وهو منهج فلاسفة الهند كذلك حين ينعطفون على انفسهم لالتماس الحقيقة الكبرى في داخلها . ولكن منهج اليونانيين كان عقلياص ، انتهى عند أرسطو إلى أن يكون هو القياس المنطقي logical deducation وظل القياس الارسطي " الصوري" المنهج المتبع في التفكير الفلسفي أكثر من عشرين قرناً من الزمان .
ويعتمد القياس الصوري على حقائق معروفة من قبل ، والتسليم بالمقدمات تسليماً لا يقبل الشك حتى يمكن الوصول إلى النتائج ، والوصول من الكلي إلى الجزئي . مثال ذلك:
كل شهيد بطل
أحمد شهيد
إذاً أحمد بطل
وكذلك المثال التالي:
كل معدن موصل جيد للحرارة
الذهب معدن
إذاً الذهب موصل جيد للحرارة
فالنتيجة التي توصلنا إليها وهي ان أحمد بطل ، أو أن الذهب موصل جيد للحرارة ، موجودة بنفسها في مقدمات هذا القياس ، وهي غير جديدة ، بل هي جزء من المقدمة . فمن يسلم بصحة المقدمة التي تقول " كل معدن موصل جيد للحرارة" يدخل في موضوع القضية ـ وهو معدن ـ كل المعادن .
ومن يضيف إلى هذه القضية قضية ثانية يقول فيها " الذهب معدن" يعلم أن الذهب أحد المعادن التي سبق أن وصفها بأنها موصلة جيدة للحرارة ، ومن ثم لا يكون في النتيجة التي ينتهي إليها قياسه وهي " الذهب موصل جيد للحرارة " شيء جديد. ولذا قالفياس لم يوصلنا إلى معرفة جديدة ، بل تحصيل حاصل toutology.
ويرى بعض المدافعين عن الأسلوب القياسي أنه إذا كان لا يقدم شيئاً جديداً خالصاً ، فإنه يودي إلى نتائج جديدة من حيث صورها وأشكالها .
فالنجار لا يبتدع خشباً ، ولكنه يخرج من الخشب اثاثاً يختلف عن مادة الخشب في شكلها القديم . كذلك القياس فانه صناعة عقيلة تشكل المعلومات التي نعرفها في صورة جديدة نحن في حاجة إليها ، وتفيدنا فائدة جديدة .
وفي رأينا أن القياس الصوري قد يفيد في تنمية القدرة على الجدل وقد ينجح في ربط الأفكار بعضها ببعض ، ولكنه لا يكشف عن العاقلات والأسباب ، ولا يستطيع أثبات المبادئ العلمية ، بل المقدمات والنتائج لديه سواء . ولذلك قال عنه ديكارت " أنه عقيم مجدب لا يكشف عن معرفة جديدة ، فهو يفسر لنا ما نعلمه ، ولا يكشف لنا عما نجهله " كما قال جوبلو goblt : " أن قواعد المنطق الصوري لا تسمح بالابتكار ولا بالاختراع ولا بالكشف ، بل تجعل الذكاء سجين معرفته السابقة ، وهي تتيح له أن يضيق نطاق هذه المعرفة ، بدلاً من ان يعمل على نموها .
وليست هناك أية قاعدة من قواعد المنطق الصوري تستطيع تفسير تقدم المعرفة . ومهما افتن الانسان في التعبير عن تفكيره بصور مختلفة فإنه لا يزيد ثروته من العلم إلا إذا انصب هذا التفكير على مادة يستمد منها غذاءه " .
ثالثاً: المعرفة العلمية:
تقوم المعرفة العلمية على الأسلوب الاستقرائي induction الذي يعتمد على الملاحظة المنظمة للظواهر ، وفرض الفروض ، وإجراء التجارب وجمع البيانات وتحليلها للتثبت من صحة الفروض أو عدم صحتها . ولا يقف العلم عند المفردات الجزئية التي يتعرض لبحثها ، بل يحاول الكشف عن القوانين والنظريات العامة التي تربط بين هذه المفردات بعضها ببعض ، والتي تمكن من التنبؤ بما يحدث للظواهر المختلفة تحت ظروف معينة .
والاستقراء نوعان ، أحدهما تام complete والآخر غير تام " ناقص" incomplete وفي الاستقراء التام يقوم الباحث بملاحظة جميع مفردات الظاهرة التي يبحثها ، ويكون حكمه الكلي مجرد تلخيص للاحكام التي يصدرها على مفردات البحث .
ولعل من هذا القبيل ما فعله عالم الفلك الألماني "كبلر" حينما وضع قانونه القائل بأن جميع الكواكب تدور حول الشمس في مدار بيضاوي الشكل ، فإن كبلر لم يضع هذا القانون إلا بعد أن احصى الكواكب السيارة جميعاً بما فيها الأرض ، والمريخ ، وزحل ، وعطارد ، والزهرة ... إلخ ، متحقق من ان كلاً منها على حدة يدور في مدار بيضاوي الشكل .
وأوضح أن هذا النوع من الاستقراء لا يضيف معرفة جديدة . ولا يفيد في الانتقال بالنتائج والاحكام من المعلوم إلى المجهول لان جميع الحالات خضعت للملاحظة وأصبحت معلومة للباحث . و يرى "بيكون" أن نتائج هذا النوع من الاستقراء عرضة للخطر متى وجدت حالة جزئية واحدة مضادة لها : مثال ذلك أن تحريك التمساح لفكه الأعلى ينقض القضية القائلة بأن كل حيوان يحرك فكه الأسفل ، كما ان العثور على بجع أسود في استراليا كان تكذيباً للقضية : كل بجعة بيضاء .
وفي الاستقراء غير التام "الناقص" يكتفي الباحث بدراسة بعض النماذج ، ثم يحاول الكشف عن القوانين العامة التي تخضع لها جميع الحالات المتشابهة والتي لم تدخل في نطاق بحثه . وبفضل هذه القوانين يستطيع الباحث أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث للحالات المتشابهة ، والتي لم تدخل في الدائرة بحثه ، وأن بتنقل بأحكامه من الحالات المعلومة إلى الحالات المجهولة .
ولما كان الاستقراء العلمي بمعناه الدقيق لا تتيسر فيه ملاحظة جميع مفردات الظاهرة ، كما أنه يستهدف الكشف عن القوانين العامة للظاهرات الفردية المتفرقة عن طريق دراسة بعض المفردات الجزئية ، فإن العلم يصطنع منهج الاستقراء الناقص في الوصول إلى المعارف العلمية . وقد يظن البعض أن الاستقراء التام ، حسب تعريفه ، أعلى مرتبة من الاستقراء غير التام ، ومع أن الأمر على عكس ذلك تماماً ، فالاستقراء الأخير هو الاستقراء العلمي الصحيح لأنه يقوم على التعميم ويكشف عن حقائق مجهولة ويفيد في التنبؤ بما يمكن ان يحدث للظواهر المختلفة تحت ظروف معينة .
ويمكن تحديد خصائص التفكير العلمي فيما يلي :
1_استبعاد المعلومات غير الصحيحة :
يبدأ البحث العلمي باستبعاد المعلومات غير الصحيحة . وعلى العالم أن يطهر عقله منذ بداية البحث من كل ما قد يقوده إلى الخطأ ، أو يعوق قدرته على التوصل إلى الحقائق . وقد حرص واضعو مناهج البحث العلمي من الغربيين منذ مطلع العصور الحديثة على التنبيه إلى هذه النقطة .
نذكر من بين هؤلاء فرنسيس بيكون (+1626) ــ واضع أصول المنهج العلمي ــ فقد مهد لمنهجه التدريبي بجانب سلبي أوصى فيه الباحث بتطهير عقله ــ قبل أن يبدأ بحثه ــ من كل ما يقوده على الخطأ ، وحذره من الأخطاء التي تنشأ عن تسليمه بأفكار سابقة لم تثبت صحتها .
كما ذهب ديكارت (+1650) إلى مثل ما ذهب إليه فرانسيس بيكون ، فكان يوجب على الباحث ان يطهر عقله في بداية البحث من معلوماته اليابقة عن طريق الشك المنهجي ، وأن يتحرر من كل سلطة إلا سلطة عقله أملاً في التوصل إلى المعرفة الصحيحة .
2_ الاعتماد على النتائج العلمية السابقة :
مع التسليم بقاعدة الشك المنهجي ، إلا أن ذلك لا يعني عدم الاستفادة بالنتائج العلمية السابقة . فالعلم له طبيعة تراكمية ، والنتائج التي توصل إليها بحث علمي سابق تكون هي نفسها المقدمات التي يبدأ منها بحث لاحق .
فهناك إمكانية لإضافة متغيرات جديدة أو الكشف عن بعض الجوانب الغامضة . وهنا يبدو فارق من أهم الفوارق بين النسق العلمي والنسق الفلسفي . فحقائق العلم تقبل الاندماج معاً في منظومة واحدة نسقية البناء ، وهي ليست بالإنتاج العقلي الذي ينتجه من أوله إلى آخره شخص واحد بمفرده ، بخلاف الحال في الدراسات الفلسفية التي يبني فيها كل فيلسوف نسقه الفكري من الأساس إلى القمة كأنما هو عمل فردي فني لا يجوز أن يشارك فيه أحد أحداً . ولعل أصدق وصف للعلماء تشبيههم بالطوابق في البناء الواحد يكمل أحدها الآخر ، بعكس الفلاسفة الذين يشبهون الاهرمات حيث يستقل كل منها عن الآخر .
3_ الاعتماد على الملاحظة الحسية كمصدر للحقائق العلمية :
يتخذ الفيلسوف العقل مصدراً للحقائق ، ومعياراً للتثبت من صوابها ، فيضع لنفسه مبادئ يتخذها ينبوعاً ينبثق منه كل عنصر من عناصر النسق الفلسفي الذي يقيمه . اما العالم فإنه لا يستمد حقائقه إلا من الملاحظة الحسية المباشرة . فإذا قال العالم عن طبيعة العلاقات الاجتماعية في جماعة معينة أنها قائمة على أساس التاعون أو التنافس أو الصراع ، او قال عن الضوء أن سرعته كذا ميلاً في الثانية ، فإن مصدره في ذلك هو الملاحظة الحسية . وتتوقف صحة النتائج التي يتوصل إليها على مدى مطابقتها للوقائع الخارجية . وقد حرص "جون لوك" على التنبيه إلى هذه النقطة ، فأشار إلى أن الادراك الحسي هو أساس كل معرفة ، وبدون الأشياء ، واحساسنا بها ، وإدراكنا لها : لا يوجد وعي ولا حكم عقلي ولا معرفة .
4_تحويل الكيف إلى الكم " التكميم quantification " :
حينما يتعامل الناس معاً في حياتهم اليومية ، فإنهم يشيرون إلى الأشياء والحوادث باوصافها الظاهرة للحواس أو بمنافعها ، وأساليب استخدامها في الحياة العملية ، يقال : ماء ، وصوت ، وضوء . وهذه الالفاظ تتناول الأشياء والكائنات في جملتها لا في عناصرها التحليلية ، كما أنها تعبر عن وجود الصفات دون أن تكشف عن مقدار وجودها أو مستواها .
أما عالم الكيمياء ، فإنه يعكف على تحليل الماء إلى عناصره التي يتألف منها إلى ان يتوصل إلى أنه يتكون من ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الأكسجين . وفي هذه الحالة نقول أنه تمكن من تحويل الكيف إلى الكم .
وبالمثل يقوم عالم الطبيعة بدراسة الصوت ورده إلى سعة الذبذبة ، وبدراسة الضوء وارجاعه إلى طول الموجات . وبهذه الصورة يتجه العلم إلى تحويل الكيف إلى الكم ، والتعبير عن الظواهر بلغة الأرقام .
ومن الملاحظ أن كل العلوم ـ خلال مراحل تطورها ـ قد مرت بالدور الكيفي . ففي البداية كان يقال أن الأشياء باردة أو ساخنة ، ثقيلة أو خفيفة ، وأن الأشخاص أذكياء أو أغبياء ، إلى أن ظهرت مقاييس دقيقة أمكن بمقتضاها تحديد هذه الصفات تحديداً كمياً ، والتعبير عنها تعبيراً رقمياً دقيقاً .
وتتفاوت العلوم المختلفة في مقدار تقدمها بنفس المقدار الذي اختلفت فيه من حيث ضبطها لمفهوماتها ضبطاً كمياً . فعلم ـ مثلاً ـ متقدم على علم النفس أو علم الاقتصاد بنفس الدرجة التي استطاع بها أن يتعامل مع ظواهره باستخدام الأساليب الرياضية ، وبنفس القدر الذي استطاع به أن يحول مفاهيمه الكيفية إلى مفاهيم كمية.
5_الموضوعية "objectivity " :
يقصد بالموضوعية معالجة الظواهر باعتبارها أشياء لها وجود خارجي مستقل عن وجود الانسان . والشيء الموضوعي هو ما تتساوى علاقته بمختلف الافراد المشاهدين مهما اختلفت الزاوية التي يشاهدون منها . ويوضح "برتراند راسل" هذه النقطة بقوله :
" لكي نوضح الفرق بين الموضوعية والذاتية نقول : أفرض عدداً كبيراً من المتفرجين في مسرح كانوا يشاهدون في آن واحد ما يجري على خشبة المسرح ، وكذلك كان في المسرح عدة آلات للتصوير وتلتقط في آن واحد صور ما يحدث على خشبة المسرح ، فعندئذ تكون الصور التي تلتقطها آلات التصوير ، وكذلك الصور التي يلتقطها المتفرجون ، متفقة في وجوه ومختلفة في وجوه . ونستخدم كلمة "موضوعي" لنصف بها ذلك الجانب الذي يشترك فيه المتفرجون جميعاً ، أو آلات التصوير جميعاً . كما نستخدم كلمة "ذاتي" لنصف بها الجوانب التي ينفرد بها متفرج دون غيره ، أو آلة من آلات التصوير دون غيرها ، فسيبدو الممثل على خشبة المسرح أطول عند المتفرج القريب منه مما هو عند المتفرج البعيد . وعلى هذا فالذاتية أمر لا يقتصر على مجرد الأهواء الشخصية ، بل هو احد جوانب الطبيعة نفسها ، ومعناها أن المؤثر الواحد لا يبدو للاعين المختلفة في أوضاعها على صورة واحدة ، أما إذا كان في هذا المؤثر جوانب لا تتغير صورتها عند مختلف الأعين مهما اختلفت أوضاعها ، كانت تلك الجوانب المشتركة موضوعية .
والباحث الذي يتحرى الموضوعية في الدراسة يتناول الظواهر كما هي وفي صورتها الواقعية ، ويستعين بالاساليب التي تتسم بالصدق والثبات ، ويصل إلى نتائجه بعد الموازنة والقياس ، ويعرضها بالطريقة التي هي عليها لا كما ينبغي أن تكون . اما الباحث ذو النظرة الذاتية ، فإنه لا يهتم باستخدام الأدوات والمقاييس التي تساعد على تقليل مخاطر التحيز الذاتي .
ويترتب على التزام صفة الموضوعية في البحث العلمي ، ان تكون نتائج البحث قابلة للاختبار بحيث إذا اختار باحث آخر نفس الظاهرة ، واتبع نفس الخطوات ، واستخدم نفس الإجراءات المنهجية ، امكنه أن يحصل على نتائج مماثلة .
6_التجريد " abstraction " :
يقصد بالتجريد استنباط الخصائص أو الصفات التي تتميز بها الظواهر أو الأشياء ، بحيث تتحول إلى أفكار أو مفاهيم ذهنية تدرك بالعقل لا بالحواس . ويقوم التجريد على إغفال السمات الجزئية المشخصة concrete من اجل الوصول إلى معنى عام ينطبق على أفراد النوع الواحد . والفكرة المجردة إذا بلغناها وجدناها بالضرورة فكرة عامة تصدق ـ لا على فرد واحد ، أو موقف جزئي واحد ـ بل تصدق على مجموعة الأفراد أو مجموعة المواقف المتجانسة . فكلمة ـ ثقافة ـ يمكن تجريدها بقولنا : أنها ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل المقدسات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان من حيث هو عضو في المجتمع .
ويعبر برتراند راسل عن صفة التجريد بقوله :
أن العقل العلمي لا يعالج الأشياء الموجودة في الواقع من حيث هي كذلك ، وإنما من حيث أن لها خواصاً معينة .. فنحن حين نتكلم عن المكان أو الحركة ، فليس ما نتكلم عنه هو المكان الفعلي أو الحركة الفعلية كما لعرفها في التجربة ، بل نتكلم عن شيء له تلك الخواص العامة المجردة للمكان أو الحركة .
7ـ التعميم :
لما كان العلم يعتمد على الاستقراء الناقص الذي لا تتيسر فيه ملاحظة كل مفردات الظاهرة ، فإن الباحث يكتفي بملاحظة بعض النماذج ، ثم يحاول الكشف عن القوانين العامة التي تخضع لها جميع الحالات المتشابهة والتي لم تدخل في نطاق البحث . وتفيد هذه التعميمات في الانتقال من المعلوم إلى المجهول ، وفي تنبؤ بما يمكن أن يحدث للظواهر تحت ظروف معينة .
أوجه الأختلاف بين ألوان المعرفة :
( أ ) تختلف المعرفة العلمية عن المعرفة الحسية " التجريبية" فيما يلي :
1_ تعتمد المعرفة الحسية على الملاحظة الذاتية البسيطة ، بينما تقوم الأولى على الملاحظة المنظمة للظواهر التي تعتمد على وسائل دقيقة للقياس .
2_ تختلف المعرفة العلمية عن الآراء البادهة المشتركة بين الناس ، ذلك لأن الكثرة الكبرى من الآراء المشتركة بين الناس قربة المتناول ، أشياء تدركها الحواس ثم يقبلها العقل سريعاً بلا روية ولا تمحيص ، أما المعرفة العلمية فإنها تقوم على أساس من الدراسة الموضوعية المنظمة ، ولا يمكن التسليم بها إلا بعد اختبار دقيق.
3_للمعارف العلمية ميزة كبرى بالقياس إلى معارف الحسية . فالقضايا التي تعبر عنها الحقائق العلمية تقبل الاندماج في ـ أنظمةـ دقيقة واضحة من التفسير ، فتساعد على التحقق من قضايا أخرى قريبة منها أو متماسكة معها بخلاف الحال في المعارف الحسية .
( ب ) تختلف المعرفة العلمية عن المعرفة الفلسفية فيما يلي :
1_مسائل العلوم محسوسة ملموسة يمكن الرجوع فيها إلى الواقع وحسمها بالتجربة ، بخلاف مسائل الفلسفة التي تختلف بأنها مجردة لا يمكن اخضاعها للتجربة .
2_ تتميز المعرفة العلمية بانها موضوعية objective ، فالباحث العلمي يتناول الظواهر والأشياء كما هي وفي حالتها الراهنة ، كما أنه حينما يدرس الظاهرة يوجه عنايته إلى موضوع البحث دون التأثر بأفكاره ومعتقداته التي كونها من قبل حتى يستطيع ان يرى الأشياء على حقيقتها لا كما يود هو أن يراها . وهو يعمل على استخلاص القوانين من الوقائع المشاهدة دون أن يحفل بان تكون هذه القوانين أو الوقائع حسنة أو قبيحة ، خيراً أو شراً .
اما الفلسفة وخصوصاً فلسفة القيم ، فانها تخضع الأشياء لمعايير ذاتية subjective وتضيف المعاني الأخلاقية إلى الحقائق العلمية ، وتضفي عليها معنى انسانياً ، ولذا يمكن وصفها بانها يمكن وصفها بانها شخصية ، إنسانية ، ذاتية .
3_تهتم العلوم بالعلل القريبة على حين أن الفلسفة تهتم بالعلل البعيدة .. فالبيولوجيا مثلاً تنظر في تركيب الأعضاء وأدائها وظائفها . بينما تحاول الفلسفة تفسير الحياة ذاتها التي هي علة الأعضاء وأفعالها ، وهكذا في باقي المسائل . فإن الفلسفة أما أن تختص بمسائل كلية لا تتناولها العلوم ، وأما أن تبحث مسائل مشتركة بينها وبين العلوم ولكن من وجهة كلية .
4_لا يستطيع العالم أ يبدأ في بحثه إلا إذا استعان بالحقائق والنتائج التي توصل إليها العلماء الذين سبقوه في ميدان بحثه ، وأما الفيلسوف فإنه يستطيع أن يقيم دعائم مذهبه الفلسفي دون الاستعانة بالنتائج التي توصل إليها الفلاسفة السابقون .
5_ يختلف الأسلوب الاستقرائي عن الأسلوب القياسي في البحث في أن الاستقراء يبدأ بالجزئيات ليتوصل إلى القوانين . أما القياس فإنه يبدأ بالقوانين ليستمد منها الحقائق الجزئية . وليست هذه المقابلة دقيقة تماماً لأن الاستقراء يستخدم القياس في إحدى مراحله ، أي عند تطبيق للقاعدة على بعض الحالات الخاصة .
وليس بوسع العلم أن يستغني بالاستقراء عن القياس ، فبالاستقراء يتوصل العلم إلى القضايا العامة ، وعن طريق القياس يستطيع العلم أن يتحقق من صدق القوانين العامة باختبارها على حالات جزئية لم تتناولها الملاحظة من قبل .
والقياس والاستقراء ـ كما هو ظاهرـ يقطعان طريقاً واحداً إلى المعرفة ولكن في أتجاه مضاد ، ذلك لأنه إذا كان الطريق مجهولاً لم يطرق من قبل ، فإن العقل يفضل أن يقطع هذا الطريق في اتجاه الاستقراء ، بمعنى أنه يبدأ من ملاحظة الظواهر متجها نحو الفروض والوصول إلى القوانين العامة . أما إذا كان الطريق معروفاً ، فإن العقل يستطيع أن يرتكز على القوانين العامة ، ويهبط منها إلى الحقائق الجزئية.
مصادر المعرفة والمنهج :
بحث علماء نظريّة المعرفة حول مصادر المعرفة , وتعدّدت آراؤهم في هذا الشأن , إلاّ أنّ هناك شبه إجماع على أنّ للمعرفة مصادر متعدّدة , منها :
- الوحي Revelation, ويعدّ هذا المصدر الأبرز من مصادر المعرفة الإنسانيّة , حيث أفادت منه البشريّة في الحصول على معارف واقعيّة تتصل بالأحداث السابقة , ومعارف غيبيّة تتصل بالعالم الآخر , وتعدّ الكتب السماويّة – وعلى رأسها القرآن الكريم – مناهل غنيّة لهذه المعارف , ويعدّ الحديث الشريف جانباً من هذا المصدر , فهو موحى به من الله تعالى " وما ينطق عن الهوى , إن هو إلاّ وحي يوحى " ( النجم , 3 ) .
ـ الحواسّ Sense: وهي التي تشكّل منافذ الإنسان على العالم الخارجي , والمعرفة التي يتحصّل عليه الإنسان من خلالها تتسم بالأصالة والواقعيّة والسهولة .
ـ العقل Mend: وهي من المصادر الرئيسة للمعرفة , ويقصد بالعقل هنا عمليّات التفكير التي يقوم بها الفرد بعد تلقيه المؤثّرات الصادرة من الحواسّ , من تذكّر , وفهم , واستنتاج , وتحليل , وتصنيف , قياس , وتقويم , وغيرها ؛ وصولاً إلى المعرفة , فالمعرفة الحقّ تعتمد بدرجة كبيرة على استثمار القدرات العقليّة للفرد بشكل فاعل .
- الحدس Intuition: هو إدراك حقيقة الأشياء دون استخدام للقدرات العقليّة , أو الحواسّ , إنّه إشراقة خاطفة تضيء النفس بالمعرفة , وتجعلها قادرة على إصابة الحقيقة دون مقدّمات , فالمعرفة التي تتمّ عن طريق الحدس هي معرفة ذاتية مباشرة ومفاجئة تأتي عن طريق الشعور والوجدان والذوق , ولا بدّ هنا من التمييز بين الحدس والإلهامInspiration , فهناك نوع من التشابه بينهما , فالمعرفة الناتجة عنهما معرفة ذاتية باطنيّة مباشرة وسريعة كومضة الضوء , كما أنّ هناك اختلافاً بين من يمتلك هذه الوسيلة المعرفيّة , فالحدس يشترك فيه مختلف الأفراد , في حين ينبلج الإلهام عن الصفاء الروحيّ الذي يتفرّد به الأتقياء من العباد , ويرى المؤلّف أنّ هذه النافذة للمعرفة لا يمكن تفسيرها تفسيراً منطقيّاً , غير أنّ الخبرة المتراكمة للفرد , وتأمّله فيما حوله , ووعيه بما يدور من أحداث في بيئته , وصفاء نفسه , يمكن أن تكون عوامل مساعدة على انفتاح هذه النافذة المعرفيّة .
- التراث الثقافيّ الوطني Cultural Heritage National, وهو مصدر ثرّ من مصادر المعرفة , غنيّ بخبرات الجدود , وقيمهم , وعاداتهم , وتناولهم للمشكلات التي واجهتهم , ومن المعلوم أنّ الخبرة البشريّة متراكمة , فالمعارف الجديدة تستند بشكل أو بآخر على المعارف السابقة .
- التراث الثقافي العالمي Cultural Heritage International, وهي المعرفة التي أنتجتها شعوب العالم الأخرى , فلكلّ أمّة حضارتها , ومعارفها , وإسهاماتها في المعرفة البشريّة , ويعدّ هذا الجانب المعرفيّ مصدراً غنيّاً للمعرفة , فكما أفادت شعوب الأرض – في يوم من الأيام – من تراثنا المعرفيّ في جوانب الطبّ والفلك والهندسة والجغرافيّة , وغيرها , يمكن أن تكون إنجازاتهم السابقة واللاحقة مصدراً لمعارفنا .
أمّا ما يترتّب على المنهج القيام به إزاء مصادر المعرفة , فيمكن إيجازه بما يأتي :
- تدريس الكتب السماويّة , ولا سيّما القرآن الكريم , كمصدر من مصادر المعرفة , إلى جانب كونها مصادر للشريعة , والتأمّل والتدبّر لما ورد فيها من أحداث , وقصص , وأخذ العبر والدروس منها .
- الاهتمام بحواسّ الناشئة , واستخدام الوسائل الحسيّة , وزيادة النشاطات العمليّة .
- العناية بتنمية القدرات العقليّة للمتعلّم , وتحفيزها على التعامل بموضوعيّة مع المدركات الحسيّة .
- تشجيع الناشئة على القراءة الذاتيّة في مختلف أنواع العلوم , والتأمّل بالظواهر , وإعمال الفكر , والوعي بما يدور حولهم , وتوفير جوّ من الطمأنينة في المناخ المدرسيّ .
- إبراز النواحي الإيجابيّة من تراث المجتمع , والاستزادة من المعرفة العصريّة , والمبتكرات التقنيّة , بما يضمن الحفاظ على الهويّة من ناحية , وعصرنة المجتمع , ومواكبة التقدّم من ناحية ثانية .
- بثّ قيم التسامح , والتعاون , والاهتمام باللغات الأجنبيّة المختلفة للاطلاع على التراث العلميّ لشعوب العالم , والإفادة منه في نهضتنا العلميّة والمعرفيّة .
تنظيم بنية المعرفة والمنهج :
على الرغم من ضخامة حجم المعرفة الإنسانيّة , إلاّ أنّها تشبه النظام الذي يتكوّن من مجموعة أنظمة أصغر , وقد أفاد المهتمّون والمفكّرون من هذه الخصيصة للمعرفة في تصنيفها , وتنظيم بنيتها ؛ كي يسهل الإفادة منها , وقد توصّلوا بذلك إلى نوعين من التنظيم لمفرداتها :
الأوّل : واهتمّ بتصنيفها بحسب موضوعها وفق مجالات , كالعلوم الإنسانيّة ( اللغات , الفنون الجميلة ) , والعلوم الاجتماعيّة ( التاريخ , الجغرافية , علم الاجتماع , علم الاقتصاد , علم النفس ) , والعلوم الطبيعيّة ( علم الحيوان , علم النبات , الفيزياء , الكيمياء , الجيولوجيا ) , والعلوم الرياضيّة ( الحساب , الجبر , الهندسة , الإحصاء ) ..
الثاني : واهتمّ بتنظيم المعارف , وفق درجة تجريدها , وهي كما يأتي :
1_الحقائق Facts, وهي أدنى درجات هذا المستوى , و تدلّ على معارف بسيطة محسوسة غالباً , لا يختلف عليها اثنان , مثل ( أسماء البلدان , مكوّنات أو أجزاء الجسم , أسماء الأشياء ...إلخ ), ويصعب إحصاء الحقائق لكثرتها .
2_المفاهيم Concepts, وهي تجريد لمجموعة حقائق بينها رابط , مثل : الحريّة , المواطنة , الطاقة , الإنسان , وهذا لا يعني أنّ المفاهيم كافّة تقع ضمن مستوى واحد , فبعضها أكثر شمولاً واتّساعاً من بعضها الآخر , فكلمة إنسان مفهوم , وكلمة مخلوق مفهوم , وكلمة رَجل مفهوم , غير أنّ كلمة مخلوق أكثر اتّساعاً من كلمتي إنسان ورَحل , وكلمة رَجل أقلّ اتّساعاً من كلمة إنسان , وهكذا .
3_التعميمات Generalizations , وهي " التي نودّ أن يصل إليها المتعلّم من كلّ درس , فهي تشبه القواعد العامّة , والنتائج المستخلصة " .
وتشتمل التعميمات على القواعد و المبادئ والقوانين والنظريّات , فمن أمثلة القواعد والمبادئ : العدد واحد قاسم مشترك لكلّ الأعداد , الفعل الماضي فعل مبنيّ , ومن أمثلة القوانين : مساحة المربّع = الضلع x الضلع , ومن أمثلة النظريّات : مربع وتر المثلّث = مجموع مربعي الضلعين الأخريين .
ومن المفيد القول إنّ النظريّات أكثر تجريداً من القوانين , وإنّ القوانين أكثر تجريداً من المبادئ والقواعد , وهذا يعني أنّ المبادئ والقواعد أكثر من القوانين , وأنّ القوانين أكثر من النظريّات.
وممّا تقدّم ينبغي على المنهج مراعاة الأمور الآتية :
والسؤال المطروح على القائمين على تنظيم بنية المعرفة في المنهج هو : ما الأمور التي يجب التركيز عليها في المنهج المعاصر ؟ وبمعنى آخر : ما البنية المعرفيّة التي يتوجّب التركيز عليها في المنهج ؟
إنّ الإجابة المنطقيّة عن هذا السؤال ترتبط إلى حدّ بعيد بالواقع المعرفيّ Information Explosion , فسيل الحقائق المعرفيّة المتدفّق لا يمكن إحصاؤه , ولا يمكن لأيّ منهج أن يستوعبه ؛ وهذا يعني التركيز على المستويات الأكثر تجريداً من الحقائق في كلّ مجال معرفيّ , وأعني بها المفاهيم والتعميمات , أو ما أطلق عليها برونر أساسيّات المعرفة , إضافة إلى إكساب المتعلّمين أساليب البحث العلميّ التي تنمّي تفكيرهم من جهة , وتصقل مهاراتهم , وتجعلهم يعودون – بحسب الحاجة – إلى المصادر والمراجع المختلفة التي تغصّ بالحقائق المعرفيّة من جهة ثانية , ويكتشفون بأنفسهم البنية التكامليّة للمعرفة .
وخلاصة القول : إنّ على واضعي المنهج مراعاة التوجّهات العالميّة المعاصرة في بناء المنهج والمتمثّلة بـ :
" 1- التركيز على أساسيّات البنية المعرفيّة , تضميناً في المنهج , وتدريساً في قاعة الصفّ .
2_ تدريس مهارات البحث العلميّ جنباً إلى جنب مع تدريس بنية المعرفة في مجالاتها المتعدّدة .
3_ تعليم التفكير كونه سمة إنسانيّة فريدة تجعل المتعلّمين أكثر استقلالاً وابتكاراً وإنتاجاً .
4_نشر المعرفة المهنيّة والفنّيّة بوصفها أكثر المعارف ملاءمة لروح العصر , وثقافة المجتمع .
5 _جعل معيار التفوّق امتلاك المهارات واستخدامها , بدلاً من حفظ المعلومات , واسترجاعها ."
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق