الخميس، 29 أكتوبر 2015
محاضرة أنماط العصبية و أشكالها في المجتمعات القبائلية :
استكمالاً للصورة العامة التي رسمها " ابن خلدون" للعصبية نحب أن نحدد معاً أشكالها و أنماط على الوجه التالي .
أولاً – عصبية ذوي الارحام " العائلة أو الدموية " :
ويقصد بها عصبية الوحدات الاجتماعية الصغيرة كالأسرة و العائلة و البدنة و الفخذ و الرهط و الفصيلة حيث يتضامن من جميع أفراد هذه الوحدات معاً حيث يستنصر بعضهم للبعض أو بالبعض الآخر إن غنماً , فضلاً عن تعاونهم جميعاً لرعاية مصالح وحداتهم القرابية و الدفاع عنها وعن سمعتها وشرفها و اعتبار ذلك ذودا عن الحمى أي حماية للدين و المال و الولد و العرض و الوطن .
ويمكن أن يستدل على مدى قوة و فاعلية عصبية ذوي الارحام و الحرص على رعايتها من قول الله تعالى : ( و أنذر عشيرتك الاقربين , واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين , فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) .
وليس معنى هذا أن الاسلام كان يحض على إنما هذه العصبية بل العكس هو الصحيح حيث حارب الاسلام المغالاة في تمجيد العصبية بشكل عام ودعاً الى أن تحل وحدة الاسلام و العقيدة محل وحدة العصبية من ذوي القربى ففي سورة الانعام مثلاً دعا القرآن الكريم الى العدل و الحكم بالقسط بين الناس حتى ولو كانوا من ذوي القرابى حيث قال الله تبارك وتعالى : ( و إذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) " الانعام 152 " . وبلغ من شدة محاربة الاسلام للعصبية أن عوتب النبي صل الله عليه وسلم و المسلمون عندما استغفروا لذوي قرباهم الذي قرباهم الذين توفوا وهم على شركهم حيث نزلت ضمن سورة التوبة آية تؤكد أنه : ( ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) " التوبة 113 " .
الوظائف التي تؤديها عصبية ذوي الارحام :
المهم أن عصبية ذوي الارحام تؤدي عدة وظائف في المجتمعات القبائلية البدوية لعل من أهمها :
1- المدافعة و المناصرة ضد العدو أو الخطر المشترك .
2- التعاون و التكاتف سواء لتحقيق المصالح الخاصة أو العامة و إن كانت المصالح و الاهداف ذات الصبغة العامة أو الجماعة لها الاولوية على ما عاداهما من مصالح و أهداف .
3- دفع الثأر وطلبه وفقاً للاعراف و التقاليد البدوية حيث يكون كل واجد منهم مطالباً أو طالباً و مطلوباً للثأر في نفس الوقت حيث عليه أن يأخذ بثأر من قتل من ذوي رحمه أخاه كان أو أباه أو عمه أو ابنه ...الخ وعليه أيضاً أن يكون مستعداً أ مهيئاً للقصاص منه إن كان واحداً من ذوي رحمه قتل شخصاً آخر ولم يتفق الطرفان على دية تدفع لولى الدم .
ولو أخذنا المثال من البداوة العربية لتبين لنا أن الدية كما جرت بها التقاليد و الاعراف العربية مدفوعة أو مأخوذة تكون من واجب وحق الرجال من ذوي الارحام . وتسمى " العقل " فإذا ما تم الصلح بين أهل القاتل و أهل القتيل على دفع الدية بعد تحديدها كما ونوعاً وفقاً لما تقضي به الاعراف و التقاليد البدوية و إذا ما تم الاتفاق على قبول الدية بتعاون أهل القاتل في جمعها ودفعها لأهل القتيل بينما يقوم أهل القتيل بتوزيع دية قتيلهم على من كان سيدفع الدية لو كان الثأر مطلوباً منهم أصلاً .
هذا ولقد أقر الاسلام الثأر وسماه القصاص ولكن وفقاً لشروط خاصة حيث وردت في سورة الاسراء آية تقول : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً ) " الاسراء 23 " و المقصود بالولي هنا هو صاحب الثأر أو الدم وهو أحد ذوي أرحام القتيل .
4- البر بالضعفاء و غير القادرين من ذوي الارحام و العناية بهم ولقد حض على ذلك القرآن الكريم في أكثر من آية حيث جاء في سورة النحل : ( إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى ) " النحل 90 " وجاء في سورة الانفال : ( و الذين آمنوا من بعد و هاجروا و جاهدوا معكم فأولئك منكم و أولوا الأرحام بعضهم أولى بعض ) " الانفال 75 " كما جاء في سورة النساء : ( و إذا حضر القسمة أولوا القربى و اليتامى و المساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً ) " النساء 8 " .
ثانياً – العصبية القبائلية أو العشائرية :
المقصود بالعصبية القبائلية أو العصبية العشائرية : تلك الرابطة التي تجمع كل أبناء القبيلة على أساس من الولاء لها أينما كانوا وفي كل وقت وبحيث نجد أن ولاء البدوي يكون دوماً لقبيلته بصرف النظر عن المكان الذي يتواجد هو أو توجد عشيرته فيه فالبدوي يتباهى أولا بأنه من قبيلة كذا لا من بلد كذا ويمتد معه هذا الانتماء حتى ولو بلغ بعده المكاني عن قبيلته آلاف الاميال . ومن أبرز المظاهر الاجتماعية لعصبية القبيلة أو العشيرة أن يتضامن كل أفرادها كوحدة تجاه العشائر أو الوحدات القبائلية الاخرى ويبرز ذلك التضامن أثناء الازمات و الحروب حيث يهب الكل لرد أي عدوان يقع سواء على القبيلة ذاتها أو على أحد مكوناتها حيث يعتبر كل واحد من أعضاء القبيلة إن العدوان الذي يقع أو يلحق بأي فرد من أفراد العشيرة أو القبيلة أنما هو عدوان واقع عليه شخصية ويصبح من واجبه أن يرد العدوان بل ويجب عليه أيضاً أن ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً ولو كان بينهما غضاضة .
كما أن عصبية القبيلة أو العشيرة توحد بين مختلف المشاعر و الاحاسيس لكل أبناء القبيلة وتجمعهم حول أداء مسئولياتهم المشتركة إن غنماً و إن غرماً .
ثالثاً – عصبية التحالف أو عصبية الاحزاب :
وهذا النمط كما هو واضح من الاسم يمثل عصبية دخيلة أو هي بتعبير أدق عصبية مصلحة حيث تجد قبيلتان أو أكثر أن من مصلحتهما أن تحددا معاً لمواجهة موقف طارئ لا قبل أو لا قدرة لإحداهما أن تواجه ذلك الخطر أو العدوان بمفردها لذلك تتعاهد القبيلتان وفق ميثاق خاص على أن تناصر كل منهما الاخرى و أن تقف معها صفا واحدا ضد العدو المشترك .
ومن هنا فإن ذلك التحالف أو التحزب يؤدي نفس الوظائف التي تؤديها عصبية القبيلة أو العشيرة في غالبية الاحوال كمسائل أو مورد رد العدوان و الثأر وما إليهما وقد يستمر ذلك التحالف أو التحزب لفترات طويلة قد تمتد لعدة أجيال وبحيث لا يمكن فضه إلا بناء على أسباب قوية .
رابعاً – عصبية الولاء :
الولاء معناه أن يدخل شخصين أو جماعة ما في معية شخص أخر أو جماعة أخرى , وهنا يصبح من دخل في معية أو ولاية غيره يصبح " مولي "له كما تصبح الجماعة " مولى " لغيرها من الجماعات البدوية مهما كان حجمها.
ولعصبية " الولاء " قواعد خاصة وترتكز تلك القواعد – أساساً على الرغبة و القبول , الرغبة من الفرد أو الجماعة الطالبة في أن تكون من موالي فرد أو جماعة أخرى و القبول من الفرد أو الجماعة الاخرى لأن يتولى ذلك الفرد أو الجماعة أحد الابناء أو الاعضاء الاصليين لجماعته الجديدة لدرجة أن المولى ووليه كان كل منهما – وفقاً لما تقضي به التقاليد و الاعراف البدوية العربية – كان يرث صاحبه بمقدار السدس في البداوة العربية زمن الجاهلية وحتى صدر الاسلام .
المهم أن عصبية الولاء هذه تكتسب عن طريقين :
أولهما : الرغبة و القبول بمعنى أن يدخل فرد أو جماعة في ولاية فرد أو جماعة أخرى برضى وقبول كل من الطرفين وعلى النحو السابق لنا ذكره.
أما الطريق الثاني لعصبية الولاء فيتمثل في التبني أي أن يكون الواحد مولى للآخر بالتبني وخصوصاً أذا ما كان المتنبي مجهول الاب ولقد شجب الاسلام التبني حيث ورد قوله تعالى في سورة الاحزاب : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) " الاحزاب 5 " .
وقد كان الولاء يعتمد عند قيامه لدى البداوة العربية القديمة على عهد أو ميثاق معين يشهد الملأ ومن المتواتر في كتب السير أن الرغبة و القبول بين من يريد أن يكون في معية آخر تتم على أساس أن يقول كل منهما لصاحبه :" دمك , وهدمي هدمك , وثأري ثأرك وحربي حربك , وسلمى سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي و أطلب ديتك , وطبعاً ليس المولى في النص يعني عبداً أو رقيقاً أو أعجمياً .
خامساً – عصبية الاجارة أو الحماية :
وترتكز هذه العصبية أساساً على أن يطلب شخص أو جماعة ما أن تكون في حماية شخص أو جماعة أخرى تدفع عنه أو عنهم ظلماً أو عدوانا وقع أو هو وشيك الوقوع وعلى المستجير أو طالب الحماية – فرداً كان أو جماعة - أن يلجأ إلى مجيره و إن قبل الاخير ذلك فعلية أن يلعنه على الملأ ليكون الجميع على علم به وساعتها يعتبر المجار و كأنه واحد من أهل بيت المجير له منه الحماية و الامان ضد من يحاول النيل منه أو إيذاءاه في نفسه أو في ماله . هذا وتخضع عصبية الاجارة لعدة اعتبارات منها أن يعلن المستجير أسم الشخص أو القبيلة المستجار منها : حتى لا يورط مجيره ويجعله يصطدم بقوة لا قبل له بها وعلى المستجير أيضاً أن يلزم الاعراف و التقاليد المرعبة لمن أجاره وعلى المجير كذلك أن يوفر مختلف الضمانات اللازمة لحماية من استجار به حتى ولو دفع في سبيل ذلك حياته .
هذا ويظل الجوار ساريا حتى بريئاً من المستجير وغير مسئول عن أية أضرار تقع عليه .
وما ورد في سورة التوبة إنما يحض على عصبية الاجارة حتى مع المخالفين في ذلك ولو كانوا محاربين لله ورسوله حيث قال تعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) " التوبة 6 " .
سادساً : عصبية التراث :
عصبية التراث أو عصبية التقاليد عصبية معنوية أي انها لا ترتكز على التعصب في أي صورة من صور التعصب التي أشرنا إليها سواء كان ذلك التعصب تعصباً لذوي الارحام أو لأبناء العمومة أو الخئولة أو حتى للقبيلة أو لمتحالف أو متحزب أو لولى أو لمستجير و إنما هي تعصب للتراث ..لقديم لكل ما ترمه الآباء و الاجداد . للتقاليد و للأعراف لنماذج السلوك المرعية عند البدو منذ القدم لشيء غير موجود بكيانه المادي ولكنه متغلغل في ضمير ووجدان المجتمعات البدوية وتتمثل فيه فضائل المجتمع وكل مثله العليا وليس المهم أن تكون تلك المثل صالحة أو طالحة , ولكن المهم أنها ما وجدوا عليه آباءهم ولقد جاء في القرآن الكريم ما يؤكد وجود هذا النوع من العصبية من خلال عدة آيات فقد جاء في سورة البقرة قول الله تعالى : ( و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ) " البقرة 170 " كما جاء في سورة الاعراف قوله تبارك وتعالى " و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ولله أمرنا بها " "الاعراف 28 " كما ورد في سورة الزخرف قوله سبحانه تعالى ( إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون )" الزخف 23 " وجاء في سورة لقمان قوله تعالى ( و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) " لقمان 31" .
إذن عصبية التراث لم التصبح دينا واجب التقديس و الأداء فقط بل صارت أيضاً عقيدة ودينا واجب الاتباع أيضاً .
سابعاً – عصبية الدين أو العقيدة :
وهذا النمط من العصبية يرتكز اصلاً على اسس وقواعد مستمدة من روح الدين ولقد حض الدين الاسلامي على عصبية الدين ودعاً لأن تكون هي البديل المرغوب أو الشرعي لأنماط العصبيات الاخرى .
ودعاً الاسلام كذلك المجتمع الاسلامي الى التضامن العضوي بين جميع المسلمين أعضاء ذلك المجتمع دعاهم الى التوحد التام أمام مواجهة مختلف الظروف التي تعرض للمجتمع الاسلامي لدرجة أن الاسلام حث المسلم ودعاه الى أن يشد أزر أخية المسلم ويعضده بحيث يكون المسلم للمسلم وبه ومعه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً كما جاء في الحديث النبوي الشريف . كما حرض الاسلام من خلال أحاديث نبي الاسلام صل الله عليه وسلم الجماعة المسلمة و المجتمع المسلم الى التآزر و التناصر و التضامن و التوحد في غير صراع أو غل ليتحقق للجميع و بالجميع مجتمع أشبه ما يكون بالصورة التي عرفها رسول الله صل الله عليه وسلم ,أمة الاسلام واعتبر المجتمع المسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر و الحمى .
هذا ومن ابرز خصائص الدين ما تشيعه – تلك العصبية – في المجتمع الاسلامي من تكافل وتواد وتراحم وحمية وغيرة على الدين و العرض و الوطن تصل الى حد الاستشهاد .
ثامناً – العصبية الطوطمية :
العصبية الطوطمية ذات أساس ديني وقرابي في نفس الوقت , أساس قرابي لا عتقاد أعضاء الجماعة الطوطمية أنهم جميعاً ينتسبون الى أب واحد هو الطوطم الذي يحملون أسمه كما تسري روح ذلك الطوطم في جسد كل واحد من أعضاء الجماعة الطوطمية وتجعله ابنا أو أخا أو أبا أو جددا أو عما أو خالا أو حتى حفيدا .
ومن الطبيعي أن تكون أبوة الطوطم أبوة غير فيزيقية و إن كانت تلك الابوة نفس آثاره الفيزيقية سواء بالنسبة لتحريم الزواج أو غيره من العلاقات الاجتماعية الاخرى .أما عن الاساس الديني للعصبية الطوطمية فذلك راجع لاعتبار أن طوطم يمثل إله الجماعة ومعبودها و لا يجوز أن تدنس روحه بعلاقة جنسية بين عباده حتى ولو كانت تلك العلاقة علاقة زواج .
المهم أن العصبية الطوطمية لها نفس خصائص وسمات العصبية " الرحمية" تقريباً و التي سبق أن تحدثنا عنها قبلا من حيث أنها – أي العصبية الطوطمية – تجعل كل اعضاء الجماعة أو الجماعات الطوطمية تتعاون تلقائياً و إجباراً في تسيير مختلف المصالح الاقتصادية وكذلك المشاركة في مختلف المناسبات و الاحتفالات العامة ..الخ .
تاسعاً – عصبية الدم و عصبية الطبقة :
عصبية الدم أو " أخوة" الدم معروفة لدى عدد من العشائر و الجماعات البدوية , وقد تحدثنا عنها قبلاً بالتفصيل هي وعصبية الطبقة ضمن حديثنا عن " الازاندي و النوير " في غير هذا المكان .
عاشراً – رأي في العصبية :
خلاصة القول أن " العصبية " حالة تمثل أو تعتبر قمة التعصب و الولاء الطوعي أو الاختياري أحياناً و الجبري أو القسري في أحيان كثيرة من الفرد البدوي أو الجماعة و أية وحدة بنائية بدوية قبل أفراد وجماعات أو عشائر بدوية قرابية على الاطلاق و إنما ينهض على أمور ثقافية معنوية كعصبية التراث وما إليها . ومن البديهي ألا تكون تلك العصبية بمختلف أنماطها قد قامت في فراغ أو من فراغ وبغير هدف و إنما هي نشأت كحالة مواءمة بين البدو وبين مختلف الظروف المحيطة بهم بما يضمن لهم في النهاية الأمن و الحماية و الاستمرار .
ومن هنا كان اعتبار كثير من الباحثين للعصبية أنها بمثابة الروح أو هي نوع من الوطنية المتطرفة في العصر الحديث أو هي نوع من التفاني الجبري أو الاختياري الطوعي تذوب فيه شخصية الفرد البدوي في شصية عشيرته أو قبيلته حيث يستمد منها كل مقومات الحياة و المجد و الفخر و الأمن و الأمان و العون ويصبح بدونها كماً مهملاً بغير حام ولا نصير .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق